تابعنا
لدى كل جيل أبطاله من الرياضيين، فيتجاوز بعضهم الرياضة التي اشتهروا بها ويستخدمون منصاتهم لعمل الخير الذي يكون أكبر بكثير منهم.

وبالنظر إلى أنه مجتمعٌ مضطهدٌ عالمياً يتعرض للسب والإهانات عند كل منعطفٍ من جانب الساسة ووسائل الإعلام الرئيسية في بلاد الغرب وفي أماكن أخرى، يجد المسلمون غالباً سلواناً وشعوراً بالمشاركة في مجد أساطير الرياضة الذين يتشاركون معهم في المعتقد، واستطاعوا برغم الصعاب أن يجبروا الوعي الجماهيري على الاعتراف بهم وبجهودهم والاعتراف بأنهم مسلمون بكل وضوح.

في عالم اليوم، ربما ليس هناك رياضي آخر يجسد المُثل الإسلامية للتقوى والتواضع وإتقان المرء عمله، أكثر من أسطورة الفنون القتالية المختلطة، حبيب "الصقر" نورمحمدوف.

في 24 أكتوبر/تشرين الأول، أثبت مرة أخرى أنه المقاتل الأكثر هيمنة داخل قفص القتال، بعد أن هزم أفضل منافسيه جاستن غايتجي، ليصل سجله الخالي من الهزائم إلى 29 فوزاً.

والآن صار على بعد خطوة للوفاء بخطة أبيه لأن يصير مقاتل فنون قتالية مختلطة لا يضاهى بسجل 30 فوزاً متواصلاً بلا هزيمة لولا اعتزاله المفاجئ. وهو رياضي يعجب به جميع المسلمين لشجاعته وسلوكه داخل وخارج القفص. إنه كذلك بطل من طراز كان سيفخر أبوه الراحل ومدربه عبد المناف نورمحمدوف أن يقول إنه ابنه.

تنفيذ خطة عبد المناف

ترعرع حبيب، الذي وُلد في المناخات الجبلية الوعرة لمنطقة داغستان في روسيا، منذ ولادته من أجل أن يصبح مقاتلاً، وليس ببساطة مجرد مقاتل محترف. على مدى مسيرته الاحترافية، كان أبوه بجانبه، يرشده إلى طريق النجاح حتى عندما حُرم من الحصول على تأشيرات لمؤازرة ابنه في مباريات بطولة القتال النهائي UFC في الولايات المتحدة.

عادةً ما برزت العقيدة الإسلامية لعبد المناف خلال جميع مقابلاته، وسار ابنه في نهاية المطاف على نفس الطريق، وكان كذلك لديه إيمان في التدريب الذي يقدمه لابنه لمعرفته بأنه سيصل إلى القمة.

وللأسف، نتيجة جائحة فيروس كوروناد، أُصيب عبد المناف بالمرض ومات عن عمر 57 عاماً في يوليو/تموز. كان قتال الـ24 من أكتوبر/تشرين الأول المباراة الأولى التي يخوضها حبيب بدون الشعور بالطمأنينة لوجود إرشاد وحكمة أبيه بجانبه.

ومع ذلك، أظهر بطل الوزن الخفيف معدنه وأثبت أنه تشبع بدروس أبيه العظيم الراحل، وأنه سيواصل تكريم ذكراه عن طريق النجاح في جميع المستويات العليا من خلال ترسيخ إرث رياضي داخل وخارج قفص القتال.

ولا تخفى مفاتيح نجاح حبيب على أحد. إذ إن كل مقاتل خاض قتال ضده عرف جيداً مقدماً ما الذي كان سيفعله، ومع ذلك ظل جميعهم غير قادرين على منعه من تنفيذ معادلة عبد المناف المجربة والمُختَبَرَة القائمة على العمل الشاق، والانضباط، والتميز الفني، والقناعات الروحية.

يعد النظام التدريبي لحبيب صارماً بشكل أسطوري، إذ يجمع بين الصلابة المطلقة التي تشتهر بها شعوب القوقاز وبين التميز الفني الذي نُقل إليه عبر إجادة أبيه فنون السامبو القتالية، بجانب الحفاظ على قوته العقلية والروحية عن طريق إيجاد الراحة والقوة في الإسلام.

فقد اشتهر بأنه كان يصارع دباً في طفولته، ويسبح ضد التيارات القوية للأنهار الثلجية، ويقاتل صفوة زملائه في التدريب حتى يصيروا هم، وليس هو، مرهقين ولا يستطيعوا الاستمرار. وبحسب ما قاله عبد المناف عن ابنه من قبل: "أي طفل يريد دائماً أن يري أباه ما يستطيع ابنه القيام به"؛ كي يثبت قوة شخصيته.

قضى الصقر القوقازي حياته كلها لتكريم رسالة والده، وليظهر ما كان قادراً على القيام به، وليهزم أفضل من أتى بهم العالم. ولا يقتصر الأمر على هيمنته على البطولات العالمية في فنون السامبو لعامين متتاليين في بدايات العقد الثالث من عمره، بل وقاتل كذلك ضد بعض من أقسى المقاتلين في العالم في منافسات الفنون القتالية المختلطة، ليصير بطل العالم في الوزن الخفيف في أبريل/نيسان 2018، بعد هزيمة آل ياكوينتا، الشهير بـRaging (الغاضب)، وهو مقاتل شرس وقاسٍ للغاية من نيويورك. ومنذ ذلك الحين، دافع عن لقبه ثلاث مرات، ليكون غايتجي آخر من هزمهم.

والجدير بالذكر، أنه دافع عن لقبه من قبل ضد النجم الذميم كونور ماكغريغور، الذي قضى أغلب أوقات عام 2018 يوجه إهانات لوالد حبيب وزوجته ودينه، لينتهي الحال بتحطيمه على يد البطل الداغستاني، ومرة أخرى فاز في مباراة أكثر احتراماً لكنها حاسمة كذلك، ضد داستن بويرير في عام 2019.

كانت خطة عبد المناف لحبيب ترمي إلى الوصول إلى 30 انتصاراً بلا هزائم قبل التقاعد. وفقاً لكل الحسابات، يبدو أن المقاتل الداغستاني على بعد خطوة واحدة من الوفاء بحلم أبيه لولا أنه اعتزل القتال تكرمة لطلب والدته منه التي قالت له "إنك لا تستطيع الاستمرار بالقتال بعد وفاة أبيك".

مسلم لا يخجل من دينه في عالم ينتشر فيه رهاب الإسلام

لكن ما يجعل حبيب مميزاً للغاية ليس أداءه الاحترافي في القفص وسلوكه خارجه فحسب، بل وكذلك تأثيره على قاعدة جمهوره وقدرته على تصوير المسلمين المتدينين على نحو فعال، بوصفهم أشخاصاً ملتزمين ومجتهدين وناجحين.

جدير بالذكر أن حبيب يبعد نفسه دوماً عن الشؤون السياسية. على عكس أسطورة الملاكمة محمد علي، الذي هيمن كلياً على منافسات الوزن الثقيل في الستينيات والسبعينيات، اختار حبيب نهجاً أكثر انضباطاً.

ولما كان من بواكير أعمدة حركة الحقوق المدنية لأصحاب البشرة السمراء في أمريكا، اشتهر محمد علي برفض الانضمام إلى الجيش الأمريكي لقتال الجبهة الوطنية لتحرير جنوب فيتنام (الفيت كونغ) في فيتنام، وأعلن صراحةً في عام 1967 أن الفيت كونغ "لم يصفوني قط بـ "الزنجي".

أُدين محمد علي بالتهرب من التجنيد، وحُرم من الحصول على رخصة للمنافسة في الولايات المتحدة، وجُرد من لقب بطولة الوزن الثقيل، ولم يخُض مباريات حتى عام 1971، مما سرق 4 سنوات من سجلٍ طويلٍ محتملٍ من الهيمنة على قمة "العلم الحلو"، وهو الاسم المحبب الذي تشتهر به رياضة الملاكمة.

ومع ذلك، قلب الملاكم "الأعظم" الطاولة على الإدانة الجائرة، وعاد ليرسخ نفسه بوصفه أحد أنجح الملاكمين في التاريخ وأكثرهم تأثيراً بمواقفه وخطابه الصريح.

ومن المثير للاهتمام أن حبيب أجرى مقابلة مؤخراً فيما يتعلق بتأثيره الشخصي في المجتمع وما إذا كان النظير المعاصر لمحمد علي، بطل الشعب. بل وفي مضرب مثلٍ على المقاتل المسلم المتواضع، رفض الصقر مقارنته بمحمد علي، مستشهداً بالاضطهاد الذي عانى منه الأمريكيون أصحاب البشرة السمراء في العصر الذي كان يؤسس فيه محمد علي أسطورته، وقال: "كي أتمكن من مقارنة نفسي به، أحتاج إلى العودة إلى هذه السنوات وأن أصير ذا بشرة سوداء وبطلاً. وبعد ذلك، يمكننا مشاهدة كيف كنت سأتصرف في مثل هذا الموقف".

وبينما لا يمكن مقارنة صمت حبيب السياسي بدفاع محمد علي الجسور عن خلفيته العرقية والدينية، نعيش الآن بطريقة مأساوية في عصر يُنظر فيه إلى المسلمين على أنهم تهديد للأمن القومي لتجرؤهم على إظهار أنهم مسلمون، سواء عبر النساء اللواتي يرتدين الحجاب أو الرجال الذين يعفون لحاهم. إنهم يُضطهدون في جميع أنحاء العالم، سواء في كشمير المحتلة من الهند، أو أقلية الروهينغيا في ميانمار، أو السكان المسلمين من الأويغور والهوي في الصين، أو حتى في قلب العالم الغربي العلماني، حيث يغازل الساسة الفرنسيون من مختلف الانتماءات السياسية، بمن فيهم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، أصوات الناخبين الذين يعانون من رهاب الإسلام عن طريق تصريحات تحض على كراهية الأجانب والسخرية من المجتمع الإسلامي بأكمله بسبب أفعال أقلية متطرفة.

مع السير على هذا الطريق، تأتي خطابات حبيب العامة أمام عشرات الملايين حول العالم، التي يقول فيها "الحمد لله" و "إن شاء الله"، ويشير إلى أن نجاحه لا يأتي إلا بتوفيق الله، وكل هذا وهو يرتدي قبعته القوقازية "باباخا"، ما يشير إلى أن إرثه الأواري القوقازي المسلم يرسل رسالة قوية ومؤثرة.

بوجود حبيب الملتحي مرتدياً زيه الداغستاني التقليدي، ومُعظِّماً ربه، ومُشبَّعاً بإيمان ديني راسخ يلهب حماسته في التدريبات، ومحققاً أعلى درجات النجاح في بيئة تهيمن عليها زخارف الحياة الغربية، بدءاً من التباهي مثلما يفعل ماكغريغور مع ثروته ومروراً بفتيات الحلبة شبه العاريات لضمان بيع وليمة بصرية مهينة من الجنس إلى قاعدة جماهيرية كبيرة من الذكور - فإنه يرسل رسالة قوية ومؤثرة بذلك.

يتسامى حبيب فوق كل هذا، فيغض بصره ويكرس نفسه لإتقان عمله، مثلما تأمر التعاليم الإسلامية.

هذا النموذج من البطل المسلم الصادق مع عقيدته ومبادئه، وبأعلى سمات طاعة الوالدين، هو الذي يجبر الناس على احترام المسلمين من أجل ما هم عليه. ويقدم كذلك إلهاماً للشباب المسلمين حول العالم، الذين يشعرون أنهم قابعون تحت الحصار بسبب هويتهم، لكنهم الآن يستطيعون أن ينظروا إلى حبيب ويشعروا بالفخر لأنهم مسلمون بلا أي خجل، وفي الوقت ذاته يستهدفون الوصول إلى أعلى درجات النجاح في مجالاتهم.

من أجل هذا وحده، يتجاوز تأثير حبيب الرياضةَ التي يمارسها، وإنني على يقين من أن عبد المناف لو كان حياً اليوم، لحمد الله على نعمة ولده الذي حمل اسمه في الحياة، والآن في مماته.

جميع المقالات المنشورة تعبِر عن رأي كُتَابها ولا تعبِر بالضرورة عن TRT عربي.

تأتي خطابات حبيب العامة أمام عشرات الملايين حول العالم، التي يقول فيها "الحمد لله" و "إن شاء الله"، ويشير إلى أن نجاحه لا يأتي إلا بتوفيق الله (AA)
ما يجعل حبيب مميزاً ليس أداءه الاحترافي في القفص وسلوكه خارجه فحسب، بل وكذلك تأثيره على قاعدة جمهوره وقدرته على تصوير المسلمين المتدينين على نحو فعال (AA)
TRT عربي
الأكثر تداولاً