تابعنا
اختفاء الكاتب والصحافي جمال خاشقجي يؤشر على شيء جديد في العالم العربي، ليس فقط لما تواتر عنه من حملة إعلامية دولية وتحركات دبلوماسية، ولكن بالأساس في تحديد العلاقة بين الحاكم والمحكوم، والضوابط التي ينبغي أن تقوم بينهما، وبالأخص في الأنظمة الملكية.

كنت منغمساً في رصد مسار تشكُّل الحرية كقيمة في أوروبا، وبخاصة في بريطانيا في القرن السابع عشر، حينما تصدَّرت وسائل الإعلام العالمية خبر اختطاف الصحافي جمال خاشقجي، ثم ما تلاها من تأكيدات حول مقتله.

كنت حينها أسعى إلى فهم ما اعتمل في العالم العربي قبل زهاء ثماني سنوات، ومحاولة الإحاطة بمطالب الحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة، تلك التي رفعتها الجماهير، وجأرت بها حناجرهم، في مختلف العواصم والمدن العربية. من أجل ذلك أعتكفت على دراسة المسار الذي انتظم في أوروبا ضد أنظمة مطلقة، تسوس شعوبها باسم الحق الإلهي، و"فِعل الأمير" مما يتعارض مع السيادة الشعبية، وسيادة القانون، وتنتفي فيه الحرية الفكرية والسياسية والعقدية.

كنت أنطلق من فكرة بسيطة، وهي أن حاضر العالم العربي، من حيث المرجعية السياسية والعلاقة بين الحاكم والمحكوم، هو ماضي أوروبا، في الحالة التي تشبه بالأخص المرحلة المعروفة في فرنسا بالنظام القديم، والتي يرمز لها لويس الرابع عشر صاحب المقولة المأثورة "الدولة أنا". والحكم المطلق في بريطانيا مع أسرة "إستواريت" مما أفضى في نهاية المطالف إلى تمرد كرومويل، وقتل الملك المستبد شارل الأول. إلاّ أن عهد كرومويل، رغم الآمال التي حملها أول الأمر تحول إلى حكم ديكتاتوري، مما أفضى إلى عودة الملكية المطلقة مع شارل الثاني واستئثاره بالحكم.

يعلمنا تاريخ أوروبا أن الفكر المسنود بحركة شعبية هو الذي هدّ أركان الحكم المطلق.

حسن أوريد

كانت فترة شارل الثاني في بريطانيا ترمز إلى ما يمكن أن نسميه بالثورة المضادة، وبروز قوى موازية توارت لفترة، ثم عادت بقوة، وسعت أن ترسخ شرعيتها في صيغ مُنقحة للحق الإلهي. يشبه التطور الذي عرفته بريطانيا في القرن السابع عشر ما يعيشه العالم العربي بعد انتكاسة "الربيع العربي" واستئساد الأنظمة الاستبدادية، وسعيها أن ترسخ شرعيتها على أنقاض انتكاسة "الربيع العربي".

عودة الحكم المطلق في بريطانيا، في القرن السابع عشر، أفرز دينامية جديدة مضادة، اعتمدت على مبدأ الفكر في مواجهة قوة الحكم المطلق، الذي يوظف الدين في خدمة مصالحه. كان من قرابينها السياسية السيد أليجرون سيدني زعيم "حزب الويغ: الذي حكم عليه زبانية شارل الثاني بالقتل فجُذَّ رأسه. كان صديقاً لمفكر سوف يكون له تأثير كبير لاحقاً، ويعتبر مُنظّر قيمة الحرية بلا منازع، وهو جون لوك. ارتحل جون لوك بعيداً عن بريطانيا ليفر بجلده من بطش الحاكم، واستقر في هولندا التي كنت تنعم بحرية نسبية آنذاك.

فِكْر لوك ومسار حياته يُسْعِفنا في فهم الحرية، وهي القيمة التي لا تستوي إلا في موقف مناهض  للسلطة السياسية المطلقة، وإمكانية الاعتراض عليها، بل مقاومتها والوقوف ضدها. وأما العنصر الثاني الملازم للحرية، فهو الوقوف ضد نظرة نمطية للدين، أو فهم أحادي له، ولذلك كان الرديفُ الفكري لصرح الحرية، كما أرساه لوك، هو التسامح الديني.

الأنظمة الاستبدادية لا تتورع عن استخدام الأساليب الدنيئة من التقتيل والتمثيل بمعارضيها، والتضييق على من يخالفها العقيدة، أو التسفيه له. والمعركة في هذه الحالة تخاض على أرضية الفكر. يعلمنا تاريخ أوروبا أن الفكر المسنود بحركة شعبية هو الذي هدّ أركان الحكم المطلق.

لن يحدث التغيير من دون استماتة من لدن أصحاب الفكر والرأي، ولن يحدث من دون أولئك الذين يحملون قيمة الحرية ويدفعون من أجلها الثمن الغالي.

حسن أوريد

اختفاء الكاتب والصحافي جمال خاشقجي يؤشر على شيء جديد في العالم العربي، ليس فقط لما تواتر عنه من حملة إعلامية دولية وتحركات دبلوماسية، ولكن بالأساس في  تحديد العلاقة بين الحاكم والمحكوم، والضوابط التي ينبغي أن تقوم بينهما، وبالأخص في الأنظمة الملكية.

غداة "الربيع العربي" سادت فكرة مفادها أن للأنظمة الملكية قوة على الالتئام أكثر من الجمهوريات، وأن شرعيتها التاريخية، والدينية، تجعلها في منأى عن الهزات، فضلًا عن هوامش نسبية للحرية تسمح بها، وعدم تضييقها على الحركات المعارضة، أو على الأقل ليست بالطريقة الفجة التي كانت تتم بها الأمور في الجمهوريات. لم تعصف أنواء "الربيع العربي" بأي نظام ملكي، وأبانت الأنظمة الملكية على قدرة كبيرة على التكيُّف، واستجابت لكثير من مطالب شعوبها، سواء الاجتماعية أو السياسية. إلا أن انتكاسة "الربيع العربي" جعلتها في حِلٍّ من أي التزام بإصلاح حقيقي، وكان اجتماعها في الرياض في أبريل 2016 اجتماعاً أشبه ما يكون بالتشفي، ونفض اليد من الالتزام بالإصلاح، ونُعت الحراك الشعبي أو "الربيع العربي" بالهجير، وحمَّل الاجتماع ضمنياً المسؤولية لأمريكا ورئيسها السابق بارك أوباما، الذي كان قد وجه انتقاداً للعالم العربي عموماً قبل ذلك بأسبوع واحد في مجلة أتلانتيك ولم يتورع من النَّيل من السعودية ومرجعيتها الوهابية.

نظرت السعودية بعدها إلى انتخاب ترمب نظرة المنقذ من غرق وشيك.  لم يكن الرئيس الأميركي الجديد حاملاً لأجندة سياسية في المنطقة، ولا كان ينظر بعين الرضى للديناميات التي تعتمل في المجتمع العربي، وكان يهمه مقايضة حماية أنظمة الخليج، كما عبَّر عن ذلك بأسوب فج، بالمال الوفير. وفي سبيل ذلك فقد منح ورقة بيضاء لاستعداء قطر، وشنِّ حرب على جار ضعيف، واحتجاز أمراء، وأصحاب رؤوس أموال في فندق، وممارسة ضغوطات عليهم للتنازل عن جزء كبير من ثرواتهم، مما لم يُشهد له مثيل في أي دولة من العالم. وفي هذا السياق أضحى صوت صحافي معارض، رغم نبرته المعتدلة، مزعجاً أمام تنميط إيديولوجي في داخل السعودية، وحملة إعلامية لعلاقات عامة خارجية، وبالأخص في الدول الغربية. وفق هذه النظرة المنمطة والإمكانات المالية الضخمة والمصالح وشبكات العلاقات العامة، كان يُعتقد أنه من السهل تحييد صوت مزعج والخلاص منه.

لن تتقدم الشعوب العربية، وتخرج من وضعية الفقر، والجهل، والتخلف، الذي يطبق عليها من دون الحرية.

حسن أوريد

ولكن التاريخ أخصب من خيالنا مثلما يقال.  فما كان يراه قاتلو خاشقجي حالة عرضية، قد تعقُبها فرقعة إعلامية عابرة ما تلبث أن تذوي، تحوَّل إلى قضية دولية تهز أركان النظام السعودي، وتنسف كل البنيان الذي أقامه من خلال العلاقات العامة، مع الغرب خاصة، وتبعث دينامية جديدة في قوى التغيير، ليس في السعودية وحدها، بل في العالم العربي.

بيد أن هذه الدينامية تحتاج إلى مواكبة. فالتغير  لن يحدث  كرسالة في البريد. لن يحدث من دون استماتة من لدن أصحاب الفكر والرأي، ولن يحدث من دون شبكة لمن يحملون قيمة الحرية، ويدافعون عنها، وقد يؤدون الثمن الغالي من أجلها. لقد أضحى خاشقجي رمزاً لهذا التوجه. ومن أجل إبقاء هذه الشعلة متوهجة، آمل أن تُقام جائزة باسم جمال خاشقجي، كما جائزة ساخروف، تُمنح كل سنة لشخصية فكرية أو أدبية أو سياسية أعْلَت من شأن الحرية، واستماتت في سقي غرسها، وأسهمت بفكرها وإبداعها ونضالها في تحرير مجتمعاتها، التي تنوء تحت وطأته من تضييق واستبداد وتسلط واستئثار بالثروة.

لن تتقدم الشعوب العربية، وتخرج من وضعية الفقر، والجهل، والتخلف، الذي يطبق عليها من دون الحرية. ولن تقوم الحرية مع حكم مطلق، أياً كان شكله، لا يأتمر بقواعد، ولا يخضع للضوابط التي انتهت إليها التجربة الإنسانية، ويستعيض عن ذلك بالتخويف والترويع من جهة، أو شراء الذمم من جهة.

لقد أضحى جمال خاشقجي رمزاً لمطلب الحرية. لا بد من تعهد غرسها. فالاستبداد ليس قدراً إلا على الشعوب التي تستكين له، وترضى به، وتخضع لهذا الذي يُسمى بالاستعباد الطوعي، وذلك حينما تغازل القوى الحية الأوضاع القائمة، أو تجنح للصمت، خشية أو طمعاً، أو تصاب بضعف الذاكرة. وليس هناك شيء أقوى من الرموز من أجل الإبقاء على جذوة الذاكرة.

جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي