من احتجاجات الشعب التونسي ضد قرارات الرئيس قيس سعيد  (Fethi Belaid/AFP)
تابعنا

إذ تعيش البلاد أزمة سياسية متفاقمة منذ حلّ الرئيس قيس سعيّد البرلمان المنتخب في 25 يوليو/تموز 2021 ضمن إجراءات استثنائية، تضمنت أيضاً إقالة الحكومة وتعيين أخرى بديلة وحل مجلس القضاء وإصدار تشريعات بمراسيم قضائية.

أزمة الدستور التونسي في الوقت الحالي تشكل انعطافة تاريخية في تاريخ تونس الحديث، ففي الوقت الذي ينتظر فيه التونسيون أن تطرح المسودة التي صاغتها اللجنة للاستفتاء على الشعب لينجلي بعدها الوضع العام وتنعم تونس باستقرار بعد تقلبات مختلفة، ينذر الحال بأن السحابة السوداء قد يدوم أثرها طويلاً.

سلم رئيس اللجنة الدستورية الصادق بلعيد" المسودة التي عملوا عليها، وكان أكثر ما يميزها التأسيس للتحول من النظام شبه البرلماني الذي كان مُقراً بموجب دستور عام 2014 إلى نظام رئاسي، غير أن التباينات بين المسودة التي خرجت من اللجنة والنسخة الأخيرة منها بعد تعديلات التي أجراها "قيس سعيد"، طرحت على الطاولة نقاشاً حساساً بخصوص الديمقراطية التي ينتظرها الشعب التونسي ومسألة استقلال المؤسسات وعدم القدرة على ارتهانها لأوامر رأس السلطة.

تضمن مشروع الدستور التونسي الجديد، الذي جاء في 142 فصلاً، تمتع الرئيس بصلاحيات أكبر، تجعل منه حاكماً فرداً لا يخضع لمحاسبة أو مساءلة وقادر على إجراء تعديلات وتطبيق تشريعات بمفرده، فوفقاً لتصريحات بلعيد فإن التعديلات الأخيرة خطيرة للغاية وتمنح أعلى هرم في السلطة صلاحيات واسعة بل وتحصنه من المحاسبة والعزل حتى وإن ارتكب خطأً جسيماً مخلاً بالدستور، الأمر الذي نفاه الرئيس التونسي موضحاً أن التعديلات التي أجراها تعبر عن روح الثورة الحقيقية.

وحسب مشروع بلعيد، بإمكان مجلس النوّاب إسقاط الحكومة بلائحة لوم يطرحها ثلث أعضائه وتصادق عليها الأغلبية المطلقة، بينما تُحدّد النسبة في مشروع سعيّد بنصف أعضاء المجلسين لعرضها وثلثي الأعضاء لنجاحها، وفي حال الشغور الدائم لمنصب رئيس الدولة، أحالت النسخة الأولية لمشروع الدستور الصلاحيات إلى رئيس مجلس النوّاب، بينما تؤول إلى رئيس المحكمة الدستورية، في المشروع الثاني الذي نُشر في الجريدة الرسمية، وعلى الرغم من أن تصريحات الرئيس التونسي بأن الدولة شخصية معنوية اعتبارية لا يمكن أن يكون لها دين، وعلى الرغم من إصراره على مدنية الدولة في الفترة التي انقلب فيها على الحكومة السابقة مدعيا الوقوف في وجه من حاول تحويل تونس إلى دولة دينية، فإن النسختين اشترطتا أن يكون المرشح للرئاسة يدين بالدين الإسلامي وفي هذا ما يشي بأن سعيد يكيل بمكيالين وأن الشعارات التي تبناها لتمرير الانقلاب ليست سوى وسيلة للوصول إلى السلطة.

النقطة اللافتة الأخرى أن مشروع الدستور أسقط باب الدستور الخاص بالجانب الاقتصادي وأغفل تحديد نظام الدولة التونسية اقتصادياً، وهي سابقة لم تحدث منذ أول دستور في عام 1861، مما أثار امتعاض المحامين واستغراب بلعيد الذي أكد على أهمية تحديد الهوية الاقتصادية وأنه قدم مقترحات مفيدة حول العمل على حل الأزمة الاقتصادية التي تخنق البلاد.

تعديلات النسخة الأخيرة للدستور أثارت مخاوف السياسيين والحقوقيين لأكثر من سبب، أولها أنه للمرة الأولى في تاريخ البلاد تُعاد صياغة مشروع الدستور وإجراء تعديلات على فقراته وبنوده، دون أن تقوم بذلك اللجنة المنوطة وهذا إجراء ليس دستورياً في حد ذاته وينافي مبدأ المشروعية.

علاوة على أن تلك التعديلات ووفقاً لوجهة نظرهم القانونية مصاغة من طرف الرئيس سعيد شخصياً وهذا ما أكده زملاء وأساتذة له كانوا يدرسون معه القانون الدستوري مبينين أنهم يمتلكون أدلة على أن التعديلات القائمة صيغت بشكل فردي أحادي، وهذا بحد ذاته إن دل على شيء فهو يدل على محاولة تفرد في السلطة أبرز أمثلته ضرب عرض الحائط بالمسودة الدستورية التي صاغتها اللجنة المشكلة وإعادة الصياغة بما يتناسب وعقل الحاكم الفرد.

ليست المرة الأولى التي يصبح فيها الوضع الديمقراطي في تونس مثار خوف ذلك أن الرئيس التونسي كان استحوذ في العام الماضي، على السلطة وحلّ البرلمان وعلّق العمل بالدستور، وبدأ ملاحقات المنتمين للأحزاب ذات المرجعية الدينية مثل حزب النهضة مدعياً الخوف على ربط البلاد بالدين والتأسيس لمرجعيات دينية، قبل أن يطرح خارطة طريق تنطلق بالاستفتاء على دستور جديد للبلاد في نهاية الشهر الجاري تنتهي بإجراء انتخابات برلمانية في ديسمبر/كانون الأول المقبل.

تكون الدساتير عادة هي الضامن لأي شطط خارج إطار القانون واللوائح للأفراد والمؤسسات، غير أن الدستور الأخير بما يحويه من تناقضات وضع تونس في مواجهة أزمة هوية حقيقية في البداية وطرح إشكالية الصراع بين الدين والدولة مجدداً، كما فتح باب الجدال واسعاً للحديث حول مصير الديمقراطية التونسية والتخوف من أن يؤسس سعيد برؤيته تلك لنظام استبداد طويل الأمد.

ما يمكن أن يشكل نقطة استغراب هو عدم وجود رد فعل شعبي من الشعب التونسي حول الجدل الدائر وشكل تونس الجديد، ليبقى النقاش القانوني حول الهوية التونسية ونظامها السياسي والاقتصادي محصوراً بالنخبة السياسية التي لا تضع في أولوياتها تطلعات الشعب ومبادئ ثورته ورغبته في إرساء قواعد لتونس حرة ديمقراطية.

الرئيس التونسي الذي أرسل رسالة إلى رئيس النظام السوري بشار الأسد مع وزير خارجيته فيصل المقداد مشيداً فيها بإنجازاته، وملمحاً إلى أنهما يسيران على الطريق نفسها لدحر قوى الظلام والإرهاب على حد تعبيره، أرسل رسالة مختلفة إلى المواطنين قبل أيام داعياً إياهم إلى الموافقة على قبول الدستور الجديد مطمئناً إياهم بأن ذلك لن يشكل خطراً على الحقوق والحريات.

الرسالتان المتناقضتان في المضمون توحيان بأن سعيد يحاول اللعب على حبال الكلام إذ أقر بأهداف مشتركة بينه وبين الأسد عليهما العمل على تحقيقها، ولا يمكن لمن كان على اطلاع على الوضع السوري ألا يسيئه ذلك الغزل الصريح بين رئيس تونس التي كانت فاتحة الثورات العربية وبين سوريا التي دمرها رئيس نظامها في سبيل البقاء في سدة الحكم، ما يعني أننا قد نكون في انتظار تونس جديدة لا تشبه ما ثار من أجله التونسيون وما خططوا له أو ما كان من المتوقع أن يكون في مستقبلها.

لطالما كانت شهوة السلطة هي المحرك الرئيس لأعتى دكتاتوريات العالم لتكون هي الهدف من وراء العمل السياسي، فيما تصبح مصالح الشعوب وتطلعاتها وأحلامها التي ثارت من أجلها أمراً ثانوياً، لكن هذه السلطة نفسها قد تصبح الفخ الذي يقع فيه المولعون بها، إذ إن الاعتماد على صبر الشعوب أو التعويل على القدرة على السيطرة على الرأي العام وتكميم الأفواه قد لا يكون مُجدياً على الدوام.

جميع المقالات المنشورة تعبِر عن رأي كُتَابها ولا تعبِر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي
الأكثر تداولاً