الرئيس الفرنسي ماكرون  (Gonzalo Fuentes/AP)
تابعنا

كانت تصدعات الاتحاد الأوروبي قد بدت للعيان منذ بريكست، أي منذ خرجت بريطانيا من الاتحاد سنة 2016. استفحلت الأزمة مع جائحة كورونا، إذ توارى مقتضى التضامن، وبدت الاختلافات في ما يخص التعاطي مع الملفّ الليبي، إذ استأثرت فرنسا برؤية أحادية، ولم ترَ ضرورة التنسيق مع إيطاليا التي ترتبط بروابط تاريخية واقتصادية بليبيا.

كان يُعتقد أن الحرب الروسية الأوكرانية من شأنها أن تشدّ لحمة الاتحاد أمام التحدي الذي تمثّله روسيا، ولكن تصدعات ما لبثت أن برزت مع رئاسة الرئيس الفرنسي ماكرون للاتحاد، في غضون الأشهر الستة المنصرمة، وسعيه لفرض أجندته عليه، وهي التصورات التي تواجَه من قِبل أعضاء المجموعة بالتجاهل.

إذ يأخذون عل ماكرون عدم وضوح تصوراته، فيما يخصّ الإطار الفيدرالي للاتحاد، أو الدفاع المشترك، أو إعادة هندسة الاتحاد، ويرون أن رؤاه منصرفة إلى فرنسا بالأساس.

فهل يُبحِر بالاتحاد الأوروبي نحو ضفاف برهابس بورغ Perhapsburg حسب العالم السياسي الأمريكي إيفان كراستف Ivan Krastev، من أصل بلغاري، في كتاب له بعنوان "مصير أوروبا"، أي إن كل شيء ممكن، بما فيها نهاية الاتحاد. لا أحد كان يتنبأ قبل ثمانينيات القرن الماضي بسقوط الاتحاد السوفييتي، ولكنه سقط، فهل يكون المصير ذاته ما يتهدد الاتحاد الأوروبي؟

استطاع الاتحاد الأوروبي أن يتجاوز اختلافاته، ما بين الدول الغربية الغنية المؤسِّسة، ودول الجنوب الأقلّ غنىً والأقلّ انضباطاً، التي التحقت به (إسبانيا، البرتغال، اليونان)، والدول الإسكندنافية التي تشكّل حالة خاصة، ودول وسط أوروبا، التي كانت قد هرعت إلى الاتحاد، وأضحت أول ما يشتكي منه كما في حالة هنغاريا وبولندا.

فضلاً عن خلافات حول الخيارات والقطاعات، حول السياسة الفلاحية، والعملة الموحدة والهجرة وضغط الاتجاهات ذات النزوع السيادي، بداخل الدول الأوروبية، التي تنتقد ما تسمّيه بأولغارشية بروكسيل. لكنها خلافات واختلافات كانت في دائرة المُتحكَّم به، ولم تكُن تتهدّد الاتحاد في وجوده.

خروج بريطانيا جعل الدولتين القويتين في الاتحاد، فرنسا وألمانيا، الضمانة لانسجامه واستمراره، لكن فرنسا بعد خروج بريطانيا من الاتحاد، وبعد انسحاب أنجيلا ميركل، المستشارة الألمانية السابقة، من الساحة السياسية، التي كانت تتبنّى فيما يخص الاتحاد، ما يُسمى بالميركليَّة، أي السعي لمنظومة فيدرالية، تريد (أي فرنسا) اتحاداً على مقاسها.

تريد أن تجعل من الفرنسية اللغة الوحيدة، ولا ترى ضرورة استعمال الإنجليزية، أي إنها تربط اللغة الإنجليزية ببريطانيا. يريد ماكرون أن يملأ الفراغ الذي تركته بريطانيا، ويريد أن يُملِي تصوُّراته في ما يخصّ هندسة الاتحاد، والتوسيع، ويرسم التوجه السياسي والاستراتيجي والعسكري للاتحاد، وبتعبير آخر، يريد من الاتحاد أن يكون أداة في خدمة فرنسا.

اللافت هو صدور مقال في العدد الأخير لمجلة "فورين بوليسي" من قِبل شاهين فالي Shahin Vallée الذي يشغل منصب مدير البرنامج الجيو اقتصادي في المجلس الألماني للعلاقات الخارجية، وهي مؤسسة غير رسمية ولكنها مؤثرة، وتُسعِف في رسم توجهات ألمانيا الاستراتيجية. يقف صاحب المقال عند القضايا البنيوية التي لم يستطِع الاتحاد أن يحسمها، وتتعلق بقضايا مثل الطابع الكونفيدرالي للاتحاد أو الفيدرالي، وقضايا التقنية كالطاقة، والسياسية الضريبية، وقضايا الدفاع. ويضيف عاملاً جديداً هو دور فرنسا في الاتحاد، التي أصبحت مع ماكرون عامل عرقلة في ما يخصّ إعادة هندسة الاتحاد، أو توسيعه، فضلاً عن الاختلافات المرتبطة بالسياسة الزراعية، والسياسية الضريبية، والهجرة.

سبق لأعضاء الاتحاد أن رفضوا مناقشة مقترَحات الرئيس الفرنسي، بيد أن الرفض يُخفِي موقفاً لدى الأعضاء من لدن فرنسا، وهي ما أسماه صاحب المقال بـ"الأثافي الثلاث لسياسة فرنسا"، أو عيوبها؛ سياسة غامضة، وأحادية، وموجَّهة لمصلحة فرنسا.

فهي غامضة في ما يخصّ بنية الاتحاد، إذ يظلّ موقف فرنسا غير واضح حول الطابع الفيدرالي، إذ تراه فرنسا غير واقعي، دون أن تسفر عن ذلك جهاراً، وهي أحادية، تَعْدم التشاور المسبق، وتتبنّى سياسة دفاعية منفصلة عن الاتحاد، وأخيراً فهي موجهة لمصلحة فرنسا، أي إن فرنسا لم تبرأ من التوجه الديغولي، الذي يجعل من الاتحاد أداة في يد فرنسا، وهو التوجه الذي يمكن أن نجد له جذوراٍ أعمق في التراث النابليوني.

لقد كان الاتحاد الأوروبي منذ نشأته سنة 1957 بمقتضى معاهدة روما كسوق أوروبية مشتركة، من أهمّ نجاحات هندسة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وتوسع منذ ذلك الحين، وانتقل مع معاهدة ماستريخ سنة 1992، من سوق إلى اتحاد، مع عملة موحدة، وانفتح إلى دول غير متجانسة، لا ثقافياً ولا اقتصادياً. ولكن الامتحان الذي بدأ مع خروج بريطانيا، ويجد صداه في دول أوربا الوسطي، يتهدد الاتحاد في وجوده، ولا تسعف النظرة الأحادية لفرنسا، في لمِّ الاتحاد، فضلاً عن التوجه الجديد لألمانيا القاضي بالتسلُّح، وهو تغيير جوهري، بداخل أهمّ اقتصاد في الاتحاد.

أهمية المقال المومأ إليه، في مجلة فورين بوليسي، ليست في مضمونه فحسب، بل في الحيثية التي يشغلها صاحب المقال، وهو ما قد يكون تعبيراً مُبطَناً عن انزعاج ألمانيا بالنزوع الاستفرادي لفرنسا في رسم توجهات الاتحاد.

ويمكن تصوُّر كل السيناريوهات الممكنة إن تَحلَّل الاتحاد، وانعكاساته على دول حوض البحر الأبيض المتوسط، بما فيها الضفة الجنوبية حيث توجد نسبة كبيرة من جاليتها وعمالها بأوروبا... فما كان قصة نجاح، ينذر بأن يكون ثقباً أسود، والعقلانية الاقتصادية التي كانت تُعتبر الحلّ السحري في تذويب الاختلافات الثقافية، وتطويع شياطين الماضي، قد لا تستطيع أن تتحكم إلى ما لانهاية في المكبوت التاريخي، ولا النزوع السيادي الذي تنادي به مختلف الشعبويات، ولا عودة القوميات، ولا العداء القديم ما بين فرنسا وألمانيا.

جميع المقالات المنشورة تعبِر عن رأي كُتَابها ولا تعبِر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي
الأكثر تداولاً