تابعنا
تتمثل سياسة الاعتماد على الذات الصينية على التقليل أو الحد من تعرّض الصين للضغوط الاقتصادية الغربية، وردع أي محاولات لفرض مزيد من الضغوط الغربية في المستقبل، وزيادة اعتماد مزيد من الدول اقتصادياً على الصين، وتعزيز قطاع التكنولوجيات الحديثة.

منذ ظهور الصين على الساحة الدولية كلاعب رئيسي، حاولت الولايات المتحدة التعاطي مع هذا العملاق القادم من أقصى شرق آسيا بطرق عدة لتفادي المواجهة المباشرة.

في البداية كانت هناك محاولات لإدماج الصين في النظام الدولي من خلال التجارة الحرة والتصنيع، إلى أن غدت الصين على نطاق واسع مصنعَ العالم.

دخلت الصين منظمة التجارة الدولية، وكان الغرب يؤمّل بأن يسهم الرفاه الاقتصادي فيها، وخصوصاً مع انتقال أعداد هائلة من سكانها إلى مصاف الطبقات الوسطى، بتحول النظام في البلاد إلى الديمقراطية، وبذلك وعلى غرار اليابان وألمانيا سابقاً، تصبح بكين حليفة للمعسكر الغربي.

ولكن منذ أحداث "ساحة تيانانمن" عام 1989، تضاءل هذا الطموح الغربي بديمقراطية الصين، وأصبحت المقاربة تعتمد على محاولة إدماج الصين عبر التعاون المشترك وتفادي المساس بالخطوط الحمر.

مثّلت سياسة الرئيس الأمريكي الأسبق، باراك أوباما "التوجه شرقاً" ذروة السياسة الأمريكية في التعاطي مع الصين بطريقة بنّاءة، إذ وصل حينها الطرفان الأمريكي والصيني إلى العديد من التفاهمات الدولية من الأمن السيبراني إلى أمن المناخ (في قمة باريس عام 2015).

ومع قدوم الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترمب، كانت مقاربة التفاهم مع الصين قد وصلت إلى نهايتها، وبدأت مرحلة جديدة عنوانها "المواجهة". إذ فرضت إدارة ترمب تعرفة جمركية على واردات الصين وصلت إلى حد 200 مليار دولار، فضلاً عن العقوبات على قطاع التكنولوجيات والشركات الصينية من قبيل تقنية "G5"، وشركة هواوي وهو ما أدى في النهاية إلى نشوب حرب تجارية وبداية مرحلة "الحمائية الاقتصادية" إذ بادرت الصين من جانبها أيضاً بفرض تعرفة جمركية على البضائع الأمريكية وإن بمستوى أقل.

وكما أشرت في مقال سابق، فقد اتضحت معالم سياسة الإبطاء الاستراتيجي التي تتبناها الولايات المتحدة للحد من صعود الصين على المسرح الدولي، وبالتالي تهديد مكانة واشنطن العالمية.

مع مغادرة ترمب للبيت الأبيض، اتضح أن هذه السياسة باتت إحدى ركائز السياسة الخارجية الأمريكية، فقد أصدرت إدارة الرئيس بايدن في أغسطس/آب 2022 تشريعاً سمي CHIPS and Science Act، الذي بموجبه ستسرّع الولايات المتحدة الاستثمار في تكنولوجيا الرقائق الدقيقة أو أشباه الموصلات مع فرض عقوبات شديدة على أي شركة غربية تزوّد الصين بهذه التكنولوجيا.

أدركت واشنطن أن عنصر صعود الصين الاستراتيجي هو تطوّرها التكنولوجي الهائل، وبالتالي فإن إبطاء هذا القطاع عبر تقييد وصول التكنولوجيا الحديث (أشباه الموصلات) للصين، سيؤدي إلى تدهور مكانة الصين.

كان التشريع الذي أصدرته إدارة بايدن لحظة فاصلة في تاريخ العلاقة بين البلدين، ففي مقابل سياسة الإبطاء الاستراتيجي الأمريكية، تبنّت الصين سياسة الاعتماد على الذات، ووصل الصينيون إلى قناعة بأن الاعتماد على الغرب يعدُّ تهديداً للأمن القومي الصيني.

وتتمثل سياسة الاعتماد على الذات الصينية على التقليل أو الحد من تعرّض الصين للضغوط الاقتصادية الغربية، وردع أي محاولات لفرض مزيد من الضغوط الغربية في المستقبل، وزيادة اعتماد مزيد من الدول اقتصادياً على الصين، وتعزيز قطاع التكنولوجيات الحديثة على رأسها صناعة أشباه الموصلات والذكاء الصناعي.

الحدّ من الضغوط الاقتصادية الغربية

استوردت الصين ما قيمته أكثر من 350 مليار دولار من أشباه الموصلات في عام 2020، أي أكثر من حيث القيمة، من وارداتها من النفط. فإن سيناريو فقدان الوصول الكامل إلى تكنولوجيا الرقائق يعدُّ أمراً مروعاً من الناحية الاقتصادية للصين.

تعزز خوف الوصول إلى سيناريو الحظر الكامل على تكنولوجيا الرقائق بسبب حرب روسيا الدائرة في أوكرانيا عندما بادر الغرب فرض عقوبات هائلة على موسكو، أثَّرت بشكل كبير في قطاعات اقتصادية واسعة، ولولا الصادرات النفطية لروسيا، لرأينا أن اقتصادها ربما وصل إلى حالة من الانهيار الكامل.

وبالنسبة للصين، فتكرار مثل هذا السيناريو إذا ما قررت غزو تايوان وضمّها سيكون له آثار كارثية في اقتصادها ومكانتها الدولية. علينا ألا ننسى أن الصين شكلت طوق النجاة لروسيا في العديد من القطاعات التكنولوجية إثر العقوبات الغربية، وسيكون من الصعب تصوّر أن يكون هناك بدائل قوية للصين في حال تعرضت هي نفسها إلى عقوبات شاملة من الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين، فروسيا في ظل حربها مع أوكرانيا لن تكون في وارد التعويض للصين عن التكنولوجيا الغربية.

ردع الضغوط الغربية

تعدّ الصين (إلى الآن على الأقل) لاعباً عقلانياً بامتياز. يظهر ذلك في حالات التصعيد، إذ لا تذهب الصين إلى مجرّد تسجيل النقاط في تنافسها مع الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين، بل إلى تحقيق أكبر قدر ممكن من الاستفادة والمنفعة التي تجنيها من التطورات التكنولوجية، وخصوصاً في قطاعي أشباه الموصلات والذكاء الصناعي.

لذلك، فأمام الصين في ظل السياسة الغربية خياران: إما استرضاء الولايات المتحدة وحلفائها من أجل استمرار التعاون والتبادل التكنولوجي والاقتصادي، وإما الردع لمنع أي محاولات غربية مستقبلية لخنق الصين في قطاعي التكنولوجيا والاقتصاد.

يبدو أن الصين قد اختارت استراتيجية الردع ولكن الردع الذكي من خلال العمل على التهرب من العقوبات والضوابط الغربية الجديدة والاستمرار في الوصول إلى التكنولوجيا، مستغلة حقيقة أن العديد من الأطراف الدولية مستعدة للاستمرار في التعامل مع الصين (نظراً للمنفعة المستحقة) وإن كان من تحت الطاولة.

كما تسعى الصين إلى محاولة إحداث الشقاق بين الولايات المتحدة وحلفائها، وخصوصاً أن هناك تردداً لدى بعض القوى في الذهاب بعيداً مع سياسة الولايات المتحدة تجاه تشديد الخناق على الصين، على رأسها ألمانيا، وإلى حدٍّ ما اليابان وكوريا الجنوبية، وذلك في محاولة لتجنّب تصعيد قد تكون تداعياته كارثية اقتصادياً بحق برلين، وجيوسياسياً بحق طوكيو وسيئول.

في السياق ذاته، تعزز الصين من قدرات التجسس لديها من أجل الحصول على التكنولوجيا الغربية وتحقيق الأسبقية. في هذا السياق تظهر قضية المنطاد الصيني الذي أسقطته الولايات المتحدة وهو يحلّق فوق أراضيها، فضلاً عن قاعدة التجسس الصينية على الأراضي الكوبية والتي تعمل بكين على تعزيزها وتطويرها، وفق العديد من التقارير مؤخراً.

زيادة اعتماد الدول اقتصادياً على الصين

تحاول الصين الاستثمار في مركزها الدولي كمصنع منخفض التكلفة للبضائع الدولية، وقدرتها الاقتصادية الصاعدة، ومشاريعها الاستراتيجية عابرة للحدود مثل طريق الحرير الجديد وتطورها التكنولوجي واحتوائها على مخزون هائل من المعادن النادرة لزيادة الاعتمادية الدولية عليها.

فيما يتعلق بقطاع الرقائق الدقيقة، على سبيل المثال، أصبحت الصين مورداً مهماً في جميع أنحاء العالم، فهي مسؤولة عن 9٪ من الإنتاج العالمي في عام 2020. تتركز قوة الصين على إنتاج الرقائق من حجم 28 نانومتراً والأكبر حجماً وهي التي تظل حيوية للعديد من الصناعات وخصوصاً قطاع السيارات والمركبات.

لكن المصدر الأكثر أهمية لقوة الصين على المدى القريب، هو هيمنتها على مخزون المعادن النادرة وقدرتها على تعدينها وتكريرها، إذ تتحكم في أكثر من 60٪ من الموارد ونحو 80٪ من السعة التصنيعية والتحويلية لهذه المعادن.

تعطي هذه الهيمنة الصين امتيازاً مهماً في صناعة الرقائق الدقيقة، ففي الوقت الذي تفتقر فيه الصين إلى التكنولوجيا الحديثة مقارنة مع الغرب، فإن الغرب يفتقر إلى المواد الخام التي تستحوذ الصين على أغلبيتها، الأمر الذي يعزز من اعتماد العالم على مواد الصين الخام ويقلل من احتمال المغامرة بفقدان هذا المورد الحيوي.

أخيرا تسعى الصين إلى تعزيز قطاع التكنولوجيات الحديثة على رأسها صناعة أشباه الموصلات والذكاء الصناعي. ووفق تقرير صادر عن المعهد الأسترالي للسياسة الاستراتيجية (ASPI)، وهو التقرير المعني بتعقب التطورات الحاصلة في قطاع التكنولوجيا الحساسة تحت عنوان: "السباق العالمي نحو قوة المستقبل"، أشار إلى أن الصين أصبحت تتفوق على الغرب في العديد من الصناعات التكنولوجية الحساسة.

ويشمل تفوق الصين 37 من أصل 44 تقنية حساسة رصدها التقرير، تتضمن الفضاء والروبوتات والطاقة والبيئة والتكنولوجيا الحيوية والذكاء الصناعي وتكنولوجيا الكم. على حين يقتصر تفوق الولايات المتحدة على سبعة مجالات فقط تتضمن أنظمة الإطلاق الفضائية والحوسبة الكميّة.

يقبع خلف هذا الإنجاز العلمي منظومة متكاملة ومتطورة من مؤسسات بحثية نشطة وفعالة تحظى باحترام واعتراف دولي. فعندما يتعلق الأمر ببعض التقنيات الحساسة مثل تكنولوجيا الكمّ، فإن أهم 10 مؤسسات بحثية في العالم تقع في الصين.

جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي