"تشكل منهجية شارلي إيبدو المثال الواقعي للتنظير الذي وضعه آلان دينولت بشأن نظام التفاهة الذي بات يسود هذا العصر." (Others)
تابعنا

شن عديد من وسائل الإعلام الغربية الرئيسية هجوماً على تركيا قبيل الانتخابات الرئاسية والبرلمانية التي انعقدت في 14 مايو/أيار الجاري. وطفح هذا الهجوم بعديد من الإشارات الرمزية التي تنتقد رئيسها ونظامها الانتخابي وحتى ديمقراطيتها. ولم يخل الهجوم من استحضار الماضي بأشكال يتردد فيها صدى المعاني الاستشرافية التي طالما حاول الغرب من خلالها التقليل من شأن تجارب الشرق التقدمية. فالهلال الذي بدا محطماً في إحدى الصور التي عرضتها بعض وسائل الإعلام الغربية هو أوضح دليل على هذا الهجوم الاستشراقي، والتوجس من نهضة الشرق الذي تمثل تركيا إحدى سماته المعاصرة.

ألقت وسائل الإعلام هذه بثقلها للتأثير -وربما للتشويش- في العملية الانتخابية في تركيا، وتعكير صفو الديمقراطية في بلد يعد حليفاً للغرب في الناتو ويتمتع بوضعية استثنائية لدى الاتحاد الأوروبي. غاب النقد البنّاء عن وسائل الإعلام الغربية في تغطيتها للانتخابات التركية، ولم يعد نقدها يحظى بأي سمة معيارية، وبات التشنج والكيل بمكيالين واضحين بشكل لا لبس فيه. بل لم تخلُ هذه التغطية من لغة الاتهام والتخوين. فصحيفة "التلغراف البريطانية" اعتبرت تركيا بقيادة الرئيس أردوغان "عدواً داخل الناتو"، وزعمت أنه في طريقه إلى السقوط.

في عرف هذه الوسائل نفسها يعد هذا التدخل عملاً لا أخلاقياً إن نفذته جهات أخرى غير غربية. كلنا يتذكر العويل المدوي الذي أصدرته وسائل عقب اتهام روسيا بالتدخل في الانتخابات الأمريكية عام 2016، واستفتاء بريكست في عام ذاته ، والانتخابات الرئاسية في فرنسا عام 2017. وغيرها من العمليات الانتخابية في أوروبا. بالنسبة إليها كان التدخل الروسي مثالاً على الكيفية التي تتصرف بها الدول المارقة التي تعاني من عوز أخلاقي في التعاطي مع جيرانها. وادعت أن هذا التدخل في الشأن الداخلي لا مبرر أخلاقياً له حتى ضمن حسابات القوة والمصالح العليا.

اليوم تثبت وسائل الإعلام الغربية أن بوصلتها الأخلاقية لا أخلاقية، وأن المعايير التي طبقتها لانتقاد الغير ونزع صفة المسؤولية عنه انطبقت عليها بشدة. فتدخلها في الانتخابات التركية عبر هذا الكم الهائل من التغطية المنحازة وغير الموضوعية إنما ترتكب به خطأً جسيماً بحق المبادئ الأخلاقية التي تنادي بها طول الوقت. ويضعها ضمن الصحافة "المارقة" إذا جاز التعبير. فحتى معايير "الرأي والرأي الآخر" لم تلتزمها، فكان مقدار الانحياز لديها واضحاً بحيث غطى على أي اعتبارات أخرى.

لم تقف بعض وسائل الإعلام عند هذا الحد، فبعض الصحف والمجلات ذهبت إلى ما هو أبعد في انحطاطها مثل صحيفة "شارلي إيبدو" الفرنسية السّاخرة التي بلغت دركاً من الوضاعة في تعاملها مع الشأن التركي يصعب ذكره لتجردها التام من قواعد المهنية والأخلاق.. بل إنها باتت تمثل "المأسسة الإعلامية" لنظام التفاهة الغربية. فإن كان للسخرية دور كبير في المعترك السياسي، ولا أحد يجادل حول أهمية ذلك في إيصال الرسائل وتعزيز النقد السياسي، فإن ما وصلت إليه شارلي إيبدو يتعدى هذا الإطار العقلاني، ويذهب باتجاه الابتذال من أجل الانتقام والتشفي.

وضعت المجلة تركيا نصب عينيها في عديد من المواقف الحاسمة والأوقات الصعبة. في تغطيتها الأخيرة للانتخابات الرئاسية والبرلمانية في تركيا تعيد شارلي إيبدو انحطاطها السابق عندما انسلخت من معايير الإنسانية وتناولت بالسخرية ضحايا الزلزال الذي ضرب مناطق جنوب شرق تركيا وشمال غرب سوريا مخلفاً عشرات الآلاف من الضحايا ما بين قتيل وجريح فضلاً عن مئات الآلاف الذين فقدوا بيوتهم واضطروا إلى العيش في الخيام.

إذا كانت السخرية إحدى أدوات النقد السياسي، وهي السخرية التي تتمتع بضوابط تبعدها عن مجرد السخرية لأجل التشفي والانتقام، فإن ما نشره العاملون في شارلي إيبدو من تهكم على ضحايا كارثة طبيعية، تعد ربما الأكبر منذ قرن في المنطقة، يعد دليلاً على تلاشي الأبعاد السياسية في هذا النوع من السخرية، وتحولها إلى نظرة استعلائية تخلو من الإنسانية فضلاً عن المهنية الصحفية.

تشكل منهجية شارلي إيبدو المثال الواقعي للتنظير الذي وضعه آلان دينولت بشأن نظام التفاهة الذي بات يسود هذا العصر. فالابتذال الذي تنتهجه مجلة شارلي إيبدو وشبيهاتها إنما يعزز بيئة ضحلة يكون فيها للصورة السطحية الأسبقية على الخطاب الموضوعي والاعتبارات الأخلاقية وهو الأمر الذي يؤدي في الأخير إلى نزع الطابع السياسي عن المجتمعات ويقود إلى تآكل القيم الديمقراطية.

على جانب آخر يؤدي هذا الابتذال إلى تعزيز قبضة الاستهلاكية الشاملة على وسائل الإعلام وتقزيم القضايا الإنسانية المعقدة وحشرها في زوايا الشعارات البسيطة وهو ما يعزز حركية الربح المادي على حساب القضايا التي تعد جوهرية في بنية المجتمعات الإنسانية. توجد نزعة لإعلاء الترفيه والخطابات الشعبوية على حساب العمق الفني والفكري للقضايا المطروحة. فالميل نحو مظاهر كالإثارة تصبح قيمة بحد ذاتها، تطمس الخطابات الوازنة، وتهمش الأصوات الناقدة باتزان وموضوعية.

إن الإشكالية التي نواجهها مع مجلة شارلي إيبدو وأخواتها هي أن احتكارها للسخرية وجعلها مبتذلة يختطف السخرية كأداة أصيلة من أدوات النقد السياسي. فالسخرية والفكاهة حالة نقد سياسية شائعة بشكل كبير في عديد من المجتمعات وشكلت طيلة الوقت متنفساً للتعبير عن الآراء، وملجأً بعيداً عن مقصلة الرقابة الشاملة. إن ما تفعله شارلي إيبدو هو تحطيم هذه القيمة النقدية الأصيلة، وتشنيع على من يلجأون إليها.

باختصار تدمر سخرية شارلي إيبدو الصور المحصنة وتعزز السرديات المبسطة. إنها تسعى للتقليل من المشكلات المعقدة وتحولها إلى اعتراضات ثنائية وتمثيليات مفرطة في التبسيط والاختزال. إنها تعزز وجهات نظر مستقطبة تعمل على توسيع دائرة التحيزات القائمة بدلا من تشجيع النقاشات البناءة.

يعمل هذا التصوير المبتذل الذي تلجأ إليه شارلي إيبدو على إدامة التعميمات الضارة والمتحيزة وزيادة تهميش مجموعات معينة كالمسلمين القاطنين في الدول الأوروبية وذلك من خلال تسفيه رموزهم المقدسة، وكلنا يتذكر الرسومات المسيئة التي نشرتها المجلة بحق النبي محمد عليه الصلاة والسلام.

جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي
الأكثر تداولاً