تابعنا
إن مشاركة اليمن في هذه الحرب لها جذور تاريخية وسياسية ودينية وثقافية وقومية وتحظى بقبول واسع من اليمنيين، ولا يُستبعد أن تكون لهذا الانخراط أسباب داخلية مهمة.

جذور يمنية خالصة وداخلية للانخراط في معركة طوفان الأقصى، تتجاوز المشاركة اليمنية حدود التبعية المطلقة لإيران، فلليمن توجهات عروبية أكثر من أي دولة أخرى في المنطقة، وأنها سبق أن دفعت ثمناً كبيراً لهذه التوجهات، ومن ثم فإن مشاركة اليمن في هذه الحرب لها جذور تاريخية وسياسية ودينية وثقافية وقومية وتحظى بقبول واسع من اليمنيين، ولا يُستبعد أن تكون لهذا الانخراط أسباب داخلية مهمة.

نطرح بعض الأسئلة التي تحتاج منا إلى معالجة وتحليل: لماذا انتقل اليمن إلى الوضع الهجومي على إسرائيل في هذه الحرب على العكس من لبنان الذي لا يزال في مرحلة المناوشات؟ أهو البعد الجغرافي الذي يعمل حجاباً ويرفع التكلفة على إسرائيل ومن ورائها الولايات المتحدة إذا ما قررتا استهداف اليمن؟ أم أن هناك دافعاً داخلياً متعلقاً بطبيعة الحركة بعيداً عن مستوى التصعيد الإيراني؟

كل تلك التساؤلات المشروعة تفتح عاصفة من الأسئلة وراءها، فمهما بدا الأمر سهلاً فهو من جهةٍ فيه بعض من التركيب والتعقيد، فالحركة المدعومة إيرانياً تمتلك هامشاً للحركة مرتبطاً بالوضع السياسي وشكل التحالفات الداخلية، خصوصاً مع غياب الطبيعة المذهبية في اليمن وارتفاع الانتماء القبلي والحس القومي العربي.

مع حفاظ الحركة على طبيعتها الأيديولوجية، وتحالفها المهيمن الذي مركزه البيت الهاشمي، والتصور المذهبي، إلا أنها ترتبط بمكون أوسع وتحالف يقوم على تشكيل روابط مع مؤسسة القبيلة، والجهاز البيروقراطي للدولة، وفي ظل صراع داخلي في ذلك التحالف أو في أجنحة الحركة من الناحية السياسية، جاءت الحاجة إلى شرعية خارجية للحفاظ على تماسك التحالف الحاكم والحركة، فما شكل ذلك المشهد اليمني الذي يحتاج إلى بعض من التفصيل؟

لماذا قصف السفن الإسرائيلية يعطي شرعية داخلية؟

بعد 2011 دخل الحوثي في صراع بشكل مباشر للسيطرة على صعدة وقضى منها وطره في مارس/آذار من العام ذاته، والثورة لا تزال في الشارع مع إرساله مندوبين إليها، بعدها بدأ يستغل الصراع الذي خلفه انهيار الوضع العام والمشروع السياسي وانقسام القبائل بين مؤيدين للثورة متحالفين مع الإصلاح وعائلة الأحمر قادة قبائل حاشد، وبين مؤيدين لصالح بعد أن شكل قاعدة له ضخمة في الشمال والوسط، وتحالف الحوثي مع القبائل التي بغضت الثورة، لذا فهو في صورة كان يمثل الثورة المضادة.

استغل أيضاً الانقسام العسكري في الجيش اليمني بين علي عبد الله صالح وعلي محسن الأحمر، وتحالف مع الأول، وهو ما يمكنه من دخول صنعاء، ثم بدأ يلعب على وتر النزاعات بين القبائل الثأرية، وهو سلوك قديم ظهر في معركة بني حشيش عندما دخل لصالحها ضد قبائل أرحب التي انحازت إليها الدولة في الحرب الخامسة 2008.

وظف الحوثي شعارات العروبة والإسلام بشكل جذب الهجر الهاشمية إلى صفه، ومن خلال حالة التشظي كان أمام الهاشميين بمن فيهم التكنوقراط والليبراليون وموظفو الدولة أن يتحالفوا معه، وبذلك امتلك الحوثي ناصية الدولة العميقة -إن جاز التعبير- في اليمن، وإنْ لم يكن هناك بالفعل دولة عميقة، حيث تغلغل في دولاب الدولة وكسب رضاً بيروقراطياً ومؤسسياً من خلال تحالفه مع صالح والهاشميين وبعض القبائل، ولكي يبرر حربه الانتقامية ضد بقية القبائل وإخضاعها فقد استغل الموقف العربي الخليجي من الإصلاح وحركات الإسلام السياسي ليمرر سيطرته على صنعاء، وقد حقق له ذلك رضاً سرياً غربياً وعربياً.

استهدف الحوثي الجمهورية اليمنية بما قامت عليه من دعائم قبلية، فقد كان لعائلة الأحمر وقبائل حاشد وبكيل ثأر قديم، إذ قامت الجمهورية عليهم، وكذا فعل مع قبائل حجور وبعض قبائل حجة والمحويت. وشكل حلفه لقيادة صنعاء، أولاً بوجود خط صالح سواء حلف قبلي وجهوي أو كإدارة بيروقراطية، مستأصلاً بقايا حزب الإصلاح وتحالفهم الجهوي على المستويين القبلي والبيروقراطي.

تلا ذلك التغلغل والسيطرة لهاشميي صعدة على مفاصل الدولة والنخبة، وكذا على الموارد والثروات في عملية إحلال سريعة لنخبة التجار التي ارتبط وجودها بصالح. أقلق ذلك صالح، وهو ما فجّر الصراع بينهم وانتهى بمقتله عام 2017، وتلاه تصفية هذا التحالف الجهوي المؤيد وردع القبائل المؤيدة له واستبعاد كل عنصر ولاؤه لهذا التحالف.

في 2019 بدأ صراع محموم بين هاشميي صنعاء وصعدة، يرى هاشميو صنعاء أنهم أحق بالحكم من البقية، كما يتمتعون بمستوى تعليم عالٍ ونفوذ كبير في إدارة الدولة وعلاقات عابرة لحدود اليمن، ومنهم من كانوا سفراء في دول الخليج وتربطهم علاقات طيبة بهم، كما يرون أنهم عماد نخبة الدولة، وبالتالي فهم أحق بأن يكونوا شركاء في المكاسب الاقتصادية والسياسية، ولولا تحالفهم مع الحوثي لما تمكن من صنعاء.

في المقابل ينظر هاشميو صعدة إليهم على أنهم "خونة" تحالفوا مع الجمهورية ضد الإمامية، وأن الثروة أحقية لصعدة، فهم من قاتلوا حتى بلغوا هذا المرتقى، وما زالوا يكافحون من أجل تثبيت الحكم وبناء دولة مركزية تحافظ على وجودهم في سدة الحكم لأمد طويل، وهم في ذلك يستبدلون بنخب رجال الأعمال في صنعاء نخباً حوثية أو مقربة إليهم، لكن في المقابل يحافظون على تحالف واسع مع المجتمع القبلي ومؤسساته التاريخية.

كما أن جماعة الحوثي فيها أجنحة مقسمة بين جناحين رئيسيين يعمل عبد الملك بينهما كرمّان ميزان، الجناح الأول محمد الحوثي رئيس المجلس الثوري (أبو محمد)، والثاني أحمد حامد (أبو محفوظ) مدير مكتب رئيس المجلس السياسي مهدي المشاط، صراع على الثروة والنفوذ.

ازدادت التوترات بين الجناحين بعد الهدنة التي أبرمت في أكتوبر/تشرين الأول 2022، إذ كشفت للأجنحة التي كانت تقاتل على الجبهات ثراء المسيطرين في صنعاء، وتصاعدت التخوفات إلى نزاع داخلي بين تلك الأجنحة يقفز على السطح.

تؤدي حالة قصف الكيان إلى مكاسب عدة على مستوى جماعة الحوثي نفسها، إذ تستديم الحرب وتتراجع حدة الاختلافات بين تلك الأجنحة، أما على مستوى احتمالية تمرد القبائل الموالية للأحلاف كحلف صالح فإن شرعية "الموت لإسرائيل" كفيلة بتوحيدهم نظراً إلى الطبيعة القومية العميقة للشعب اليمني حتى جنوبه.

في المرحلة البراغماتية التي اقتضت التفاوض مع الولايات المتحدة قدمت جماعة أنصار الله اعتذاراً عن هذا الشعار، مبررة أنه للاستهلاك المحلي لكنه ليس أمراً جوهرياً كما ادعت صحف عربية وأجنبية ذلك.

إذاً فالتصعيد اليمني يأتي تعبيراً عن نزعة يمنية خالصة بالعداء للولايات المتحدة وإسرائيل بحس عروبي، ورغبة حركة أنصار الله في لُحمة وتماسك الجماعة، وإعطاء شرعية سياسية واسعة قبلية وجهوية للحركة بعد انهيار الأحلاف التي غزلت ونقضت على مدار عقد، واستغلال العداء التاريخي لإسرائيل باعتبارها ضامناً للهيمنة والسيطرة في عالم ما بعد السلام.

وبذلك نجدهم يُجرون عمليات تعبوية بتخريج دفعات للكفاح الشعبي دعماً للطوفان في أغلب المناطق التي يسيطرون عليها. أما في حالة استمرار الحرب فهو عين الطلب، فهي تؤجل وقوع الصدام بسبب التناقضات التي كادت لتبرز على السطح مع توقف الحرب، فسؤال الشرعية سياسي بامتياز يفرض نفسه في وقت السلم وتوزيع المكاسب.

لماذا صعدت إيران من اليمن؟

يمكن رصد العلاقة الإيرانية الوثيقة لحركة أنصار الله بتحول اسمها من حركة الشباب المؤمن التي تشبه تسميات الحركية الإسلامية السنية إلى حركة أنصار الله. لإيران نفوذ سياسي كبير على جماعة الحوثي، وتنامى الارتباط الإيراني بالحركة بعد ثورة 2011، إذ قدمت إيران للحركة كل شيء حتى الخطط.

لكن الحركة بالطبع ليست كحزب الله اللبناني، فهي تمتلك هامش حركة حتى لو كان صغيراً مقارنة بكون حزب الله ذراعاً إيرانية خالصة تنفذ سياساتها في المنطقة، بخلاف الحوثي الذي التزم النطاق الجغرافي والقومي لبلاده ولم يدخل السعودية إلا في مرحلة متأخرة من حروبه الست حين حاول الالتفاف على الجيش اليمني بالتوغل في أراضٍ سعودية، ورغم أن عديداً من اليمنيين ينظرون إلى تلك الأراضي على أنها "يمنية سُلبت منهم" باتفاق الطائف 1934 وجدة 2000 وترسيم الحدود 2004.

صعدت إيران من اليمن لأن التكلفة لهذا التصعيد منخفضة نسبياً، فاليمن تعرض لحرب 8 أعوام وظلت قواعد حركة أنصار الله قائمة ومهيمنة حتى لو تبدل شكل تحالفها المهيمن مع كل مرحلة، أما في حالة حزب الله فالتكلفة كبيرة استراتيجياً وعسكرياً، وقد يهدد وجوده في لبنان، ويعتبر قرب المسافة عيباً عسكرياً كبيراً.

الأمر الثاني هو أن الحاضنة الشعبية اليمنية للحوثي وحتى أعداءه يقبلون التصعيد ويرحبون به، وهو ما يفتقر إليه الحزب في لبنان بشدة، وتستند الحركة إلى الطبيعة القومية العربية العميقة التي يتمتع بها الشعب اليمني مقابل اللبناني، فالهوية القطرية-اليمنية عربية بالأساس وليست فرعونية أو فينيقية أو أشورية.

إن التصعيد من اليمن يشمل مستويات عديدة كلها لها رسائلها، وهناك ما بعدها من دون الانزلاق في حرب إقليمية، أي إنها حركة إسناد مهمة وفاعلة، فعلى سبيل المثال بدأ الحوثي بمرحلة التهديد، ثم قصف إيلات التي أوصلت رسائل بأننا نبلغ حدود إيلات وقد نستهدف مصالحكم في البحر وفي إريتريا وغيرها، وانتقل بعدها لخطف سفينة إسرائيلية وصعد تجاه كل السفن التي تصل إلى الكيان.

بعدها هدد البوارج الأمريكية باستهداف صواريخ بالقرب منها، ثم تلا ذلك استهداف سفن شحن النفط، وهو أيضاً يهدد ويلمح بالإمارات، وتعتبر المرحلة الأبعد والمستبعدة في حالة تعرض لخطر وجودي هو استهداف النفط في السعودية، ومستبعدة لأن الحوثي حقق مكسب بقبول السعودية بخيار الحرب، لكنه مطروح في الحالة القصوى.

يحافظ التصعيد من اليمن على صورة إيران أمام محور الممانعة، وكذا أمام جمهورها داخلياً وأمام المقاومة في فلسطين، ويحقق لها نفوذاً على مستوى طرح الحلول وفرض نفسها طرفاً في أي مفاوضات، وبلورة أي تفاهمات أمريكية إيرانية، وبالتالي فهي الرابح الأكبر من هذه العمليات.

آفاق حلف حارس الازدهار

شكّلت الولايات المتحدة الأمريكية حلف الازدهار لحماية الملاحة في البحر الأحمر، منها ومن بريطانيا والبحرين وفرنسا وإسبانيا وسيشل، وبدا أن الحلف أقرب للتفكك بسبب الانعكاسات الكبيرة لهذا الحلف، سواء التكلفة السياسية والعسكرية، ناهيك بتعرض تلك البلاد لاستهدافات الحوثي.

استهدفت الولايات المتحدة في 31 ديسمبر/كانون الأول 2023 ثلاثة زوارق تابعة لأنصار الله حاولت الاقتراب من سفينة ترفع علم الدنمارك، مخلفة 10 أشخاص بين قتيل ومفقود، ولم يرد الحوثي بعد على ذلك التصعيد، وإنْ كنا نتوقع أن يظل ضمن مستوى أدنى حتى لو استُهدفت سفن أمريكية بشكل مباشر ففي النهاية هذا أمر معروفة حساباته جيداً بشكل مسبق، يكفي أن تكون الصواريخ أو المسيرات غير دقيقة أو يجري إسقاطها بسهولة جداً. إن التصعيد الأعلى في هذه الحالة هو استهداف ناقلات النفط، إذ هي كفيلة بالتسبب في موجة تضخم عالمية مع استمرار استهدافها أكثر من مرة.

وتقدير الأمر أن الولايات المتحدة تستخدم استعراض القوة لردع إيران عن التصعيد وليس لشن حرب على اليمن، فبلا شك لا تريد واشنطن أن تكرر تجربة أفغانستان، والحوثيون ومِن ورائهم إيران لن يتراجعوا عن مستوى التصعيد إلا بمكسب ميداني أو سياسي، فتستمر المسيّرات والصواريخ الحوثية لاستهداف السفن.

إنّ استعراض القوة الأمريكية ما فهمته إيران وردت عليه بنفس المنطق بإعلان عن تشكيل قوة الباسيج البحرية والشعبية بـ55 ألف مقاتل، والتهديد بإغلاق مضيق هرمز، وهي على الأغلب تهديدات لن تجد سبيلاً لتنفيذها إلا في حالة وجود هجوم مباشر على إيران، وهو أمر مستبعد حالياً.

لذلك فإن المخاوف التي تترتب على الوجود الأمريكي في البحر الأحمر وخليج عدن وبحر العرب ليست في محلها بخصوص الملف اليمني، بل إن أقصى تحرك للولايات المتحدة باغتيال الرموز الكبيرة كعبد الملك الحوثي ليس في صالحها على الإطلاق، لأن الحركة قد تلجأ في هذه الحالة إلى رفع السقف بالانتقال إلى مرحلة تالية كاستهداف ناقلات النفط أو ضرب الإمارات، وأخيراً تجدد الاشتباكات مع السعودية.

وقد يؤدي التهديد بدفع مقاومة تعز وقوات طارق صالح للاندفاع نحو استرداد ميناء الصليف بالحديدة مع دعم جوي لتمكينهم من طرد الحوثي إلى تآكل شرعية تلك الحركات من جهة وسهولة خسارتها للمعركة، الأمر الثاني أن الغرب هم من ساعد الحوثي في الإبقاء على ميناء الحديدة في اتفاقيات مثل استكهولم وجنيف، وقد يعني ذلك انهيار اتفاق التهدئة مع السعودية، في ذلك الوقت ستكون الحرب الإقليمية قاب قوسين أو أدنى.

TRT عربي
الأكثر تداولاً