جانب من استعراض "يوم القدس العالمي" في طهران  (AFP)
تابعنا

لكن صدمتهم أدّت بهم أيضاً إلى فقدان شيء آخر، بصرف النظر عن البوصلة الأخلاقية في كيفية تعاملهم مع أولئك الذين يعتبرونهم غرباء وبالتالي يستحقون بطريقةٍ ما الحرب. وبالتحديد، فإن هذا الصراع "الأوروبي" ليس منعزلاً عن روسيا وأوكرانيا فقط، ولكنه في الواقع صراع بين القوى العظمى. لذلك لا يزال الشرق الأوسط يلعب دوراً، وإن كان أقل وضوحاً، من خلال إما المرتزقة الأسديين وإما الحلفاء الروس مثل إيران الذين يقفزون لمساعدة شريكهم الأكبر.

في الأسبوع الماضي ذكرت صحيفة The Guardian البريطانية أن إيران كانت تساعد روسيا في أوكرانيا من خلال إشراك وكلائها من المتشددين في العراق للحصول على الصواريخ والأسلحة المضادة للدبابات وتهريبها، لتُوجَّه إلى الخطوط الأمامية. كان ردُّ فعل الولايات المتحدة رخواً بشكل نمطي تقريباً، مما جعل الناس يتساءلون: لماذا يبدو أن إيران تحصل في الغالب على "تصريح مرور مجاني"؟

وكما جاء في التقرير، فإن الجماعات العراقية الموالية لإيران -وكثير منها يخدم رسمياً في القوات المسلحة العراقية- يسعدها المشاركة في عملية التهريب هذه لأن "كل ما هو مناهض للولايات المتحدة يجعلنا سعداء".

هذه هي نفس الجماعات التي ساعدتها الولايات المتحدة على الوصول إلى السلطة في عام 2003. إنهم نفس المقاتلين الذين تمتعوا بالدعم العسكري من الولايات المتحدة، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر. إنهم نفس المتطرفين الذين استفادوا في أثناء ذبحهم المدنيين العراقيين من الدعم الجوي الأمريكي القريب خلال حرب 2014-2017 ضد تنظيم داعش الإرهابي.

مع ذلك، ها هم أولاء مرة أخرى يرفعون شعار "الموت لأمريكا"، يحاولون تقويض أولوية السياسة الخارجية للولايات المتحدة في أوكرانيا، والإفلات بذلك.

يجعل سبب ما هذه الجماعات -وجميعها مرتبطة بالحرس الثوري الإيراني- تبدو دائماً كأنها تفلت من القتل والفوضى.

إن تجزئة القضايا والمصالح هي جزءٌ مما يجعل السياسة الدولية ولعبة القوة العالمية معقَّدة للغاية، فغالباً ما تتعاون الدول معاً في ظروف معينة حتى عندما تتعارض في مكان آخر. لا مكان يتجلى فيه هذا الأمر أكثر من العلاقة بين الولايات المتحدة وإيران اللتين تعتبران من ألدَّ الأعداء بالمعنى الحرفي للكلمة.

بينما لا ينكر أحد في الجمهورية الإسلامية أن الولايات المتحدة دعمت عائلة بهلوي الإيرانية حتى أطاح بها روح الله الخميني في 1979، لن يعترف أي شخص في النظام الإيراني اليوم بالتواطؤ مع كل من الولايات المتحدة وإسرائيل في فضيحة إيرانغيت الشائنة في ثمانينيات القرن الماضي لتقويض العراق، ثم في عهد صدام حسين والنظام البعثي.

السبب واضح، إنه يقوِّض السردية الإيرانية الموضوعة بعناية عن "المقاومة". بُنيَ خطاب طهران على هتافات "الموت لأمريكا" و"الموت لإسرائيل"، وادعاء أنها طليعة ما يُسمَّى "محور المقاومة"، وهو تَحالُفٌ تقوده إيران ضد الإمبريالية الأمريكية في الأراضي الإسلامية.

الواقع مختلف تماماً، إذ قبلت إيران بسعادةٍ الدعمَ العسكريَّ والدبلوماسي الإسرائيلي السري في أثناء الحرب الإيرانية-العراقية، والتواطؤ مع تل أبيب في أثناء عملية أوبرا لتدمير مفاعل الماء الخفيف النووي العراقي في عام 1981، وبالتأكيد لم يترفَّعوا عن التسليح الأمريكي حتى يتمكَّنوا من مواصلة القتال ضد العراق المستقلّ سابقاً.

بعبارة أخرى، فإن دولة مثل إيران تطلق على عملياتها العسكرية اسم "الرسول الأعظم"، تسمح بسهولةٍ لقواتها بالوكالة في العراق بأن تتلقَّى دعماً جوِّيّاً من "الشيطان الأكبر"، وذلك باستخدام كلمات الإعلامي العربي المشهور فيصل القاسم.

الأسوأ من ذلك أن الغرب الذي تقوده الولايات المتحدة يسمح بذلك، ويدعم دولة فاشلة في العراق، ثم يُفاجأ ويغضب عندما يتعرضون لهجوم من داعش، الأمر الذي لم يكن ليحدث لولا الطائفية المدعومة من الحرس الثوري الإيراني في العراق، تلك الطائفية التي تمثِّل تربةً مثاليةً لتفاقم التطرُّف.

وفي سياق العراق، يرجع ذلك على الأرجح إلى حقيقة أن الولايات المتحدة لا تريد الاعتراف بالهزيمة هناك، مع إجبار الولايات المتحدة على الخروج من أفغانستان بعد الهزيمة في أغسطس/آب الماضي، فإن حالة مماثلة في العراق ستكون لها تداعيات زلزالية أكبر بكثير على مكانة الولايات المتحدة وقوتها العالمية.

ولأن العراق كان أكثر تطوراً بكثير من أفغانستان، وكان لديه إلى حد كبير دولة تعمل بكامل طاقتها، فإن اتخاذ الولايات المتحدة إجراءات ضد عملائها العراقيين السابقين الذين تخلوا عنهم بسبب الرعاية الإيرانية، سيعني الاعتراف بأن سياسة واشنطن الخارجية، أي "حربها على الإرهاب"، خلال العقدين الماضيين لم تكُن سوى فشلٍ ذريعٍ وإهدارٍ هائل لموارد بتريليونات الدولارات، ومن ثم فإن منطقهم موجَّه نحو "التوازن" ضد إيران على أمل إنقاذ شيءَ ما كانوا يفشلون فيه فشلاً ذريعاً.

ورغم أن واشنطن كانت سعيدةً للغاية بتدمير بغداد وتركيع العراق بسبب مزاعم كاذبة (حتى إنها قصفت العراق من قبل بسبب مؤامرة اغتيال مزعومة ضد الرئيس السابق جورج إتش بوش عام 1993)، فقد سمحت إلى حد كبير لطهران ووكلائها بالمرور بحرية عبر الحقائق المؤكَّدة. وكان اغتيال الرئيس ترمب لقاسم سليماني في 2020 هو الاستثناء الذي يثبت القاعدة في السياسة الخارجية الأمريكية.

إن مثل هذا التواطؤ مع إيران ووكلائها في العراق لا يأتي بنتائج عكسية على الأمن الغربي فحسب، بل يؤثّر أيضاً في حياة المجتمعات في جميع أنحاء الشرق الأوسط التي مزَّقها مَيل إيران إلى خلق مشكلاتٍ مثل داعش، فقط لتُظهِر نفسها على أنها الحلّ الوحيد لنفس الكابوس الذي خلقته.

الآن تتوسَّع إيران ودولتها العراقية المهزومة لتتجاوز مجرد خلق مشكلاتٍ في الجوار الشرق أوسطي لإثارة الأذى في أوروبا. تحتاج الولايات المتحدة والغرب إلى الكفِّ عن تقويض أنفسهم، والقطع مع "حلفائهم" العراقيين، وتقليص خسائرهم، والعمل على انتزاع أحد أكبر مكاسب إيران في العقدين الماضيين منهم.

جميع المقالات المنشورة تعبِر عن رأي كُتَابها ولا تعبِر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي