تصميم يوضح فكرة عزل روسيا عن الإنترنت. الصورة نقلا عن موقع techzdudes. (Others)
تابعنا

منذ بداية هجومها على أوكرانيا قبل نحو شهر من الآن، ظهرت روسيا وكأنها تمسك بزمام المبادرة إلى حد كبير. فقد بادرت بالاجتياح العسكري بشكل واسع على الرغم من أن الغالبية العظمى من المتابعين كانوا يمنون النفس بأن هذا الحشد العسكري الروسي على حدود أوكرانيا ما هو إلا لإظهار العضلات من أجل إجبار كييف والعواصم الغربية من خلفها على الانصياع للمطالب الروسية. غير أن ما أفلت من يد روسيا هي جبهة أخرى يبدو أنها لم تحسب لها ذلك الحساب الكافي، وهي جبهة الإنترنت والعالم الافتراضي، والذي يبدو أن الأدوار فيها قد انعكست لتحتل روسيا دور الدفاع وليس الهجوم، وهو الأمر الذي قاد الكثيرين للتساؤل إذا ما كان هذا الهجوم الرقمي على روسيا من شأنه أن يقطع عنها الإنترنت أو يؤدي إلى اتخاذ روسيا قراراً بقطع الانترنت وعزل نفسها عن الشبكة العالمية؟

فور الاجتياح الروسي للأراضي الأوكرانية، سارعت غالبية الشركات التكنولوجية الكبرى إلى سحب عملياتها، أو قطع خدماتها عن روسيا. شركات التواصل الاجتماعي مثل ميتا (فيسبوك)، وتويتر، قطعتا خدماتهما عن روسيا. لتلحق بهما شركات جوجل ومايكروسوف، وعديد من الشركات المالية المزوِّدة لخدمة البطاقات الائتمانية. وعندها لم يعد محبي الأفلام والدراما الروس قادرين على الوصول إلى شبكة نيتفليكس، ولم يعد المؤثرون قادرين على رفع فيديوهاتهم القصيرة على تطبيق تيك توك، كما لم يعد العاملون المستقلون قادرين على إيجاد عمل على منصة UPWORK.

كان التوجه أن تكون روسيا منبوذة رقمياً. فلم تقتصر الإجراءات على ما تم ذكره، بل قامت كيانات سياسية مثل الاتحاد الأوروبي بحجب مصادر الأخبار الروسية بشكل كامل من الإنترنت، بحيث أصبح المحتوى الذي ينشر على محطة RT، ووكالة سبوتنيك الروسيتين والمملوكتين حكومياً محظوراً بشكل كامل في أوروبا وهو حظر لم يقتصر على حجب المواقع الإلكترونية بل ويفرض على محركات البحث وشبكات التواصل الاجتماعي حذف أي منشورات تكرر أي محتوى من المحتوى الرقمي لهذه المواقع.

لم يكن الهدف عزل روسيا رقمياً فحسب، بل وأيضاً وضعها تحت ضغط هجمات سيبرانية متواصلة. فقد أنشأت أوكرانيا جيشاً سيبرانياً، وأدارته على منصة تليغرام وبلغ عدد المتطوعين فيه المئات بحيث أصبح يجرى الإعداد للأهداف الروسية والهجوم عليها بتنسيق عالي واحترافي، وقد انضمت أيضا حركة Anonymous إلى هذه المجهود حيث وضعت غالبية إن لم يكن كل المواقع الإلكترونية الروسية الرسمية في مرمى هجماتها السيبرانية، فعلى سبيل المثال حدث هجوم سايبراني على الموقع الرسمي للكرملين Kremlin.ru، وموقع مكتب الرئيس الروسي بوتين فتم قطعهما عن الانترنت عبر شن هجوم رفض الخدمة DDoS.

ولتشديد الخناق على روسيا، دعت الحكومة الأوكرانية في وقت سابق منظمة آيكان ICANN (وهي المنظمة المتخصصة في الإشراف على أسماء النطاقات في الإنترنت) إلى تعليق وصول روسيا إلى النظام أي إزالة المواقع التي تنتهي باللاحقة ru من الإنترنت. وبالرغم من عدم استجابة المنظمة لهذا الطلب الأوكراني حيث لا تملك مثل هذه الصلاحيات، فإن هذا الأمر يشير إلى جدية أوكرانيا وحلفائها في تضييق الخناق على روسيا في المجال الرقمي، وحرمان روسيا الوصول إلى الشبكة العنكبوتية.

في الواقع، وجدت هذه الخطوة أصداء لها في غير اتجاه. فإذا كانت "أيكان" غير قادرة على قطع الانترنت عن إحدى الدول لعدم اختصاصها أولاً، ولعدم ملكيتها للإنترنت ثانياً، فإن شركات تكنولوجية أخرى بادرت لاتخاذ خطوة مشابهة إلى حد كبير تهدف إلى حرمان روسيا التمتع بمزايا شبكة الإنترنت. فقد أعلنت شركة Cogent Communications، وهي شركة أساسية للإنترنت تمتلك البنية التحتية التي تنقل البيانات عبر القارات، إنهاء جميع العقود مع عملائها الروس والتي تتضمن عديداً من الحسابات رفيعة المستوى مثل عملاق الاتصالات Rostelecom المقرب من الحكومة الروسية، ومحرك البحث Yandex. وبالرغم من أن هذه الخطوة لن تحرم روسيا كلياً الوصول إلى شبكة الإنترنت لوجود مزودي خدمة آخرين، فإنها قد تعمل على إبطاء الإنترنت وبالتالي حرمان الروس مزايا عديدة توفرها الشبكة.

هذا لا يعني أن روسيا لم تجلس مكتوفة الأيدي تتلقى الهجمات وحسب. فعلى مدار عشرات السنوات، استثمرت روسيا بشكل كبير في مجال الهجمات السيبرانية، وقد نسجت على مدار هذه السنوات وجندت كثيراً من القراصنة لتنفيذ هجماتها السيبرانية، وقد أورد عديد من التقارير شن روسيا عديداً من هذه الهجمات بشكل متزامن مع عملياتها العسكرية، آخرها كان يوم أمس عندما عطل هجوم سيبراني يعتقد أنه من روسيا أحد أبرز مزودي خدمة الإنترنت في أوكرانيا وتدعى Ukrtelecom. هذا فضلا عن تصنيف شركات مثل ميتا وتويتر منظمات إرهابية، وتغريم نشر الأخبار الكاذبة عن الحرب بعقوبة حبس تصل إلى 15 عاماً.

غير أن الأخطر من كل ذلك هو أن هذه الهجمات والإجراءات السيبرانية والرقمية ضد روسيا قد تعزز النزعة القومية للإنترنت National Internet، أو الإنترنت المقسم Splinternet، وهو التوجه الذي بات عديد من الدول مؤخراً يفضل اللجوء إليه لاعتبارات عديدة على رأسها التحرر من هيمنة الشركات الغربية. وبكلمة أخرى، التحرر من التبعية للولايات المتحدة على أساس أن واشنطن هي من أكثر دول العالم نفوذاً على شبكة الانترنت العالمية. وقد ظهر هذا التوجه جلياً مع الصين، وإيران، وإلى حد ما روسيا مؤخراً، وهو توجه يرى فيه نقاده خطراً يهدد بنية وخصائص شبكة الإنترنت العالمية التي تمتعت إلى الآن بالانفتاحية واللامركزية وحرية الوصول إلى المعلومة.

في الحقيقة، اتخذت روسيا في وقت سابق خطوات في اتجاه التحول إلى الإنترنت السيادي، فقد سنت عام 2019 قانوناً دُعي "البرنامج الوطني للاقتصاد الرقمي" يهدف من بين عديد من الأهداف إلى ضمان استقلالية مساحة الإنترنت الروسية التي تدعى Runet بحيث يمكنها الاستمرار في العمل حتى إذا تم قطع الروابط المتصلة بالخوادم العالمية. بطبيعة الحال منح هذا القانون الكرملين سيطرة أكبر على الإنترنت في روسيا، بما في ذلك القدرة على مراقبة النشاط عبر الإنترنت وتتبعه بسهولة بالإضافة إلى تصفية (فلترة) المعلومات، كما تفعل الصين مع جدار الحماية العظيم Great Firewall.

وفي مطلع مارس/آذار الجاري، أصدر الكرملين وثيقتين لتأكيد هذا التوجه إذ طلب من مواقع الويب الروسية الانتقال من خدمات الاستضافة الأجنبية hosting services إلى تلك المملوكة لروسيا وإزالة أي Javascript تم إنشاؤه بواسطة شركات أجنبية (مثل شيفرة التتبع المكتوبة بواسطة Google أو Facebook). يسعى الكرملين خلال هذه الخطوات الاستباقية لإزالة أي اعتماد على التكنولوجيا الغربية يمكن حظرها دون سابق إنذار وبالتالي إسقاط مواقع الحكومة الروسية.

يعد توجه قطع الإنتررنت عن بلد ما، والقيام بإنشاء شبكات محلية ذات صبغة قومية خطيراً للغاية، فهو تهديد كبير للشبكة العنكبوتية العالمية المفتوحة التي أصبحت تعتبر عصب العالم المعلوماتي وشريان اقتصاده. ولنا أن نتخيل كيف سوف يصبح الحصول على المعلومة صعباً مع هكذا توجه. ومن ناحية ثانية سوف يضر بحقوق الفرد بالوصول إلى المعلومات ويُخضِعه لإجراءات رقابية أكثر تعرض خصوصيته وأمنه المعلوماتي للانتهاك أكثر وأكثر. قد يبدو أن قطع الإنترنت عن روسيا إجراءً عقابياً لانتهاكها السيادة الأوكرانية ولكنه سوف يعرض ملايين الروس الرافضين لهذا الغزو لحرمان الوصول إلى المعلومة ومعرفة حقيقة ما يجري

جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي كُتّابها ولا تعبّر بالضرورة عن TRT عربي.



TRT عربي
الأكثر تداولاً