رشقات من صواريخ المقاومة الفلسطينية الموجه باتجاه إسرائيل.  (Amir Cohen/Reuters)
تابعنا

لقد مرت القضية الفلسطينية بسنوات عجاف منذ أن استطاع الاحتلال وشركاؤه إعادة السيطرة على المشهد الإقليمي من خلال "الهجمة المضادة" على مشاريع التغيير والمشاريع المناهضة للتمدد الصهيوني في المنطقة، وبلغت الأمور مستويات متقدمة أثناء إدارة ترمب.

فالنظرية التي تبنتها الولايات المتحدة الأمريكية ودولة الاحتلال منذ 2012 قامت بشكل رئيسي على وأد آمال الشعوب العربية بالحرية والانفكاك عن التبعية الأجنبية، وإغراق المنطقة في حالة من الفوضى والتشظي والمعارك الداخلية، وحرف بوصلة العداء باتجاهات أخرى، ومن ثم البناء على ذلك كله بتشكيل محور من دول عربية حليفة للولايات المتحدة الأمريكية مع دولة الاحتلال تكون فيه الأخيرة سيدة المنطقة وصاحبة الكلمة العليا فيها.

على المستوى الفلسطيني مثلت "خطة ترمب" المسماة "صفقة القرن" عنوان المرحلة خلال السنوات الأخيرة. الأمر الذي أسفر عن اعتراف الإدارة الأمريكية بالقدس عاصمة موحدة لدولة الاحتلال ودعم قرارات حكومة نتنياهو بضم الجولان والضفة الغربية وتوسيع مشاريع الاستيطان.

وعلى المستوى الإقليمي رعت إدارة ترمب مشروع "اتفاقات أبراهام" للتطبيع بين دول عربية ودولة الاحتلال لتمثل الإعلان عن تحالف استراتيجي يعمل على إحداث تحولات عميقة في بيئة المنطقة ومشهدها الأمني والسياسي والاقتصادي والاستراتيجي. وفي ظل حالة الإنهاك التي مرت بها قوى المنطقة ودولها، بدا كأن المشروع الأمريكي الصهيوني يمضي بسلاسة ومن دون أي محاولات تَصَدٍّ حقيقية سوى تلك التي تبنتها إيران وحلفاؤها.

ومع ذهاب ترمب بدأ التنظير للتعويل على إدارة بايدن للتراجع عن هذا المسار. وهو تعويل ثبت أنه في غير محله، فحتى هذه اللحظة لم تتراجع إدارة بايدن عن أي من خطوات ترمب بخصوص دعم قرارات الاحتلال في الضم والتهويد والتطبيع.

وهنا تجدر الإشارة إلى أن مشروع تسليم مقاليد الأمور في المنطقة لدولة الاحتلال الإسرائيلي بدأ فعلياً زمن إدارة أوباما-بايدن التي جرت في ظلها كل عمليات التجريف للمشاريع المناهضة للهيمنة الأجنبية في المنطقة، في سوريا ومصر واليمن وليبيا وغيرها. وإدارة أوباما-بايدن هي التي رعت التوجهات الأولية لبناء حلف من دول عربية ودولة الاحتلال الإسرائيلي.

لكن هذا لا يمنع الإقرار بأن الدعم غير المسبوق والتبني الكامل لإدارة ترمب للاحتلال ومشاريعه لم يعد بنفس الشكل والوتيرة، وهو تغير محدود يمس الشكل جزئياً ويحافظ على نفس الاستراتيجية ولكن بإدارة أقل حدة ولا تدفع إلى الاستفزاز. وهذا هو جوهر فلسفة الإدارات الديمقراطية بالقدرة على إحداث نفس التحولات وتطبيق نفس الاستراتيجية ولكن بكلفة أقل وبعمليات جراحية ومعقدة.

فلسطينياً سعت سلطة محمود عباس لامتصاص مرحلة ترمب ومحاولة المناورة للبقاء في مربع خيارها التقليدي وقاومت كل الضغوط عليها للتخلي عن برنامجها. وركزت جهودها على اجتراح مسارات داخلية تحول دون السماح للجماهير والقوى الفلسطينية بالتصدي لمشروع تصفية القضية الفلسطينية وبخاصة تهويد القدس وضم الضفة. إذ مرت كل مرحلة مشاريع ترمب-نتنياهو من دون ردة فعل حقيقية في الضفة الغربية التي لسلطة عباس وجود فيها والمستهدفة بشكل مباشر ورئيسي من هذه المشاريع.

ومع تصعيد الاحتلال لهجمته في القدس والبدء بمشروع تفريغ الأحياء العربية وفرض إدارة كاملة على القدس والمسجد الأقصى بالتحديد تصدى المقدسيون وسكان حي الشيخ جراح لهذا المشروع واستطاعوا بكل جدارة أن يتجاوزوا حالة الرتابة واللا مبالاة التي كان يريد عباس فرضها بإشغال الوضع الفلسطيني بمسار الانتخابات الذي قفز إلى الواجهة في التوقيت الخاطئ تماماً.

هنا بالتحديد ظهر دور قوى المقاومة في غزة حين تعاملت مع مناورة محمود عباس الانتخابية بجعلها انتخابات تنافسية لا يضمن نتائجها ولا تؤمِّن له ولشركائه مخرجاً من حالة الفشل السياسي والانهزامية التي يقود بها المشهد الفلسطيني. وجاءت هبَّة الشيخ جراح والقدس لتشكل الفرصة الأنسب للمقاومة في غزة لرد الهجمة الصهيونية ووضع خياراتها على الطاولة وتوجيه ضربة إلى كل مشاريع تصفية القضية الفلسطينية التي تمثلت بصفقة القرن وضم الضفة والقدس ومشروع التطبيع.

العنصر الأهم في سلوك المقاومة في غزة هو المفاجأة "للجميع" بأنها تغير المعادلة وتوسع في فعلها المقاوم ليشمل الاعتداءات على القدس وأهلها وأنها على جاهزية سياسية وميدانية لاستخدام قوتها الكامنة في الوقت المناسب. وعنصر المفاجأة هذا استخدمه الاحتلال تاريخياً لفرض أجندته كما استخدمه في المجال العسكري بمباغتة أعدائه في الميدان. وهو اليوم يفقد هذا العنصر على الجبهتين السياسية والميدانية.

لهذه المبادرة الفلسطينية التي تقودها المقاومة في غزة أثرها المتعدي ليشمل مشروع "التطبيع" أو ما يسمى "اتفاقات أبراهام" في المنطقة.

فمشروع التطبيع في معناه الجيوسياسي يعني أن تقود دولة الاحتلال الإسرائيلي تحالفاً إقليمياً هي السيدة فيه وتُلحق بها دولاً أخرى. وتأتي قيادة دولة الاحتلال لهذا المشروع من باب تفوقها في قدراتها العسكرية والتقنية وطبيعة تحالفها مع الولايات المتحدة لتأمين دعم وحماية لدول التطبيع من أعداء مفترضين كإيران والتصدي لنفوذ قوى إقليمية أخرى كتركيا.

الفعل المقاوم من غزة والأداء الميداني الذي أظهر قدرة غير مسبوقة وغير متوقعة على قصف المصالح العسكرية والحيوية لدولة الاحتلال في كل مساحة فلسطين التاريخية أفرغ مشروع التطبيع وتسليم المنطقة للاحتلال من مضمونة. ومنذ الأيام الأولى وأياً كانت نتائج العدوان الإسرائيلي على غزة والمدنيين هناك، فقد حققت المقاومة بغزة جملة من الأهداف الاستراتيجية في ضرب كل المشاريع السياسية التي حاول الاحتلال وشركاؤه تمريرها الفترة الأخيرة. واستطاعت المقاومة أن تظهر هشاشة دولة الاحتلال العاجزة عن حماية نفسها من صواريخ المقاومة محلية الصنع. فالصورة البائسة التي ظهرت بها منظومات الدفاع الإسرائيلية وقدرة المقاومة على استهداف مشاريع حيوية كمشاريع الطاقة والغاز سيثير لدى جميع الأطراف أسئلة مستحقة حول قدرة دولة الاحتلال على لعب دور حيوي وقيادي إقليمي.

يضاف إلى هذا المشهد هبَّة فلسطينيي الداخل المحتل التي برهنت بما لا يدع مجالاً للشك على أن دولة الاحتلال أضعف مما تحاول تقديم نفسها به، وأن لدى الاحتلال خاصرة رخوة وحساسة لم تعد بمنأى عن الفعل الفلسطيني المقاوم وتتأثر به. فكل مشاريع "الأسرلة" الثقافية والديموغرافية سقطت بهذه المواجهة. واستطاع الشعب الفلسطيني في الداخل والقدس وغزة وكل أماكن وجوده تثبيت روايته التاريخية والعودة في الصراع إلى المربع الأول المتمثل بأحقيته في هذه الأرض وأن دولة الاحتلال هي مشروع إحلال لمجاميع سكانية مكان شعب له هويته وأرضه.

المتوقع من هذه الجولة أن تلعب دوراً أساسياً في تغيير المعادلة الفلسطينية الداخلية وأن تدشن مرحلة جديدة تكون فيها لقوى المقاومة بغزة القدرة على إدارة المشهد الفلسطيني وتأطيره بمشروع مقاوم وكسر حالة الجمود واللا مبالاة الانهزامية التي يتبناها محمود عباس وشركاؤه. وهذا يتطلب مغادرة حاسمة وقاطعة لكل مسارات الإلهاء التي يحاول عباس تقطيع الوقت من خلالها والترويج لرهاناته التقليدية بتغيرات في الإدارة الأمريكية أو تحولات في مواقف القوى الدولية التي سئم الشعب الفلسطيني من انتظارها أو التعويل عليها.

جميع المقالات المنشورة تعبِر عن رأي كُتَابها ولا تعبِر بالضرورة عنTRTعربي.

TRT عربي