يمكن رؤية جثث المهاجرين الذين دفعتهم اليونان وتجمدوا حتى الموت على الأرض في قرية باشاكوي بمنطقة إبسالا بالقرب من الحدود اليونانية ، أدرنة ، شمال غرب تركيا (AA)
تابعنا

وكما العادة بدت تركيا وحيدة في موقفها الغاضب والمصداق ليس فقط تجاه الإجرام اليوناني والنفاق الغربي وإنما في تعاملها مع ملف اللاجئين وملفات المنطقة الأخرى بشكل عام.

كانت اليونان قد ألقت الأسبوع الماضي بعشرات اللاجئين إلى المنطقة الحدودية مع تركيا بعد تجريدهم من ثيابهم وحتى أحذيتهم في ذروة العاصفة الثلجية التي ضربت المنطقة. الجريمة اليونانية الموصوفة أدت إلى مقتل 19 لاجئاً برداً وتجمُّداً وإصابة آخرين مع استمرار محاولات السلطات التركية البحث عن ضحايا أو مصابين جدد لإنقاذهم.

قتل مع سبق الإصرار

السلطات اليونانية رغم العاصفة الثلجية القاسية والشديدة التي عاشتها المنطقة ووصول درجات الحرارة إلى ما تحت الصفر بكثير، فإنها جردت اللاجئين من ثيابهم وأحذيتهم وهواتفهم وألقتهم ليلاً في المنطقة الحدودية دون طعام أو شراب أو حتى إبلاغ السلطات التركية عنهم، وبدت نية القتل واضحة جلية هنا دون أدنى شك وبأبشع طريقة ممكنة في تَصرُّف بربري وهمجي يتناقض مع المواثيق والقوانين الدولية ذات الصلة.

الجريمة سلطت الضوء مرة أخرى على الممارسات، بل الجرائم اليونانية المنهجية تجاه اللاجئين لجهة تجاوز القوانين والمواثيق الإنسانية الدولية وحتى الأوروبية التي تلتزمها أثينا نظرياً، علماً أنها عضو في الاتحاد الأوروبي مع الانتباه إلى أن المنظمات الحقوقية الدولية تتحدث منذ سنوات في تقاريرها وفيديوهاتها الموثَّقة وبشكل متواصل عن سوء معاملة أثينا للاجئين والاعتداء عليهم جسدياً والتنكيل بهم بكل الوسائل بما في ذلك تعمُّد إغراق قواربهم في البحر لمنعهم من الوصول إلى أراضيها رغم أن هؤلاء محميُّون حسب القانون الإنساني الدولي، إضافة إلى استخدامهم الأراضي اليونانية فقط كممرّ للعبور نحو الدول الأوروبية الأخرى.

تبدو اليونان هنا كأنها تقوم بدور شرطي الحدود المرتزق للاتحاد الأوروبي دون أي وازع أخلاقي، بما في ذلك تعمُّد البطش متعدد الأشكال والمستويات باللاجئين وبدم بارد لمنعهم حتى من مجرد التفكير في عبور أراضيها إلى أوروبا.

ردود فعل خجولة

كما الجرائم السابقة لم تثر الجريمة اليونانية الأخيرة للأسف ورغم بشاعتها أي ردود أفعال جدية عالمية غربية تحديداً، ورأينا مثلاً بيانات خجولة جدّاً ومتلعثمة لألمانيا وأمريكا بدت حتى كأنها تتفهم ما يفعله شرطي حرس الحدود اليوناني ودون إدانة قوية للقتل، مع عبارات ضبابية وناعمة لم تصل طبعاً إلى حد الدعوة إلى التحقيق في الجريمة البشعة احتراماً لحقوق الإنسان والقوانين الأوروبية والدولية ذات الصلة.

في الحقيقة لا يبدو الموقف الغربي المنافق مفاجئاً، واليونان تفهم طبعاً تلك البيانات على حقيقتها بصفتها مجرد ثرثرة وضريبة كلامية وتبييض للمواقف لأنها عملياً تتلقى الدعم الغربي غير المحدود ومتعدد المستويات، أيضاً سياسياً واقتصادياً وعسكرياً وأمنياً رغم سياستها ومواقفها الطائشة في شرق المتوسط وقبرص، وقبل ذلك وبعده انتهاكها المنهجي والمتعمد لحقوق اللاجئين.

إذاً الدعم الغربي واضح لليونان ولا يقتصر على ملف اللاجئين وإنما يشمل السياسة العدوانية شرق المتوسط وقبرص، ما يشجع أثينا على المضي قدماً، علماً أن أمريكا أقامت قواعد عسكرية لها بجزر يونانية قرب مناطق متنازع عليها مع تركيا فيما أبرمت باريس معها صفقات بمليارات الدولارات رغم معاناتها من أزمات اقتصادية، ويبدو أن هذا الدعم العسكري أذهب صواب أثينا وأوصلها حتى إلى درجة التفكير جدياً في إعلان الحرب ضد تركيا قبل أن تعود إلى رشدها وأرض الواقع وتعرف أنها خاسرة لا محالة كونها أصغر من الذهاب إلى الحرب أو المواجهة حسب التعبير الحرفي لوزير الدفاع التركي خلوصى أقار.

أما ردّ الفعل التركي تجاه الجريمة اليونانية فجاء مصداقاً وإنسانياً ومعبراً عن انسجام أنقرة مع مبادئها وقناعاتها ومواقفها المعلنة، إذ شرعت السلطات المعنية مباشرة في البحث عن اللاجئين بالمناطق الحدودية لمساعدتهم وتقديم الإغاثات والمساعدات العاجلة لهم ونقل المصابين إلى المستشفيات ومراكز الإيواء.

هنا لا بد من الانتباه لما قدّمته وتقدّمه تركيا من دعم للاجئين بما في ذلك استضافة قرابة 4 ملايين منهم، وتقديم الخدمات والمساعدات اللازمة لهم، علماً أن الغرب يتجاهل ذلك عن عمد، بل ويزيد الضغوط على أنقرة في ملفات متعددة مرتبطة أساساً بموقفها المحقّ والإنساني من قضية اللاجئين، ورفض التحول إلى حرس حدود أو خفير لبوابات الاتحاد الأوروبي، طبعاً دون تجاهل الدور المركزي الذي تلعبه تركيا في الملفات الإقليمية والدولية التي لا غنى عنها مثل إمدادات الطاقة ومكافحة الإرهاب.

استخدام المعايير المزدوجة

إلى ذلك رفعت تركيا الصوت عالياً ضد الجرائم والممارسات اليونانية، كما سلّطت الضوء على النفاق الغربي الأوروبي واستخدام المعايير المزدوجة، وإحداث ضجة كبيرة تجاه السياسات التركية في قضايا داخلية وخارجية رغم أنها تستند أساساً إلى القوانين والمواثيق الدولية وحق أنقرة المكفول في الدفاع عن أمنها ومحاربة الإرهاب الذي يستهدفها.

في قصة اللاجئين والنفاق الغربي، وإضافة إلى ما سبق ولا يقلّ عنه أهمية دعم الغرب المنهجي للأنظمة الاستبدادية وسكوته عن جرائمها في العالم العربي وإفريقيا، علماً أن تلك الأنظمة هي المسؤولة أساساً عن هجرة اللاجئين إثر عجزها عن توفير الحد الأدنى من الحياة الكريمة لمواطنيها. وهنا لا بأس من التذكير بالتحقيق الموثَّق لمنظمات حقوقية دولية عن دعم وتمويل الاتحاد الأوروبي لمعسكرات اعتقال اللاجئين الأفارقة في ليبيا التي تُنتهك فيها حقوقهم بشكل فظّ ومنهجي فقط لمنعهم من الوصول إلى أراضيه.

للمفارقة أيضاً، تزامنت الجريمة اليونانية والنفاق الغربي تجاهها مع نشر منظمة العفو الدولية "أمنستي" تقريرها الموثَّق بالأدلَّة والوقائع حول نظام الفصل العنصري الممنهج والمتعمد ومتعدد المستويات الذي تتبعه إسرائيل ضد الفلسطينيين في أماكن وجودهم المختلفة وردود الفعل الغربية الباردة التي تجاهلت التقرير، كما تقارير منظمات حقوق الإنسان الأخرى حول الجرائم اليونانية مع استخدام مسيَّس لتلك التقارير تجاه الخصوم والمنافسين في الصين وروسيا وإيران.

من زاوية أخرى ربما يشرح ويفسر لنا هذا خلفيات التحالف اليوناني-الإسرائيلي شرق المتوسط، والدعم الغربي لهذا التحالف، وإذا كانت إسرائيل شرطي الغرب وعلى مدى عقود في الشرق الأوسط فقد أصبحت اليونان شرطي الحدود البحرية له شرق المتوسط، بخاصة بعد اكتشاف الثروات الطبيعية وموارد الطاقة الهائلة فيه، ومع تدفق موجات اللاجئين والمهاجرين إلى أوروبا خلال العقد الأخير تحديداً.

في الأخير بتركيز واختصار، فضحت الجريمة البشعة بحق اللاجئين وقتلهم بدم بارد حقيقة السياسات اليونانية العدوانية والدموية والدعم الغربي المستتر وحتى العلني لها، وقبل ذلك وبعده نقضت مرة أخرى كل الخطابات الغربية حول الديمقراطية وحقوق الإنسان والمعايير المزدوجة التي يتم استخدامها حيث يحقّ للحلفاء والأدوات والمرتزقة ما لا يحقّ لغيرهم.

جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي كُتّابها ولا تعبّر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي