تابعنا
يعدّ مبدأ التناسب أحد المبادئ الأساسية والمعقدة في الوقت ذاته التي تحكم قانون الحرب وسير الأعمال العدائية بين الأطراف، والذي يعني أن تكون الهجمات العسكرية متناسبة مع الميزة العسكرية المتوخاة منها، وألا تسبب ضرراً مفرطاً بين المدنيين والأعيان المدنية.

يقترب العدوان الإسرائيلي الواسع على غزّة من اختتام شهره الثالث، بحصيلة خسائر فادحة بين الفلسطينيين (أكثر من 20 ألف شهيد) ودمار غير مسبوق، وسط اعترافات دولية بأنّ ما تعرّض له القطاع المحاصر فاق كل الحروب والصراعات التي اندلعت في القرن الـ21.

ومع استمرار الحرب، تتعالى الأصوات المندّدة بها على اعتبارها تمثل نموذجاً صارخاً على انتهاك إسرائيل لقواعد قانون الحرب، أو ما يعرف القانون الدولي الإنساني، وخاصة مبادئه الأساسية المتمثلة في التناسب والضرورة والتمييز بين المدنيين والعسكريين، وكذلك أخذ الاحتياطات في أثناء الهجوم.

وتهدف مبادئ القانون الدولي في مجملها إلى اتخاذ كل التدابير اللازمة والملائمة للحفاظ على حياة المدنيين وكرامتهم خلال الصراع.

غير أنّ الارتفاع غير المسبوق في أعداد الشهداء الفلسطينيين والجرحى من جهة، والدمار الهائل في أنحاء القطاع، أعاد تسليط الضوء على السؤال الذي دأبت أوساط حقوقية على طرحه مع كل عملية عسكرية واسعة يقوم بها الجيش الإسرائيلي، والمتمثل في مدى التزامه بقواعد وأحكام القانون الدولي الإنساني؟

انتهاك مبدأ التناسب

ويعدّ مبدأ التناسب أحد المبادئ الأساسية والمعقدة في الوقت ذاته التي تحكم قانون الحرب وسير الأعمال العدائية بين الأطراف، والذي يعني أن تكون الهجمات العسكرية متناسبة مع الميزة العسكرية المتوخاة منها، وألا تسبب ضرراً مفرطاً بين المدنيين والأعيان المدنية، وقد جرى تقنين هذا المبدأ في البروتوكول الإضافي الأول لاتفاقيات جنيف (مادة 51/5/ب).

أحد التعقيدات في هذا المبدأ، يتمثل في سعيه لتحقيق التوازن بين هدفين متناقضين، إدراكاً لاستحالة تحييد المدنيين بشكل مطلق عن الهجوم، إذ يدفع المبدأ بتقديم أكبر قدر من الحماية للمدنيين من جهة، وفي الوقت ذاته أن تؤدي تلك الهجمات إلى تحقيق ميزة عسكرية من جهة أخرى، شريطة ألا يتسبّب بضرر مفرط للمدنيين يتجاوز تلك الميزة.

وخلال الأسابيع الأولى للحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، عمد جيش الاحتلال في هجماته إلى استخدام قنابل تزن 2000 رطل تعتبر مدمّرة وقادرة على التسبب بأضرار جانبية كبيرة، كما خلص تقييم للاستخبارات الأمريكية إلى أنّ نصف الذخائر جو-أرض التي استخدمتها إسرائيل في قصف غزة كانت غير موجّهة، ما يعني أنّها كانت أقل دقة، ما تسبب في ارتفاع عدد الضحايا في صفوف المدنيين.

وفي واقع الأمر فإنّ إسرائيل كانت عرضة للانتقادات الدولية بسبب استخدامها غير المتوازن للذخائر في عملياتها العسكرية المختلفة، ففي الحرب الإسرائيلية على لبنان عام 2006، خلصت لجنة التحقيق الدولية المشكّلة من مجلس حقوق الإنسان، إلى أنّ الجيش الإسرائيلي "استخدم بشكل مفرط وعشوائي وغير متناسب للقوة، يتجاوز الحجج المعقولة للضرورة العسكرية ولمبدأ التناسب".

كما أشارت اللجنة إلى أنّ استخدام الجيش الإسرائيلي حينها لأنواع معينة من الذخائر كالقنابل العنقودية، لم يحقق أي ميزة عسكرية، وإنما كجزء من استهداف واسع النطاق ومنهجي للمدنيين وممتلكاتهم وفقاً لخطة مدروسة، مخالفاً مبدأي التمييز والتناسب، ومن ثمّ أحكام القانون الدولي الإنساني.

وقد انسحبت تلك الانتقادات على الاعتداءات العسكرية الإسرائيلية في غزة، وفي هذا السياق خلصت لجنة التحقيق الدولية الخاصة بالحرب الإسرائيلية على غزة عام 2008-2009، إلا أنّ الكثير من الأحداث التي أدت إلى استشهاد مدنيين استندت "بشكل عام إلى سياسة متعمدة قوامها ممارسة القوة غير المتناسبة.

وأشارت إلى أن القوّة لم تتوجّه إلى العدو بل إلى الهياكل الأساسية الداعمة له أي إلى المدنيين، وذلك استناداً إلى سلوك قوات الجيش الإسرائيلي خلال الحرب وتصريحات مسؤولين سياسيين وعسكريين حينها.

كما أشار تقرير لجنة التحقيق في الحرب على غزة عام 2014 إلى أنّ إسرائيل كانت تشنّ هجمات غير متناسبة، وتوقع أعداداً كبيرة من الضحايا المدنيين ما قد يرقى إلى حدّ اعتبارها جرائم حرب.

مبدأ التناسب من منظور إسرائيلي

وعمدت تل أبيب إلى مخالفة ما تضمّنته السوابق القضائية الإسرائيلية، وكذلك دليل إسرائيل لقواعد الحرب الصادر في عام 2006، التي أكّدت الالتزام بمبدأ التناسب، وعدم جواز شن هجوم إذا كانت الأضرار الجانبية تفوق الميزة العسكرية المتوقعة من هذا الهجوم.

فقد انخرطت إسرائيل في محاولة التوسع في الإطار العام المتعلق بالميزة التي سيُحققها الهجوم العسكري، وذلك من خلال اعترافها بمعيارين يحددان مدى التزام الجيش بمبدأ التناسب بغضّ النظر عن حجم الخسائر في صفوف المدنيين.

ويرتبط المعيار الأول بالهدف العام للعملية العسكرية برمّتها، وفي هذه الحالة فإنّ إسرائيل لا تلتزم بالتفسيرات الدولية الخاصة بتحديد الميزة العسكرية التي يفترض أنّها تناقش كل عمل عسكري على حدة، وتشترط أن تكون الميزة العسكرية المتحققة من وراء الهجوم مباشرة وملموسة، لكون أنّ هذا الشرط سيقيّد سلوك الجيش الإسرائيلي.

فعلى سبيل المثال لا يبرر مبدأ التناسب لإسرائيل أن تقصف مربعاً سكنياً بأكمله في مخيم جباليا تسبب في استشهاد 400 مدني دفعةً واحدةً، بذريعة استهداف قيادي كبير في حماس، بينما قد ترى إسرائيل أنّ في سبيل هدف القضاء على حماس، فإنّ تدمير وسحق قطاع غزة وقتل الآلاف من المدنيين يمثّل ثمناً معقولاً لا ينتهك مبدأ التناسب.

وفي تعليقها على الاتهامات المتعلقة بانتهاك مبدأ التناسب خلال الحرب على لبنان 2006، أشارت وزارة الخارجية الإسرائيلية إلى جملة من القضايا ذات الصلة، ومن بينها أنّ المدنيين لا يتمتعون بالحصانة المطلقة، على اعتبار أنّ وجودهم في ما تعتبره إسرائيل حينها أعياناً عسكرية لن يجعلهم بمأمن من الهجوم.

فضلاً عن أنّ الميزة العسكرية المرجوّة لا تتعلق بالهجوم المحدد، إنّما من العملية العسكرية كلها، وهو تفسير استندت إليه من الدليل العسكري الألماني الذي يتبنى هذا التوجّه.

وبينما برّرت الخارجية الإسرائيلية سلوك الجيش الإسرائيلي انتهاك مبادئ قانون الحرب الأخرى خلال الحرب على غزة عام 2014، ومن بينها مبدأ التحوّط في أثناء الهجوم كعدم تحذير المدنيين قبل عمليات القصف، إلى سعي الجيش تحقيق الميزة العسكرية كتدمير البنية التحتية العسكرية للمقاومة، وهي في المجمل أهداف تخدم الميزة العسكرية للعملية العسكرية ضد غزة حينها، والمتمثلة في القضاء على قدرات حماس العسكرية.

وفي ورقة قانونية لمعهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي INSS، لمناقشة الحرب الحالية على قطاع غزة، طرحت العقيد احتياط (بنينا شارفيت باروخ) التي عملت مستشارةً قانونيةً رئيسيةً للجيش الإسرائيلي بين العامين 2003 إلى 2009، جملة من الآراء التي تبرر انتهاكات الجيش الإسرائيلي في غزة.

وتخلص باروخ إلى أنّ وجود بنية تحتية عسكرية في قلب المنشآت المدنية بينها المدارس والمستشفيات والمساجد، كما يزعم الجيش الإسرائيلي، فإنها تصبح أهدافاً عسكرية مشروعة بعد أن فقدت طبيعتها المدنية، في ضوء القانون الدولي الإنساني وخاصة مبادئ التناسب والضرورة الحربية وأخذ الاحتياطات في أثناء الهجوم.

كما أنّها اعتبرت "التهديد الهائل الذي تمثله حماس لإسرائيل"، يجعل من حرمانها من قدراتها العسكرية ميزة أمنية كبيرة لإسرائيل، وفي ضوء ذلك لا تمثّل الخسائر بين المدنيين أضراراً عرضية مفرطة، وبالتالي لن تعتبر هجمات غير متناسبة.

وأما المعيار الثاني فهو "القائد العسكري العاقل"؛ وهو معيار جرى طرحه في العديد من الكتب العسكرية لجيوش دول غربية، وقد أسهبت وزارة الخارجية الإسرائيلية في توضيح موقفها منه استناداً إلى حكمين سابقين للمحكمة العليا هناك.

ويبرز المعيار في تبرير التزام إسرائيل بمبدأ التناسب، أي إنّ الشخص الذي يخطط للهجوم أو يقرّه أو يشرف على تنفيذه هو المسؤول عن مراجعة ما إذا كان يحقق الهجوم ميزة عسكرية، من دون تحقيق أضرار مفرطة في المدنيين أم لا.

وتشير وزارة الخارجية الإسرائيلية في ورقتها المذكورة أعلاه بشأن الحرب مع لبنان عام 2006 إلى أنّ أحد المبادئ الحاكمة لـ"القائد العسكري العاقل" يرتبط في أنّ تناسب الرد على الهجوم "لا يقاس في ضوء هجوم محدّد تتعرض له الدولة، وإنما فيما هو ضروري لإزالة التهديد الشامل".

وتلجأ دولة الاحتلال الإسرائيلي إلى هذه التفسيرات للمناورة أمام أي انتقادات دولية بشأن الانتهاكات التي ترتكب خلال الأعمال الحربية، وقد أشارت الوزارة في تقريرها بشأن الحرب على غزة عام 2014 إلى أنّ منظور التحليل القانوني لمبدأ التناسب فيما يتعلق بهذا المعيار، لا يقوم على الإدراك المتأخر لحصيلة الهجوم، وإنما على رؤية "القائد العقلاني" وقت الهجوم.

وفي هذا الصدد جرى الاعتراف بأنّ الجيش لا يتمكن من الحصول على جميع المعلومات المتعلقة بالأضرار الجانبية المحتملة في معظم المواقف التي يرى فيها الجيش أنّه من الضروري القيام بهجوم ما، وأنّ التقدير حينها سيكون بناء على معلومات جزئية حول وجود مدنيين في المكان أو طبيعة الهياكل المحيطة في موقع الهجوم.

ومن المهم الإشارة إلى أنّ مبررات الجيش الإسرائيلي لحربه على قطاع غزة عام 2014 والتي خلفت أكثر من 2000 شهيد، لم تقنع فريق تقصّي الحقائق الذي اعتبر أنّ وقوع عدد كبير من الضحايا وتدمير كلي أو جزئي في المباني، لم يكن ليغيب عن عقل أي "قائد عسكري عاقل" عند قرار الهجوم، عدا عجز الجيش الإسرائيلي لاحقاً تبرير هجماته التي أدّت إلى دمار واسع في البنى التحتية ومئات الشهداء.

فإنّ الحرب الحالية على غزة التي خلّفت أكثر من 20 ألف شهيد، قد تدفع فرق التحقيق الدولية وأي جهة مستقلة إلى تبنّي سردية تعمّد الجيش الإسرائيلي إحداث أكبر قدر من القتل والتدمير في قطاع غزة بغضّ النظر عن وجود ميزة عسكرية حقيقية في إطار حربه على المقاومة.

جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي
الأكثر تداولاً