الذكاء الاصطناعي (Others)
تابعنا

وهو كذلك سلاح يمكنُ توظيفه في العلاقات الدولية، انطلاقاً من عدة أوجه أحدها أن اقتصاد الذكاء الاصطناعي محط تنافسِ بين الدول الكبرى عالمياً، وكذلك بات الذكاء الاصطناعي يقدمُ أسلحة تنتمي إلى مختلف أنواع الحروب يمكن توظيفها من طرف الدول المتقدمة، ومن هذا المنطلق أُلّفت مئات الكتب حول علاقة الذكاء الاصطناعي بالسياسة والديمقراطية من جهة وكذا علاقة الذكاء الاصطناعي بتجاذبات العلاقات الدولية من جهة أخرى.

و رغم غزارة الكتب التي أنتجت حول الموضوع إلا أنها كانت تفتقرُ لانخراط أرباب وكبار النظريات الكلاسيكية في العلاقات الدولية، بخاصة مُنظري النظرية الواقعية سواء في نسختها الكلاسيكية أو الجديدة، وهنا تكمنُ أهمية انخراط أحد منظري الواقعية الكلاسيكية (المتبقين على قيد الحياة ) مثل هينري كيسنجر حينما أخرج كتاباً مشتركاً "عصر الذكاء الاصطناعي: ومستقبل الإنسان" الصادر نوفمبر 2021 مع كلٍ من عميد كلية شوارزمان بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا MIT "دانييل ب. هاتنلوكر" (Daniel P. Huttenlocher) والمدير التنفيذي السابق لغوغل ايريك شميث (Eric Schmidt)، سبب صدور هذا الكتاب إدراكهم المشترك أن الإنسانية تقف على شفا لحظة ذات أهمية قصوى يحضر فيها التقني بشكلٍ كبير.

قوة الذكاء الاصطناعي المتنامية يمكنُ استخدامها للأغراض العامة لتخدم الأغراض المدنية والعسكرية النافعة للديمقراطية والضارة لها في الوقت نفسه، وربما هذا هو ما دفع هينري كيسنجر إلى أن ينخرط اليوم في هذا النقاش الكوني، فهو بانخراطه لا يناقض نظرياته المنتمية للواقعية التي ترى أن السلطة والقوة الملموسة هي ما يحركُ مواضيع النقاش في العلاقات الدولية، بل على النقيض من ذلك فانخراط كيسنجر من خلال هذا الكتاب في موضوع الذكاء الاصطناعي، مردهُ أن التقنية اليوم أمست قوة ملموسة، وسلاحاً لا يجبُ فقط تملكهُ بل احتكاره ومنع المنافسين من التفوق فيه، وذلك على غرار الأسلحة النووية التي أدخلت العالم في حرب باردة، وإشارتي هنا إلى الحرب الباردة مردها أن كيسنجر أحد مهندسي هذه الحرب لأنه أدرك خطورة السلاح النووي في العلاقات الدولية، وهو اليوم حينما يكتبُ عن الذكاء الاصطناعي وأثره في العلاقات الدولية، فإنه يحملُ معه موروث الحرب الباردة مع إدراكه للمتغيرات الجديدة، فكيسنجر صاحب كتاب "عن الصين" يعرف أن الصين اليوم ليست هي الاتحاد السوفييتي، وكيف لا وهو من القلائل الذين التقوا بجميع زعماء الصين الشعبية منذ زمن ماو.

كيسنجر وبقية مؤلفي الكتاب يدركون اليوم بشكلٍ كبير التحدي الذي تفرضه التقنية بصفة عامة، والذكاء الاصطناعي بصفة خاصة على المفاهيم المتجذرة عبر القرون مثل الأمن القومي وسيادة الدولة، بل يرى المؤلفون أن الذكاء الاصطناعي سيختبر أيضاً الحدود الخارجية للعقل البشري وفهمه وسيتحدى طبيعة الهوية البشرية وفاعليتها، أي بصيغة أخرى بات الذكاء الاصطناعي تحدياً واقياً للبشرية جمعاء.

التقنيات العسكرية مثل الأسلحة السيبرانية، تضاعفت مؤخراً وأصبحت أكثر تدميراً، بينما أصبح تحديد طبيعة ووتيرة استراتيجيات استخدامها صعب الضبط. الأسلحة الإلكترونية المعززة بالذكاء الاصطناعي يمكن أن تؤدي إلى "انهيار سريع" للنظام مثلها مثل القنبلة النووية، وفي هذا الصدد يرى المؤلفون أن الذكاء الاصطناعي يتمتع بقدرته على رفع احتمال القدرات التقليدية والنووية والإلكترونية بطرق تجعل العلاقات الأمنية بين المنافسين أكثر صعوبة سواء في التعامل أو في التنبؤ.

على الرغم من أن كيسنجر يعدُ أحد خبراء الولايات المتحدة الأمريكية في الشأن الصيني، كما أن شميدت ترأس تقرير لجنة الأمن القومي الأمريكي الأخير حول الذكاء الاصطناعي الذي حذر من القوة التكنولوجية المتنامية للصين، إلا أن الكتاب لا يقدم نظرة ثاقبة عن طموحات بكين كما قد يتوقع القارئ، وذلك على عكسِ ما فعلهُ مثلاً كي فو لي في كتابه “القوى العظمى للذكاء الاصطناعي”(AI superpowers) ، والذي شرح فيه لما الصين قوية في هذا المجال وكيف طورت قدراتها فيه.

في المقابل فإن مؤلفي الكتاب بما فيهم كيسنجر يحثون الولايات المتحدة والصين على التحدث مع بعضهما البعض بشكل مباشر ومنتظم حول مبادئهم الإلكترونية وخطوطهم وكذابناء نظام يضبط هذا المجال بينهما، وأنا هنا أذكر القارئ بالحرب الباردة ودور كيسنجر في سن قوانينها مع الاتحاد السوفياتي، وكان كيسنجر مرفوقاً ببقية المؤلفين يتلمسون دخول البشرية لحرب باردة جديدة أحدُ أسلحتها هو الذكاء الاصطناعي لذا وجب ضبط وتقنين هذه الممارسة حوله، ولكن السؤال الذي يجري تجاهله في الكتاب هو ما دور شركات التكنولوجيا في هذه المعادلة وذلك رغم كون أن أحد مؤلفي الكتاب كان مديراً تنفيذياً لغوغل؟ ومردُ هذا السؤال كون أنه في حقبة الحرب الباردة "الأولى" كانت الدولة هي الفاعل الوحيد والمحتكر لعنف "القنبلة النووية" وسعت لشرعنتها (حسب تصور ماكس فيبر للعنف المشروع) ، ولكن اليوم بات اللاعب الاقتصادي المتجسد في شركات التقنية التي يتجاوز رأس مال بعضها الترليون دولار أحد اللاعبين الكبار في هذا المشهد، فإن كانت الصين قادرة على ضبط المشهد داخلها بفعل سلطة الدولة والحزب كما حدث مع جاك ما وشركته "آنت"، فإن الولايات المتحدة عاجزة حتى هذه اللحظة عن ضبط شركات التقنية بشكل تام، وعجزها على تطبيق قانون الاحتكار نموذج على ذلك، وهو ما يمكنه أن يجعل طرح كيسنجر ضعيفاً، وموقف الولايات المتحدة فيه أكثر ضعفاً.

ما يحسبُ للكتاب وبخاصة كيسنجر انخراطه في سؤال الذكاء الاصطناعي؛ هذا الانخراط كفيل بإعادة توجيه بوصلة الأكاديميين المنشغلين بنظرية الواقعية في تفاعلهم مع الظواهر السياسية إلى إعطاء مزيد اهتمام بقيمة التقنية وأثرها على المشهد السياسي، ولكن ما يحسب على الكتاب هو أنه لم يقدم تصوراً واضحاً ينتمي كلياً للواقع الحالي بل اكتفى بوضع خطوط عريضة مرتبطة بوجود تحديات حقيقية في مجال الذكاء الاصطناعي. فهل هذه التحديات اليوم تحتاج إلى تعاونٍ دولي مكثف بين مختلف الدول حتى الاتحاد الأوروبي الذي يعدُ متخلفاً عن الركب في مجال الذكاء الاصطناعي؟ هل نحن نحتاج للمقاربة القانونية التي يقدمها الاتحاد الأوروبي كبديلٍ لمواجهة هذا التمدد أم أن الوضع منفلت هذه المرة عكس القنبلة النووية التي وإن اختلفنا مع بعض السياسات المنتهجة حولها، إلا أننا نتفق أن السياسة المتبعة حولها جنبت البشرية من دمار استعمالها؟

أعتقد أننا في الواقع بحاجة إلى مقاربة أخرى تحمل بين طياتها أبعاداً مختلفة، يجب عبرها التعامل مع شركات التقنية على أساس أنها منافس لاحتكار هذه التقنية، ويجب ضبط جماح طموحها، فمشاريع مثل ألفا يرو أو ألفا غو التي تقودها فقط غوغل عبر شركتها ديب مايند لا نعلم إلى الآن مخرجاتها السياسية، ولكننا نعرف أن ترمب مثلاً بلغ الرئاسة مستعيناً بكامبريدج أنالتكا التي وظفت معلومات فيسبوك للتأثير على الناخبين، بصيغة أخرى ما دام الغرب لم يعالج مشاكله الداخلية مع التقنية لا يمكنه أن يواجه الصين أو يفرض قواعد حول التقنية عالمياً.

جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي كُتّابها ولا تعبّر بالضرورة عن TRT عربي.


TRT عربي