تابعنا
"لقد تبنَّت جامعة بريستول البريطانية استراتيجية قضائية كارثية في مواجهتي، ما انتهى بتدمير ذلك الملف القضائي".

ربحتُ للتو دعوى قضائية كنتُ قد رفعتها ضدّ جامعة بريستول في بريطانيا، التي سبق أن أقالتني من منصبي (بروفيسور في علم الاجتماع السياسي) في أكتوبر/تشرين الأول 2021، عقب حملة ضغط أطلقتها الحركة الصهيونية (على إدارة الجامعة) بهدف التخلص مني.

ويصحب الارتياح والبهجة اللذين شعرت بهما إثر الحكم القضائي (الذي أنصفني)، إحساسٌ آخر بالمفاجأة، فقد كنت على علم أن التحقيق الذي فتحته إدارة بريستول بعد الشكاوى ضدّي تضمن خروقات، كما أن الإدارة لم تحسب جيداً الإجراءات المترتبة على ذلك، وهو ما جرى تأكيده بشكل واسع، اعترافاً بعد اعترافٍ من مسؤولَي الجامعة اللذين حقَّقا معي وأقرَّا فصلي من العمل، بل ودافعا عن ذلك القرار وقدّما أدلة عليه في المحكمة في أكتوبر/تشرين الأول الماضي. لقد كان شهود بريستول هم مَن أغرقوا ملفّها أمام العدالة.

لكن الاستراتيجية القانونية الشاملة التي تبنَّتها بريستول، كما الشهادة الخيالية لأعلى مسؤولة في الجامعة، تسببت في أضرار أكبر بكثير لقضيتهم، وبالتالي أُغْرقت القضية كليّاً، وهو ما سأوضحه.

لقد حققت جامعة بريستول معي ثلاث مرات، فلم يأتِ كل تلك التحقيقات بأي دليل يثبت تهمة معاداة السامية في ما قلته أو كتبته، بما في ذلك التحقيقان الأخيران، اللذان أُجريا بواسطة محقق خارجي، وهو ما ترفض الجامعة حتى الآن الاعتراف به بشكل علني، أي إن أبحاثها في كل مرة لم تكن تُفضي إلا إلى براءتي من تهمة العنصرية في ما قلتُ وكتبتُ، بل واكتفى بيانها الذي نشرته عندما فُصلت فقط بالقول: إن التحقيق "استنتج أن تعليقات البروفيسور ميلر لم تكن خطاباً غير قانوني".

وارتدّ هذه النهج العدواني والمخادع بالسوء على استراتيجيتهم الدفاعية على طول مسار التقاضي. ومنذ بدايته، دأب محامو بريستول على الإشارة إلى رغبتهم في تغيير موقفهم، وكانوا قد أقرّوا سابقاً بأن آرائي تستحق الاحترام، لكن الملف الجديد الذي أُعدَّ على عَجَل في مراسَلة صبيحة انطلاق المحاكمة، أشار إلى أن أفكاري المناهضة للصهيونية، كما عبّرت عنها في شهادتي، عبارة عن "مؤامرة غير مثبتة".

علاوة على ذلك، خلصوا إلى أن تلك الأفكار ترى في الصهيونية عنصرية، وبالتالي يجب مقاومتها، لكونها "لا تستحق الاحترام في مجتمع ديمقراطي"، فهي اللغة القانونية المستخدمة في "قانون المساواة" لعام 2010، الذي يحدد "المعتقدات الفلسفية التي يجب حمايتها".

إنها استراتيجية غير محسوبة لادعائها أن أفكاري المناهضة للعنصرية "أقرب إلى النازية"، وهو المعيار القانوني للأفكار التي لا تستحق الاحترام، وكان ذلك النهج مخطئاً في جوهره، لكن من الناحية الممارسية، حوَّل فريق دفاعي ذلك إلى سلاحٍ أجبر به أكبر شاهد في القضية على الإدلاء بأقوال تبدو متناقضة.

النظرية النقدية

تعدُّ البروفيسور جوديث سكويرز، ثاني أعلى مسؤول في جامعة بريستول، إنها مُنظّرة سياسية متخصصة، أصدرت عديداً من الكتب حول المساواة بين الجنسين، وكتبت أيضاً عن منظّر "العلاقات السلطوية"، الفرنسي ميشيل فوكو، ويفوق تعاطفها معه بشكل كبير تعاطفها معي، كما يجدر بالذكر أن البروفيسور سكويرز كانت قد أخذت على عاتقها إطلاق مبادرة من أجل إعلان الجامعة مؤسسة مناهضة للعنصرية.

وفي أكتوبر/تشرين الأول 2020 ألقت البروفيسور سكويرز محاضرة بثّتها قناة الجامعة على يوتيوب، بعنوان "نحو اجتثاث الإرث الاستعماري من الجامعة" (Towards a Decolonised University).

في هذه المحاضرة، تقول سكويرز: "من مسؤوليتنا جميعاً العمل للقضاء على العنصرية". وفي شهادتها (أمام المحكمة) وصفت البروفيسور أفكاري بأنها "ليست جديرة بالاحترام في مجتمع ديمقراطي"، لكنها أكدت أيضاً أنها تعتقد أن الأيديولوجية الصهيونية عنصرية، وهو ما جعل شهادتها تبدو متناقضة.

على الرغم من الالتزام الظاهري مناهضة العنصرية، كان واضحاً في حالتي وجود أنواع معينة من العنصرية -الصهيونية- لا يجب القضاء عليها. وفي الواقع من خلال تأكيد أن الصهيونية ليست فقط عنصرية، بل أمر يجب مقاومته، فقد ارتكبتُ في نظرهم أسوأ خطيئة.

بعبارة أخرى، لا تزال أنواع العنصرية التي يواجهها الطلاب الفلسطينيون أو العرب أو المسلمون، التي تقف خلفها الصهيونية بشكل كبير، لا تُؤخذ على محمل الجدّ في مؤسسات مثل جامعة بريستول، وكنتُ قد قلتُ ذلك في الوقت المناسب، وكان الردّ علي بأن قولي هذا يتسبب في مشكلات، لأنه يقوض التماسك الاجتماعي داخل الحرم الجامعي، أي إنهم حوّلوا حجتي المناهضة للعنصرية، بواسطة الخطاب الذي يقدم نفسه مناهضاً للعنصرية، إلى تهديد للعلاقات الجيدة داخل الجامعة.

"حكم سيكون له أثر في التاريخ"

وتعزز هذا بفعل فرق المعاملة الواضحة بيني وبين أستاذ في قسم القانون، حين اتُهم البروفيسور غرير (ستيفن غرير، أستاذ حقوق الإنسان بجامعة بريستول) بالإسلاموفوبيا من جهة الجمعية الإسلامية، وكان ذلك متزامناً مع حملة التهم التي وُجِّهت لي، وانتقد إثرها البروفيسور غرير الجمعية الإسلامية بشكل أوضح بكثير مما قلته حول مجموعة الطلاب الصهاينة، لكن بريستول لم تُحذِّر البروفيسور غرير ولم تفصله بالتأكيد، وهذا يعتبر، كما دعا بذلك محامي خلال المحكمة، تمييزاً في التعامل بين الحالتين (المتشابهتين).

والحقيقة، أن الجامعات البريطانية مثلها مثل المجتمع البريطاني، فشلت في مواجهة الإسلاموفوبيا العميقة التي تؤثر في مؤسساتنا العامة، التي لها تداعيات حقيقية في ما يتعلق بجرائم الكراهية، وجرائم التحرش من قِبل الشرطة وجهاز الأمن، ولها أيضاً أضرار الاقتصادية.

ووفقاً للبيانات الديموغرافية، يعتبر المسلمون أكثر الفئات الدينية أو العرقية المسحوقة اقتصاديّاً في المملكة المتحدة، سواء من حيث متوسط الثروة الصافية أو معدل الأجر بالساعة، ولكن بدلاً من اتخاذ خطوات لتحسين هذه الأوضاع، يميل الناس إلى التصديق أن اليهود هم من يواجهون التهديدات الرئيسية في ما يتعلق بالعنصرية، وأنهم ضحايا المجتمع الرئيسيون، وهو ما يؤدي إلى حساسية مفرطة تجاه "معاداة السامية الجديدة"، ورفض وصف الصهيونية بالعنصرية. لكن في الواقع، ولنقتبس من نورمان فينكلشتاين قوله: "اليهود البريطانيون بشكل عام ثريون بشكل مفرط، ومتعلمون وينجحون مهنيّاً".

بالتالي، إن عدم الاستعداد لمواجهة الصهيونية وقبول حُجج من شأنها أن تصبّ في مصلحة "معاداة السامية الجديدة"، يعني أن الاستجابة المؤسسية الفطرية في كثير من الأماكن هي الشك في أن مناهضة الصهيونية هي مناهضة للعنصرية.

لذا فإن كسبي القضية في المحكمة يكتسب أهمية بالغة، لكونه يؤسس لسابقة عن طريق حكم محكمة بريطانية بأن الآراء المعادية للصهيونية ليست عنصرية، وأنها "تستحق الاحترام".

إنه فوز رائع، وليس فقط بسبب ما سيقدمه من حماية للأشخاص في مواقع العمل، بل سيكون أيضاً حجة ضدّ ما يسمى بـ"معاداة السامية الجديدة"، وهو مفهوم تردد بشكل علني من النظام الصهيوني، منذ خطاب وزير الخارجية الإسرائيلي أبا إيبان في الولايات المتحدة عام 1972.

والأهم من هذا كله، هو أن حكم المحكمة يعطي بالفعل ثقة جديدة للنشطاء المناصرين للقضية الفلسطينية، الذين أصبحوا يقلقون بشكل أقل من الهجوم عليهم تحت تهمة "معاداة السامية"، بل هم الآن أكثر استعداداً لاستخدام مصطلح "الصهيونية" بشكل صحيح ومنتظم.

إنّ أبواق اليسار قد أعلنت أنه يجب علينا استخدام هذا المصطلح (الصهيونية) بحذر، أو عدم استخدامه على الإطلاق. وبدلاً من ذلك ينبغي لنا أن نكتفي بانتقاد حكومة إسرائيل وسياستها، وتوصيف انتهاكات حقوق الإنسان أو استخدام مصطلح "الفصل العنصري".

كما يؤكدون أهمية تجنبنا التساؤل حول شرعية المستوطنة الصهيونية، ويحدث هذا أحياناً لأنهم يعارضون نهاية تلك المستوطنة، وأحياناً لأسباب تكتيكية، وفي كلتا الحالتين يجب على كل هذا أن يتوقف الآن، ينبغي علينا أن نكون واضحين في أن الصهيونية هي في جوهرها عنصرية واستعمارية وإبادية، كما يجب علينا استخدام مصطلحات مثل "الكيان الصهيوني" و"الحركة الصهيونية" بشكل متعمّد لتقويض شرعية المستوطنة، وأيضاً لإفهام الناس أنه يجب تفكيك كامل الحركة الصهيونية، وليس فقط الجزء الذي يحتل فلسطين حاليّاً.

جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي
الأكثر تداولاً