الأعلام التركية والليبية ترفع من قبل متظاهرين في العاصمة الليبية طرابلس (Others)
تابعنا

وهذا بطبيعة الحال يخالف حقيقة الدور التركي في المنطقة، وهو الدور الذي ينبغي وضعه في سياقه الجيوسياسي والثقافي لتبرئته من المغالطات التي تلحق به، ومع التقارب الذي يحدث الآن بين تركيا وبعض الدول العربية مثل الإمارات ومصر، يصبح من الضروري البحث في سياق الدور التركي في الفترة الماضية.

تعود التطورات التي جمعت تركيا مع العالم العربي بالمعنى الحقيقي إلى عام 2002 مع وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة بقيادة رجب طيب أردوغان. وقد بدت أولى المؤشرات لتوجه تركيا نحو العالم العربي مع رفض البرلمان التركي تمرير قانون يسمح استخدام الأراضي التركية من القوات الأمريكية لغزو العراق 2003.

تجسّد هذا التقارب التركي مع العالم العربي من خلال مواقف أنقرة الداعمة للقضية الفلسطينية، وموقف الرئيس أردوغان مع الرئيس الإسرائيلي شيمون بيريز في قمة دافوس وما تلاها من حادثة أسطورة "مافي مرمرة" من أبرز الشواهد على ذلك. هذا فضلاً عن التبادل التجاري وإلغاء التأشيرة عن كثير من الدول العربية لدخول تركيا وتأثير الدراما التركية وهي انعكاس للقوة الناعمة التي مارستها تركيا في تلك الفترة.

في تلك الفترة، صارت تركيا دولة نموذجية في وقت قصير بفضل الإصلاحات الهيكلية التي نفذتها منذ عام 2002 والتحسن الاقتصادي والمبادرات الديمقراطية التي طورتها داخلياً والعلاقات التي طورتها مع دول المنطقة، وفي مقدمتها سوريا. وكان لهذه التطورات، إلى جانب هوية الدولة الإسلامية الراسخة، تأثير إيجابي على شعوب المنطقة، ونجحت في تشكيل قناعة أن الديمقراطية وحقوق الإنسان والتنمية الاقتصادية السليمة ليست مجرد مفاهيم يمكن للدول الغربية فقط الوصول إليها، ولكن الدول الإسلامية أيضا قادرة على تحقيق ذلك.

لا شك أن للثورات العربية التي بدأت في تونس عام 2011 ديناميات عديدة. فعند النظر إلى الأمر من وجهة نظر تركيا، ينبغي الإشارة إلى أنها تابعت من كثب ما واجهته أوروبا الشرقية وآسيا الوسطى من تجارب مؤلمة في أعقاب انهيار الاتحاد السوفيتي، ورأت أن هذه الثورات كانت فرصة مهمة بالنسبة إلى نضال الشعوب العربية لتحقيق الديمقراطية العادلة، وبناء على ذلك دعمت علانية الثورات العربية.

وقبل هذه المرحلة، لم تشهد تركيا أي توترات مهمة مع دول المنطقة، وقد انبثقت مقاربة تركيا في تلك الفترة من علاقاتها الأخوية مع شعوب وأنظمة المنطقة، فضلاً عن إيمانها بأن التنمية السليمة في الشرق الأوسط وإفريقيا لا يمكن أن تتحقق سوى عبر أسس الديمقراطية وحقوق الإنسان.

في البدء، تطور الوضع في مسار إيجابي بفضل الانفراجات الديمقراطية في تونس ومصر والإصلاحات التي أقدمت عليها الأنظمة الملكية مثل الأردن والمغرب، والدعم الاقتصادي في دول الخليج، غير أنه مع الثورة المضادة في مصر وانحراف الأحداث في دول مثل سوريا وليبيا واليمن إلى منحى الحرب الأهلية، دخلت علاقات تركيا مع دول المنطقة التي كانت متقدمة في جميع النواحي في وضع صعب. لا سيّما الأحداث في سوريا، فرغم كل الجهود التي بذلتها تركيا، أصر نظام بشار الأسد على حل القضية بالحرب والطرق العسكرية، الأمر الذي تحول في نهاية المطاف إلى أزمة على حدود البلاد في البداية ثم قضية أمن داخلية بالنسبة لتركيا.

واضطرت تركيا في تلك الأثناء إلى مواجهة التهديدات الأمنية وأزمات الهجرة والإرهاب في سوريا والعراق من جهة وحماية مصالحها في نفس الوقت من جهة أخرى. ولهذا السبب، وبعد طول انتظار، تدخلت تركيا لمواجهة إرهاب تنظيمات داعش وPKK وPYD. وفي الوقت ذاته، دعمت حكومة الوفاق الوطني الشرعية في ليبيا، المعترف بها دولياً من الأمم المتحدة، وفي إطار اتفاقية أمنية وأخرى تتعلق بالحدود البحرية، دعمت أنقرة الحكومة الليبية ومنعت حدوث انقلاب عسكري على الشرعية في ليبيا. وعلى هذا النحو، نالت تركيا وليبيا بشكل متبادل حدوداً بحرية مهمة في شرق المتوسط.

وفي سوريا، لم يدعم المجتمع الدولي تركيا في مواجهة قوى مهمة مثل روسيا والولايات المتحدة، الأمر الذي دفع أنقرة في نهاية المطاف إلى التفاهم والاتفاق مع روسيا، ومن ثم نجحت في تشكيل مساحة آمنة لحياة السوريين في محافظة إدلب وجزء من الشمال السوري.

وفي هذا السياق، ينبغي تناول العمليات العسكرية التركية شمالي سوريا وتدخلاتها ضد تنظيم PKK الإرهابي في العراق، كإجراء وقائي ضد التهديدات الإرهابية وسياسات زعزعة الاستقرار في تركيا والمنطقة.

كما ينبغي الإشارة إلى أنه بدءاً من دعم الولايات المتحدة تنظيمي PKK وPYD الإرهابييْن والسماح لهما بالسيطرة على مناطق واسعة في سوريا، بذريعة دعمهما القتال ضد تنظيم داعش الإرهابي، وحتى محاولة الانقلاب الفاشلة التي نفذها تنظيم "كولن" الإرهابي في 15 يوليو/تموز 2016 على الحكومة التركية، كلها أمور مهدت لحقبة جديدة. ففي هذه المرحلة خيم الغموض على السياسة الدولية، واضطرت جميع الدول تقريبا إلى التعامل مع التهديدات القريبة جداً أكثر من التنبؤات طويلة الأجل.

لقد تحولت التحالفات والتوترات الجزئية إلى سياسة خارجية عامة ليس فقط لتركيا، بل في العالم أجمع. والنقطة التي وصلت إليها العلاقات مع روسيا والولايات المتحدة أو إيران، والتوترات مع السعودية والإمارات، ما هي إلا نتاج هذا التوجه.

لذا من الضروري إدراك أن أنشطة وسياسات تركيا في المنطقة لا تهدف إلى الإضرار بدول وشعوب هذه المنطقة، بل على العكس تدعم الجهود الرامية إلى إنشاء منطقة آمنة مشتركة واستفادة دول المنطقة من مواردها المحتلة منذ مائة عام.

ومن المهم لفت الانتباه إلى أن تركيا تدعم الحكومة المركزية العراقية والعمليات العسكرية ضد تنظيم PKK الإرهابي في شمال العراق. كما أن نضال تركيا من أجل تقاسم عادل للموارد في شرق المتوسط، يخدم مصالح كل من سوريا ولبنان وفلسطين ومصر. ​​فمثلاً، تركيا ومصر تدعمان المصالح الليبية في شرق المتوسط ​​من خلال التدخل المتبادل في المسألة الليبية​​، ومن ناحية أخرى، تعملان على خلق فرص مهمة لحل سياسي في ليبيا جنباً إلى جنب مع الأمم المتحدة وبعض القوى الدولية.

كذلك من المهم توضيح أنه من الخطأ رؤية دعم تركيا للديمقراطية في مصر، على أنه دعم لمجموعة سياسية معينة. فإلى جانب جماعة الإخوان المسلمين، دعمت تركيا أيضاً مبادرات مدنية أخرى بمصر. وبنفس المقاربة، دعمت حكومة الوفاق الوطني الليبية المعترف بها دولياً ضد قوات الجنرال الانقلابي خليفة حفتر.

وقد تكون تركيا قصرت في شرح مقارباتها بخصوص هذه القضايا. لكن لم يكن لديها أبداً نيات سيئة تجاهها. وكل تحركاتها نابعة بالكامل من غريزة الدفاع عن مصالح شعوب المنطقة ضد القوى الإمبريالية الكبرى.

لقد دفعت تركيا ثمناً باهظاً في هذا النضال. فقد ألحق تنظيم داعش الإرهابي أضراراً جسيمة بتركيا كما فعل مع دول أخرى في المنطقة. وقد قدمت مئات الشهداء في عملياتها شمالي سوريا مثل درع الفرات ونبع السلام. وعبر عملية غصن الزيتون في عفرين، قضت على أحلام تنظيمي PKK وPYD الإرهابييْن بتقسيم سوريا وإقامة دولة كردية مستقلة تابعة للغرب.

كذلك من المهم الإشارة هنا إلى أن بعض المصادر العربية سعت إلى تصوير العمليات التي نفذتها تركيا بالشمال السوري لتأمين حدودها وإعادة جزء من 4.5 ملايين لاجئ سوري على أراضيها، على أنها غزو لسوريا، وبالتأكيد هذا أمر خاطئ تماماً. فمنذ البداية، أعلنت تركيا أن وحدة أراضي كل من سوريا والعراق خط أحمر بالنسبة إليها. لكن للأسف فأي شيء فعلته تركيا في تلك الفترة، دافعت هذه القنوات عن الأطروحات المضادة له وروجتها. فتم الترويج لأطروحات اليونان وقبرص الرومية فيما يتعلق بشرق المتوسط، وتم إلقاء اللوم على تركيا لدعمها الحكومة الليبية الشرعية ضد حفتر المدعوم من فرنسا وروسيا، حتى دعمها لتحرير أذربيجان أراضيها (المحتلة لمدة 30 عاماً) تم انتقاده.

كما تم اعتبار الدعم المقدم لقطر خلال الأزمة الخليجية أنه تدخل في المنطقة ومحاولة لاحتلال المنطقة. مع إنني أعتقد أن دعم تركيا لقطر في ذلك الوقت ساهم في حل الأزمة بطرق سلمية وحال دون اتخاذ خطوات خاطئة في هذه المنطقة.

وعلى نفس النهج، حاولت بعض وسائل الإعلام العربية تصوير جميع التحركات التركية في المنطقة على أنها إمبريالية ومحتلة وغير عادلة. فمن الواضح أن هناك مشكلة اتصال كبيرة بين تركيا وجزء من العالم العربي. لذا فمن المهم للغاية بذل جهد خاص للتغلب على هذه المشكلة، وإبقاء جميع الطرق الدبلوماسية مفتوحة طوال الوقت، وتطوير قنوات اتصال سليمة بين المثقفين والصحفيين ومؤسسات المجتمع المدني من الجانبين.

فتركيا والشعب التركي جزء لا يتجزأ من المنطقة. ونحن نرى قدرنا واحداً مع شعوب ودول المنطقة. ونحن بحاجة إلى عمل مشترك في كافة القضايا، بدءاً من الأمن وحتى أزمة المناخ.

فسياسات التقسيم والتفتيت التي تمارسها القوى الخارجية بالمنطقة لم تنته. ومخططات إسرائيل على وجه الخصوص حول قضايا المنطقة، وفي مقدمتها فلسطين متواصلة بلا توقف.

بينما يوفر التكامل السليم بين تركيا وجيرانها والدول العربية في مجالات الاقتصاد والأمن ​​والاتصال والنقل، فرصاً كبيرة. ويأتي في مقدمة الأهداف المشتركة، إعادة إعمار العراق وسوريا، والتجارة والسياحة المتبادلة، والتعاون الأمني ​​المشترك، والتقاسم العادل للموارد الجوفية والفوقية، وتوصيل موارد الطاقة إلى العالم، وإيجاد حلول مشتركة للمشاكل البيئية الناجمة عن الاحتباس الحراري.

لقد حققت تركيا في السنوات الأخيرة إنجازات في مجال التكنولوجيا عموماً، والتقنيات السيبرانية والصناعات الدفاعية بشكل خاص، وهي قادرة على الإسهام في استقلال المنطقة في مجال الدفاع، وهو أهم بكثير من الاستقلال الاقتصادي. كما أن هناك إمكانية كبيرة للتعاون في مجال التعليم في هذه المنطقة التي يشكل الشباب نسبة كبيرة من سكانها. وعدد الطلاب من الشرق الأوسط وإفريقيا يزداد في تركيا بوتيرة سريعة.

ولا شك أن التعاون والتضامن بين تركيا والعالم العربي يمثل ضرورة قصوى في مواجهة تهديدات عديدة، مثل تصاعد كراهية الأجانب والإسلاموفوبيا في أوروبا والولايات المتحدة لأسباب مثل العولمة والهجرة من الشرق إلى الغرب.

لكن بعيداً عن ذلك، فإن الأهم هو إعادة بناء الثقة المفقودة إلى حد ما، بشكل متبادل بين الجانبين.

جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي كُتّابها ولا تعبّر بالضرورة عن TRT عربي.


TRT عربي