ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان (Others)
تابعنا

فمصر على سبيل المثال، التي سارع رئيسها إلى الرياض ربما لطلب المساعدة في خطوة استباقية لأي انتكاسة اقتصادية، تستورد أكثر من 80 بالمئة من القمح من كل من روسيا وأوكرانيا. مكمن الخوف لدى هذه الأنظمة يكمن في الربط القديم الجديد بين الجوع واشتعال الثورات والقلاقل السياسية. فآخر شيء تريده الأنظمة العربية هو النسخة 2.0 من الربيع العربي. لكن من بين الدول العربية التي تشعر بنوع من الارتياح النسبي لانعكاسات الحرب على المنطقة تبرز السعودية على رأس القائمة. ويتمحور هذا الارتياح حول ثلاثة ملفات رئيسية هي الملف النووي الإيراني، وملف الطاقة، وملف حقوق الإنسان.

رأت السعودية في الاتفاق النووي الإيراني الذي تم التوصل إليه إبان إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما أنه تهديد لأمن منطقة الخليج، وذلك لاعتبارات عديدة أهمها أنه جاء مقتضَباً لا يشمل الإشكاليات كافة المتعلقة بإيران. فبجانب الملف النووي الإيراني المثير للجدل هناك دور إيران في المنطقة من خلال دعمها للمليشيات الشيعية في كل من سوريا والعراق واليمن ولبنان، وهو الدعم الذي تراه السعودية وغالبية دول الخليج مزعزعاً للاستقرار خصوصاً في ظل وجود جاليات شيعية كبيرة داخلها كالبحرين والكويت. أرادت السعودية أن يكون الاتفاق مع إيران شاملاً، هذا من جانب، وكانت تريد أيضاً أن يتم إشراكها في الاتفاق وهو ما تم تجاهله تماماً من قبل إدارة أوباما. لقد رأت السعودية في الاتفاق تهميشاً لدورها، وتهديداً لأمنها خصوصاً أن واشنطن رفضت الدخول مع السعودية ودول الخليج الأخرى بتعهد عسكري يشمل إشراك دول الخليج بالمظلة النووية الأمريكية.

شكّل موقف الرئيس السابق دونالد ترمب متنفساً للرياض، فقد أخرجت إدارته الولايات المتحدة من الاتفاق النووي الإيراني، وفرضت على إيران عقوبات اقتصادية هي الأشد على الإطلاق شملت قطاع الطاقة والقطاع المصرفي، وأدرجت الحرس الثوري الإيراني وجماعة الحوثي في قوائم الجماعات والكيانات التي تصنفها أمريكا إرهابية، وقامت باغتيال أحد أبرز القادة الإيرانيين قاسم سليمان الذي كان بمثابة مايسترو النفوذ الإيراني في المنطقة العربية. في المقابل أبرمت إدارة ترمب صفقات سلاح بمئات المليارات مع الرياض، ودعمتها في حربها ضد الحوثيين، ووقفت بكل ثقلها خلف الأمير محمد بن سلمان لحمايته من أي ملاحقة دولية جراء اتهامه بالمسؤولية عن اغتيال الصحافي السعودي جمال خاشقجي داخل قنصلية بلاده في إسطنبول.

مع قدوم إدارة الرئيس بايدن زاد القلق السعودي. فالرئيس بايدن عبر في أكثر من مناسبة في أثناء حملته الانتخابية بأنه سوف يتخذ موقفاً أكثر تصلباً ضد الأمير محمد بن سلمان. ما عزز القلق السعودي هو موقف إدارة الرئيس بايدن تجاه الملف النووي الإيراني، فقد كان واضحاً أنها عازمة على العودة إلى الاتفاق مجدداً. حاولت إدارة بايدين أن تكون أكثر توازناً من سابقتها إدارة الرئيس أوباما فأظهرت تفهماً أكبر لمخاوف حلفائها في دول الخليج. على سبيل المثال، دعمت واشنطن فكرة أن يكون الاتفاق أكثر شمولاً بحيث يتم إدراج قضايا من قبيل دور إيران الإقليمي وبرنامجها للصواريخ الباليستية، كما رحبت بإشراك السعودية في المفاوضات وإن كان بطريقة غير مباشرة.

غير أن سياق الأحداث منذ بداية إطلاق المفاوضات مع إيران في فيينا قبل نحو السنة لم يطمئن السعودية، فإيران لم تغير سياستها الإقليمية بل زادت تدخلها، ولم تتوقف عن تطوير ترسانتها من الصواريخ الباليستية، ومؤخراً قامت بضرب إقليم كردستان في العراق بعدة صواريخ باليستية استهدفت ما قالت عنه إنه قاعدة تجسس تابعة للمخابرات الإسرائيلية.

كان المفاوضون في فيينا قاب قوسين أو أدنى من التوصل إلى اتفاق قُبيل اشتعال الحرب في أوكرانيا. لم تكن الرياض تشعر بالارتياح، ولكنها لا تملك الأوراق الكافية للضغط على إدارة بايدين لتعطيل الاتفاق أو لجعله أكثر ملاءمة لاعتباراتها الأمنية، خصوصاً أن واشنطن ترغب في استثمار قطاع الطاقة الإيراني بعد تخفيف العقوبات لتعويض النقص الذي سوف ينتج عن فرض عقوبات على قطاع الطاقة الروسي. وهنا جاء الموقف الروسي من الاتفاق ليصب في صالح الرياض، إذ عرقل طلب موسكو أن يشتمل الاتفاق على نص يشير إلى أن العقوبات الأمريكية والأوروبية على روسيا لا تشمل تعاملاتها مع إيران بعد توقيع الاتفاق ليعطل التوقيع الأخير على الاتفاق المُحدّث. إثر هذا الطلب، انفضّ المفاوضون في فيينا عائدين إلى عواصمهم دون توقيع الاتفاق، ولا يُعلم حتى الآن متى سوف تُستأنف المفاوضات من جديد، وإذا ما كانت روسيا سوف تصر على موقفها أم لا. ما هو واضح حتى الآن هو أن روسيا، وليس الرياض أو إسرائيل، هي التي تعطل الاتفاق.

على صعيد آخر، منحت الحرب الروسية على أوكرانيا وما تلاها من عقوبات غربية على قطاع الطاقة الروسي زخماً لقطاع الطاقة عالمياً، إذ ارتفعت أسعار النفط لتقترب من حاجز الـ140 دولاراً للبرميل الواحد، وهو أعلى معدَّل تصل إليه أسعار النفط منذ الأزمة المالية العالمية 2008. يمنح ملفّ الطاقة الناتج عن الحرب الروسية-الأوكرانية السعودية الامتياز في اتجاهين: اقتصادياً من خلال ارتفاع أسعار النفط، وسياسياً تجاه إعادة تعزيز مكانة الرياض في الأجندة الأمريكية.

اقتصادياً، أظهرت الأرقام نموّاً في الاقتصاد السعودي حتى قبل أن تشتعل الحرب على أوكرانيا وتسبب ارتفاعاً في أسعار النفط. فقد أظهرت تقديرات رسمية سعودية أن الناتج المحلي الإجمالي نما بمعدل 6.8 بالمئة في الربع الأخير من العام الماضي، ليبلغ معدل النمو السنوي 3.3 بالمئة، وهو أعلى من توقعات حكومية سابقة بأن تصل نسبة النمو إلى 2.9 بالمئة. وقد تَحقَّق هذا النمو بفضل زيادة بنسبة 10.8 بالمئة في الأنشطة النفطية وبنسبة خمسة بالمئة في الأنشطة غير النفطية. ويأتي هذا النموّ بعد انكماش الاقتصاد السعودي بنسبة 4.1 بالمئة عام 2020 بسبب جائحة كورونا. ومن المتوقع أن يستمر الاقتصاد السعودي في النمو أكثر في العام الحالي والعام التالي بنسبة 7.4 بالمئة حسب توقعات رسمية.

سياسياً، ستتعاظم مكانة السعودية في الأجندة الأمريكية، على الأقلّ على المدى القريب. فإدارة بايدن التي تقود تحالفاً دولياً لتضييق الخناق اقتصادياً على روسيا بحاجة إلى كل موارد بديلة. ونظراً إلى حجم إنتاج السعودية من الطاقة، ودورها الهامّ في منظمة أوبك، فإن إدارة بايدين تدرك محورية السعودية لإنجاح جهودها في خنق الاقتصاد الروسي. في الغالب سوف تحاول الرياض استثمار هذا الامتياز السياسي الطارئ على مستويين: أولهما يتعلق بالحرب السعودية على الحوثيين في اليمن، فالسعودية حريصة على إعادة الدعم الأمريكي لها في هذه الاتجاه إلى مستويات قريبة من مستوياته إبان إدارة الرئيس ترمب. وثانيهما في ما يتعلق بملفّ حقوق الإنسان، خصوصاً ما يتعلق بقضية جمال خاشقجي ودور محمد بن سلمان. وقد تكون عملية تنفيذ حكم إعدام 81 شخصاً في السعودية، وهو المعدل الأعلى في تاريخها، مؤشراً على التقاط الرياض الدقيق للحاجة الأمريكية إلى التغاضي عن ملفات حقوق الإنسان ما دامت لديها اعتبارات استراتيجية أكثر الحاحاً حالياً.

جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي كُتّابها ولا تعبّر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي