فلسطينيون يشاركون في مظاهرة مناهضة لإسرائيل بالقرب من رام الله (Mohamad Torokman/Reuters)
تابعنا

ويقول الواقع إن الفلسطينيين، وعلى الرغم من محاولات الوصاية والانتهازية، كانوا قادرين على امتلاك زمام أمورهم بأنفسهم، ولم تثبطهم كثيراً الانتكاسات والهزائم والتراجعات والمؤامرات من حولهم، كما أن خيبتهم فيمن تولى أمر ثورتهم في بداياتها وأمر سلطتهم في نهاياتها، لم تمنعهم من تجديد مسيرة مقاومتهم وتصديهم للاحتلال سواء على الصعيد الفردي أو على صعيد حركات المقاومة.

أخذ زمام المبادرة

لقد كان لتجارب الشعب الفلسطيني خلال فترة الانتداب البريطاني والهجرات اليهودية للأراضي الفلسطينية دور كبير في بلورة المبادرة الفلسطينية وعدم الاعتماد على المحيط العربي والإسلامي، وذلك بعد أن كان للزعماء العرب دور كبير في إجهاض ووقف الثورة الكبرى عام 1936 ضد الانتداب البريطاني والهجرة اليهودية، الأمر الذي حال دون تحقيق أهدافها، وتمرير مخطط التقسيم البريطاني.

أضف إلى ذلك، أنّ الفشل المدوي للعرب وهزيمتهم أمام إسرائيل في نكبة 1948 ونكسة 1967 عزّزا حاجة الفلسطينيين إلى الاعتماد على أنفسهم وتقلد زمام قضيتهم بنفسهم، وهو ما عبرت عنه انطلاقة حركة فتح عام 1964 وسيطرتها على منظمة التحرير الفلسطينية التي أقيمت أصلاً بقرار عربي!

وكان لكل ذلك تأثير عميق في وعي الفلسطينيين بتعزيز اعتمادهم على الذات في صراعهم الدامي مع محتل مدجج بالتكنولوجيا وأفتك الأسلحة، مقابل ضعف وخذلان العرب وخيانة بعضهم.

بل إن تجربة المقاومة الفلسطينية أثبتت أنها كانت أكثر تأثيراً في محيطها منها إلى التأثر ببيئتها صعوداً وهبوطاً، وهذا ما أظهرته الانتفاضات والهبات الفلسطينية المتعاقبة.

فلم ينشغل الفلسطينيون طويلاً بالركون إلى السند العربي والإسلامي، في ظل انشغال الحكومات بنفسها ومحدودية خيارات الشعوب المغلوبة على أمرها، ولو أنهم انتظروا النهوض العربي والإسلامي لاستكانوا للهيمنة الصهيونية واستسلموا لبطش الاحتلال.

ويلاحظ أن حركات المقاومة ذات البعد القومي والإسلامي تمكنت من التقدم وقيادة الجماهير الفلسطينية في مراحل مختلفة من الصراع مع الاحتلال، بصرف النظر عن مدى تقدم الحركات الأم الموجودة في العالم العربي، سواء تعلق الأمر بحركة القوميين العرب التي انبثقت منها الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، أو حركة الإخوان المسلمين التي انبثقت منها حركة حماس، فيما تبنت حركة فتح أساسا تحييد الانتماء القومي والإسلامي، والتركيز على البعد الوطني الفلسطيني، والمباشرة بالتصدي للاحتلال، ما أعطاها دفعة شعبية كبيرة في أوساط الفلسطينيين.

مقاومة لا يضيرها الوضع العربي المتردي

وفي حين انشغلت القمة العربية في عمان في نوفمبر/تشرين الأول 1987 بالنزاعات العربية-العربية والحرب العراقية الإيرانية ورفع المقاطعة العربية لنظام كامب ديفيد المصري ووضعت القضية الفلسطينية في أدنى سلم أولوياتها، اندلعت انتفاضة الحجارة في ديسمبر/كانون الأول من العام نفسه لتؤكد على قدرة الشعب الفلسطيني على تجاوز الواقع العربي، ووضع قضيته على صدارة الاهتمامات الدولية وليس العربية والإسلامية فقط.

وأبدع الفلسطينيون في حجارتهم وزجاجاتهم الحارقة وكل ما وصلت إليه أيديهم في مقارعة الاحتلال، ومحاولة رفع سوية الأمة وإحراج الأنظمة العربية. واستمروا بهذه الروح قبل أن تحاول قيادة المنظمة خطف إنجازاتهم لصالح حل سياسي هزيل رفضه الشعب الفلسطيني، مُصعّداً حربه ضد الاحتلال بعمليات فدائية بطولية هزت الكيان الصهيوني ووضعت كلفة احتلاله على المحك.

وجاءت انتفاضة الأقصى عام 2000 بعد أيام من فشل مفاوضات كامب ديفيد لتطبيق اتفاق أوسلو الذي وُقع عام 1993 مقترناً مع فشل العرب في تقديم أي دعم للسلطة الفلسطينية التي كانت تتفاوض بشكل منعزل عن العرب مع الكيان الصهيوني.

ولم يُمهِل الفلسطينيون السلطة كثيراً، فانتفضوا مجدداً بوجه المحتلين مع تطوير وتكثيف عمليات المقاومة التي أرهقت العدو وحققت توازناً غير مسبوق في الخسائر البشرية (4 إلى1) مع الفارق المهول في ميزان القوة العسكرية بين شعب أعزل، إلا من أسلحة خفيفة، وجيش مدجج بالسلاح. وتمكنت المقاومة في 2005 من إجبار المحتل على الانسحاب غير المشروط من قطاع غزة.

وفي هذه الانتفاضة تمكن الفلسطينيون من التخلص من قيود السلطة الحاكمة في منهجها السلمي المتعاون مع الاحتلال، وأجبروها في بعض المحطات على مسايرة المقاومة وغض الطرف عنها والتماهي معها في بعض الأحيان.

ورغم اشتداد التنسيق الأمني بين السلطة الفلسطينية برئاسة عباس والتي حظيت بدعم عربي، فلم تتوقف مقاومة الفلسطينيين، فكانت الحروب على غزة في 2008 و2012 و2014 ، إذ قدمت المقاومة نماذج فذة في التصدي للاحتلال بعد أن تمكنت، رغم الحصار العربي والدولي، من تسليح نفسها وتصنيع سلاحها محلياً.

وفي الضفة الغربية، لم تنقطع المقاومة رغم حالة الضعف العربي وسعي السلطة لطمسها، رغبة في إنجاح مشروعها السياسي الذي ما لبث أن اصطدم بصخرة التشدد الإسرائيلي، لتتراكم عوامل انتفاضة فلسطينية جديدة في 2015 أطلق عليها انتفاضة السكاكين ودشنها الشهيد مهند الحلبي في 3 أكتوبر/تشرين الأول بعملية طعن في القدس المحتلة، لتنفرط بعدها سبحة العمليات الفردية وتتسع وصولاً إلى تل أبيب وأراضي ال48 .

وحينما وصل الحال العربي إلى الأسوأ بالتطبيع مع الاحتلال وعقد بعض الأنظمة العربية تحالفات سياسية بل وأمنية وعسكرية معه، مع فشل ذريع للتسوية السياسية وتراجع كبير في مكانة السلطة الفلسطينية واستشراء فسادها، جاءت معركة سيف القدس الباسلة في مايو/أيار 2021 لتشرك كل أبناء الشعب الفلسطيني في المواجهة، وتقدم رداً قوياً على خذلان العرب، وتحيي الأمل في النفوس بإمكانية تحقيق النصر على الاحتلال.

مقاومة ناجزة وتحفيز للتغيير

كل هذه التجارب والانتفاضات تؤكد أن الشعب الفلسطيني سيظل قادراً على شق طريقه بنفسه ضد الاحتلال بصرف النظر عن الواقع العربي، ويعود ذلك لعدة عوامل أهمها أن العدو مستمر في عدوانه واحتلاله واستفزازاته بالقتل والمصادرة والهدم، وهذا الضغط يستمر في شحذ إرادة التحدي والصمود لدى شعب لديه مخزون هائل من الإرادة والصمود وتحمل التبعات والخسائر في مواجهة احتلال جبان ورعديد وحساس جداً للخسائر.

كما لم يوجد في أي فترة من الصراع أي أمل حقيقي بتحقيق حل سياسي يفضي إلى حصول الفلسطينيين على الحد الأدنى من حقوقهم، بل اتجه المجتمع الإسرائيلي إلى مزيد من التطرف والتشدد ورفض الحلول السياسية، الأمر الذي أضعف ويضعف الطرف الفلسطيني الذي يتبنى خط المفاوضات لانتزاع الحقوق ويرفض المقاومة كمنهج للتعامل مع الاحتلال.

أخيراً، الفلسطينيون يائسون من الأنظمة العربية التي كشر بعض منها عن أنيابه في التطبيع وخذلان الفلسطينيين، فضلاً عن محاربتها لتطلعات شعوبها للحرية والديمقراطية والتصدي للحركات السياسية التي تدعم المقاومة في فلسطين. ويوجد تفهم واضح لحالة الضعف الشعبية في المنطقة العربية والإسلامية، والتي لا تستطيع تقديم أكثر من التعاطف والدعم المعنوي مع سد الأنظمة كل قنوات وأشكال الدعم الأخرى وملاحقتها وتجريمها.

ولذلك أصبحت المعادلة أن الشعب الفلسطيني الذي يفتقد الدعم الرسمي العربي والإسلامي ويُحال بينه وبين الدعم الشعبي، يقوم بدور المحفز على التغيير في محيطه، بما قد يهيئ الأجواء مع عوامل ذاتية أخرى لنهوض ربيع عربي جديد يقوم هذه المرة على قاعدة دعم المقاومة وليس تبني قضايا محلية فقط.

ومن ناحية ثانية، فإن انتعاش وضع الحريات والمشاركة السياسية في منطقتنا، ونجاح عمليات التغيير في المنطقة العربية سيكون له بلا شك انعكاسات إيجابية على مشروع المقاومة الفلسطينية وتمكينه وتعزيز فرص انتصاره على الاحتلال.

ولا خلاف على أن تحقيق أي انتصار استراتيجي على المحتل لا بد أن يكون من خلال المحيط العربي، فيما يكمن دور المقاومة في إبقاء راية وجذوة المقاومة وتصعيدها وتحقيق انتصارات على الاحتلال، إلى حين نضوج الظروف في الحالة العربية لخوض المواجهة الشاملة مع الاحتلال بما يتطلبه ذلك من تغيير البنى السياسية في المنطقة.

جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي كُتّابها ولا تعبّر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي