تابعنا
زهير الهنا، طبيب مغربي متخصص في الجراحة النسائية والتوليد، كرس حياته للعمل الإغاثي التطوعي، في عدد من بلدان العالم التي تعرف أزمات ونزاعات، كفلسطين واليمن والعراق وسوريا وأفغانستان.

الرباط ـــ يدخل معترك الحروب بوِزرته البيضاء مسالماً. يترافع دفاعاً عن قضيته الأولى "الحق في الحياة". يختزلُ المسافات بين أقاصي الأرض، متنقلاً شرقاً وغرباً، في سبيل نجدة ضحايا النزاعات والكوارث الإنسانية، متطوعاً في أرض الموت، يَسعى لمنحَ جرحَى المآسي فرصةَ حياةٍ جديدةٍ.

زهير الهنا، طبيب جراح، درس في المغرب وعمِل في فرنسا متخصصاً في الجراحة النسائية وأستاذاً مساعداً بجامعة باريس، مخلصٌ للعمل الميداني الإغاثي، ترك وراءه وظيفة قارةً في مستشفياتِ عاصمةِ الأنوار، وسعى، لما يزيد عن عشرين سنة، في ساحات الحرب، يلملمُ جراح المعطوبين ويُدرب السكان المحليين على مهارات "البقاء".

انخرط الهنا في عدد من المنظمات الدولية التي تشتغل في المجال الإنساني التطوعي؛ جاب مع "أطباء بلا حدود" و"أطباء العالم" و"نساء بلا حدود" وهيئات مدنية أخرى أزيد من 15 بلداً في إفريقيا والشرق الأوسط وآسيا الوسطى، وأنشأ في المغرب سنة 2016 عيادة مجانية لعلاج الفقراء والمهاجرين.

شاهِد عيان

الغارات الجوية والصواريخ، تضرب المدينة بلا هوادة، تحصد الأطفال والنساء، الدمارُ شاملٌ، رائحة البارود والموت تعمُ الأرجاء، مئات الجرحى في المستشفى الميداني، بينهم عشرات الأطفال على حافة الشهقة الأخيرة، وصدَى النحيب يرتفع.. شذرةٌ من حكاياتِ زهير مع الحرب في غزة، وصور مؤلمة تطبع ذكراه، يحكي: "أصعب ما في عملنا هو رؤية عشرات الأرواح تقبض، الأطفال يموتون دون أن تستطيع القيام بشيء، إنه أمر مؤلم جداً ألاّ تستطيع التدخل لإنقاذ الجميع".

الأشلاء والخرابُ والفراقُ وبكاءُ الثكالَى.. "مشاهدُ الحرب قاسية، غير أن عملنا يستدعي أن نكون على أهبة الاستعداد، وفي كامل قوتنا ألا نضعف أمامها، لأننا أملُ أشخاص آخرين في علاج جراحهم وإسعافهم"، يقول الإخصائي في الجراحة النسائية والتوليد في حديثه لـTRT عربي.

متنقلاً بين ساحات النزاع، جاب الدكتورُ الخمسيني أرجاءَ مختلفة من العالم في أوقات الدمار والكوارث الإنسانية، خبِر طب الحروب وأجرى مئات العمليات الجراحية والتدخلات الطبية التي أنقذت حياة أمهات وأجنتهن.

عن مفارقة "الولادة والموت"؛ اشتغاله في مكان يعُمّه الموت من أجل منح الحياة لأشخاص جدد، يقول الهنا: "المفارقة الحقيقية هي أن في أوقات الأزمات، معدل الولادات يرتفع.. لا يبقى أمام المتزوجين إلا العلاقات الحميمية، لتفريغ الضغوط ونسيان الآلام ولو لبرهة.. الحياة تستمر وللإنسان قابلية كبيرة على التأقلم والتكيف تحت كل الظروف وأمام كل الصعوبات".

يضيف ابن الدار البيضاء: "في سوريا وفلسطين مثلاً، حضرت عدداً من حفلات الزفاف خلال الحرب، الحياة لا تتوقف، تستمر حتى في الحرب، متى كان هناك نبض للحياة فالإنسان يواصل العيش.. رغبة الجنس البشري في الحياة قوية"، يضيف: " لاحظت الإنسان خلال الحرب، يخرج طاقة كبيرة وجديدة في الإبداع والفكر. مواهب تكون مغيبة خلال الأيام العادية".

دنوٌ من الموت

الاشتغال في المجال التطوعي الإغاثي ليس رحلة سياحية أو ترفاً، بل إنه لا يخلو من مخاطر. عايَش الهنا مواقف خطيرة، اقترب خلالها من الموت، لولا حسن الحظ ولُطف القدر. يستحضرها بنوستالجية: " خرجت يوماً في جنين الفلسطينية، لأداء صلاة الفجر وفي طريق عودتي إلى المركز الذي كنت أقطن فيه، وجدت نفسي وسط اقتتال بين قوات الاحتلال والمقاتلين الفلسطينيين، اقتحمت سيارات الاحتلال الشارع الذي كنت فيه، وبدأ إطلاق النار، اختبأت ودلفت عبر أزقة لم أعرفها حتى تمكنت من بلوغ مقر السكن، لم أعرف كيف نجوت بأعجوبة دون أن أتعرض لرصاصة طائشة".

يسترسل الطبيب المغربي مبتسماً: "ثاني موقف نجوت فيه من موت محقق، هو عندما كنت داخل سيارة، لنقل الأطباء المتطوعين بسوريا، وأمامنا على الطريق مباشرة سيارة، تعرضت لقصف جوي ربما كان عشوائياً، كانت تفصلنا عنها مترات قليلة، غير أننا لم نصب بأذى كنا مهددين في أية لحظة، وكانت الكيلومترات الخمسة المتبقية قبل الوصول إلى الحدود، التي وجهتنا عبر تلك السيارة الأطول إطلاقاً".

حجمُ الدمار والمآسي، وظروف العمل الصعبة، لم تدفع الهنا، الأب لأربعة أطفال، إلى التوقف ولم تهن قواه للحظة، بل على العكس يكشف في حديثه أنه يعود إلى أحضان أسرته الصغيرة أقوى وبمعنويات مرتفعة، "تجارب الحرب تجعلني أستصغر المشاكل اليومية التي قد تعترضني، وأرى أنها لا تساوي شيئاً أمام مأساة الآخرين في مناطق أخرى.. أدهش مثلاً لشخص يغضب عندما تتعطل سيارته، إن هذا الأمر، تافه جداً، بالمقارنة مع مشاكل فرد آخر، دمر بيته مثلاً وأصبح بلا مأوى وبدون جل الاحتياجات الأساسية".

الأثرُ في العَطاء

خلال أعماله التطوعية، لا يكتفي الهنا بالتدخل في مجال تخصصه وهو التوليد، بل يعمل أيضاً في أقسام المستعجلات والجراحة، وهذا عائد حسب ما صرح به للموقع إلى النقص في الأطقم الطبية وارتفاع أعداد المصابين، كما أشار إلى أنه يقوم أيضاً بتنظيم ورشات تدريبية وتكوينية للأطباء والقابلات المحليين في المناطق التي يزورها.

"مؤخراً، أركز بشكل أكبر على تنظيم هذه الورشات مجال التوليد بكل ما أوتيت من قوة وعلم، لأن أهم شيء أن تنقل الخبرة وتترك أثراً مستمراً، لأن الفترة التي لا نقضيها لا تكون بالضرورة كافية، أعلّم القابلات كيف يشتغلن بمواد بسيطة، سواء في حالة الحرب أو في المناطق التي يغيب فيها"، يورد المتحدث، مضيفاً: "أحرص على أن أؤقلم الطب في المناطق النائية في ظل ضعف الإمكانيات، على استعمال العقل أكثر من الآلة، التكنولوجيا الحديثة تغيّب العقل بشكل يقتل الطبيب، هذا ما أحاول إيصاله خصوصاً إلى الأطباء الشباب".

بعد أن قام خلال السنوات الثلاث الأخيرة بتكوين أزيد من 600 قابلة وطبيب عام، وتكوين أزيد من 280 طبيباً جراحاً بالمغرب وسوريا، أسرّ الهنا إلى TRT عربي بأنه يشتغل على مشروع مستقبلي هو افتتاح مكتب بإسطنبول ينظم ورشات تدريبية في مجالات الإغاثة والجراحة وطب الحروب لشباب المنطقة، وتأسيس شبكة للأطباء تتطوع لزيارة مناطق النزاعات التي ترفض أحياناً بعض المنظمات الدولية دخولها خوفاً من الاختطافات والهجمات.

"عدم الرضا"

تنقلاتُ زهير الهنا التطوعية، ليست فقط إلى خارج المغرب، بل يخصص زيارات إلى بوادي وقرى المملكة، من أجل تقديم خدمات طبية لمواطني "المغربي المنسيّ"، فعلى الرغم من إعلانه قبل أسابيع اعتزاله أنشطته التدريبية والتطوع ببلده بسبب ما اعتبره "صراعهُ وحيداً مقابل غيابِ المسَاندة". تراجع الهنا سريعاً عن قراره، فخلال الأسبوع الماضي، بمجرد سماعه حدوث فيضانات وسط المغرب أوقعت قتلى وجرحى، هرع يتصل وينسق مع زملائه من أجل تنظيم زيارة طبية لأهالي هذه القرى المستكينة خلف جبال الأطلسي.

يصرح الهنا بأنه لا ينظر بعين الرضا إلى واقع الصحة بالبلد الذي أنجبه، مشيراً: "ما دفعني للتطوع والتفرغ للعمل الإنساني، هو أحوال المستشفيات المزرية.. في المنظومة الصحية خلل عميق، وأي مغربي سيخبرك بهذا الأمر، الكثير من الزملاء في المهنة يآخذونني على صراحتي لكن هذا هو الواقع الذي لا يمكن حجبه".

ترك زهير الهنا وظيفة قارةً في مستشفياتِ عاصمةِ الأنوار، وسعى، لما يزيد عن عشرين سنة، في ساحات الحرب، يلملمُ جراح المعطوبين (TRT Arabi)
عايَش الهنا مواقف خطيرة، اقترب خلالها من الموت، لولا حسن الحظ ولُطف القدر (TRT Arabi)
نخرط الهنا في عدد من المنظمات الدولية التي تشتغل في المجال الإنساني التطوعي؛ جاب مع "أطباء بلا حدود" و"أطباء العالم"و"نساء بلا حدود" (TRT Arabi)
حجمُ الدمار والمآسي، وظروف العمل الصعبة، لم تدفع الهنا، الأب لأربعة أطفال، إلى التوقف ولم تهن قواه للحظة (TRT Arabi)
متنقلاً بين ساحات النزاع، جاب الدكتورُ الخمسيني أرجاءَ مختلفة من العالم في أوقات الدمار والكوارث الإنسانية (TRT Arabi)
عن مفارقة "الولادة والموت"؛ اشتغاله في مكان يعُمّه الموت من أجل منح الحياة لأشخاص جدد (TRT Arabi)
TRT عربي