تابعنا
في الآونة الأخيرة يزداد الحديث في مواقع التواصل الاجتماعي عن ضرورة تعلّم النساء أساسيات الدفاع عن النفس حتى يتمكنَّ من التعامل مع أيّ عارضٍ أو اعتداءٍ قد يتعرضنَ له هنا أو هناك.

وما بين الصور التي توضّح الخطوات الأساسية الأولى لرياضات الدفاع عن النفس، أو الفيديوهات التي تسهب بالشرح والتوضيح، نرى هنا تفاقماً في حاجة المرأة لمثل هذه الفنون على اعتبار أنها قد تحميها أو تهيّئها جسديّاً ونفسيّاً للتعامل مع المضايقات التي تعترضها.

ولو عُدنا بالتاريخ إلى الوراء قليلاً لوجدنا أنّ الحديث عن ضرورة تعلّم المرأة لفنون الدفاع عن النفس ليس جديدًا البتة؛ فعلى سبيل المثال انتشرت مؤخراً سلسلة من الصور التي تعود إلى عام 1906 تحت عنوان "عندما يهاجمكِ قاطع طريق" وتُظهر بشكلٍ توضيحيّ شابّة تنفذ عدداً من الحركات الجسدية والأساليب الدفاعية عن النفس باستخدام يديها ومظلّتها ضدّ معتدٍ.

حملت هذه الحركات لاحقاً اسم "أسلوب لاتسون في الدفاع عن النفس" وأعيد نشرها على مدى سنوات عديدة في القرن العشرين مع ازدياد وعي المرأة بضرورة تجهيز نفسها للتعامل مع مثل مواقف كهذه.

وبقفزة إلى عامنا هذا، أصبحت المرأة أكثر وعياً بضرورة هذه الفنون. تلعب مواقع التواصل الاجتماعي دوراً كبيراً في هذا؛ فمن جهة ساهمت إمكانية نشر الصور التوضيحية والفيديوهات التعليمية في التعريف بأساسيات ومبادئ حركات الدفاع عن النفس. ومن جهةٍ ثانية فهي تساعد في الحدّ من الوصمات الاجتماعية المتعلّقة بتعلّم المرأة لفنون القتال والدفاع عن النفس وتزيد من تقبّلها، ليس فقط بل تؤكّد على ضرورتها ولزومها.

ولا يقتصر الحديث عن ذلك في الأحاديث العامة وحسابات مواقع التواصل الاجتماعي وحسب، فثمّة عدد متزايد من الأبحاث والدراسات النفسية التي تُشير بالفعل إلى أنّ تدريبات الدفاع عن النفس قد تمكّن المرأة وتساعدها على التعامل مع ما تتعرّض له من عنف، سواء في الحيّز العام أو حتى في الحيّز الخاص على يد قريبٍ أو صديق.

المرأة.. خطّ الدفاع الأول عن نفسها

لا تكتفي التوجّهات الجديدة إلى تعليم النساء فنون الدفاع عن النفس بشكلٍ تقليديّ كما هو متعارف عليه في هذه الرياضات على مدى السنوات السابقة، لكنّ بعضاً منها يجعل من هدفه الأول والأخير تجهيز المرأة لمواجهة أيّ اعتداءٍ جسديّ أو جنسيّ قد تتعرّض له هنا أو هناك.

يؤكّدذلك مقالٌ نشرته صحيفة "ذا أتلانتك" مؤخراً. أيْ أنّ تدريبات الدفاع عن النفس بالفعل قد تمكّن النساء من مواجهة خوفهنّ من التعرّض للعنف الجنسي والاعتداءات الجسدية الآخذة بالتزايد. فمن ناحية سيكولوجية، تلعب تلك التدريبات دوراً مهمّاً في تعزيز شعور المرأة بالتمكّن والقدرة على التحكّم والسيادة الذاتية على سلامتها وجسدها.

وبكلماتٍ أخرى، تغيّر تلك التدريبات من فكرة المرأة عن نفسها بأنها كائنٌ هشٌ وضعيف لا يستطيع حماية نفسه من الاعتداءات التي قد يتعرَض لها. ومع الوقت، تزيد ثقتهنّ بقدرتهنّ على الدفاع عن أنفسهنّ، الأمر الذي يؤدّي بدوره إلى تعزيز الإحساس بما يُعرف في علم النفس بمصطلح "النجاعة الذاتية" "Self-efficacy"، أي مدى اعتقاد الشخص بقدرته على التعامل مع ما يواجهه وقدرته على تحقيق أهدافه وبلوغ مقاصده. وبعبارة أخرى، هي مدى إيمان الشخص بقدرته على النجاح في مواقف معينة أو إنجاز مهمة ما.

في حديثها مع TRT عربي، تحدّثت المدرّبة والملاكمة لينا فياض عن تجربتها التي تمتد لما يقارب العشرين عاماً في هذا المجال. وعن كونها بدأت التدريب كهواية نظراً لأنّ والدها كان ملاكماً أيضاً، إلا أنها مع الوقت وجدت أنّ هذا النوع من الرياضات مهمّ جداً للفتاة في مجتمعاتنا العربية، لا سيّما مع أصوات الرفض التي لحقت بها سواء من الرجال والنساء.

تؤكّد لينا أنّ رياضات الدفاع عن النفس تساهم في رفع ثقة الفتاة بنفسها. وترى أنّه غالباً ما يُنظر للمرأة على أنها مخلوق ضعيف لا حول له ولا قوة. لذلك فإنّ التدريب على الدفاع عن النفس يبني قوّة جسدية ونفسية وعقلية لدى المرأة، تتراكم لديها شيئاً فشيئاً حتى تصبح قادرة على التعامل مع أيّ عدوانٍ قد يواجهها من قريبٍ أو بعيد.

ترى فياض أيضاً أنّ ثمّة تغيراً ملحوظاً في تقبّل المجتمع لدخول الفتاة أو المرأة في مسارات كهذه الآن. والتشجيع الذي تتلقاه على ما تقوم به من ممارسة وتدريب، باتت تتلقاه من كلا الجنسين، النساء والرجال الذين يؤمنون بضرورة أن تمتلك المرأة قوّة جسدية ونفسية تمكّنانها من مواجهة ما قد يعترضها من تحديات في الحيزين الخاص والعام.

لينا خليفة، صاحبة ومؤسِّسة مشروع She Fighter، الذي بدأته في عمّان قبل أنْ يتوسّع أكثر في الشرق الأوسط، تؤكد، في السياق نفسه، على دور هذه المشاريع في تمكين وتعزيز ثقة المرأة بنفسها. وترى ضرورة أنْ تعمد الحكومات إلى إدراج الدفاع عن النفس في المناهج التربوية في مدارس الفتيات. أمّا عن مدى تقبّل المرأة لذلك، فتشير خليفة إلى أنّ الفتيات يحتجن فقط إلى توعية عن أهمية هذه الفنون ودورها. والآن الكثيرات منهنّ صرن واعيات بذلك. فضلاً عن أنّ التدريبات ساعدت بعضاً منهنّ بالفعل في مواجهة الاعتداءات التي تعرضن لها في الحيّز الخاص أو العام.

علاج لصدمات التحرّش والاعتداءات الجنسية

مع كلّ ما نسمعه ونراه يومياً من ضحايا التحرش والاعتداءات الجنسية، فربما ليس من الغريب أنّ تتحول تدريبات الدفاع عن النفس إلى شكلٍ من أشكال العلاج النفسيّ التي تمكّن المرأة من تجاوز ذكريات الاعتداء المؤلمة، وتؤهّلها للتخلص من أيّ أثر سلبيّ قد يُفقدها قدرتها على التأقلم مع العالم الذي تعيش فيه.

يتشابه الدفاع عن النفس هنا مع العلاج بالتعرض، واحد من أشكال وأساليب العلاج المتّبعة في العلاج السلوكي المعرفي، حيث يتعرّض الشخص للأشياء التي يخشاها ويتجنبها في بيئةٍ آمنة دون أنْ يشكّل ذلك خطراً عليه. تتكرّر عملية التعرّض مراراً وتكراراً حتى تُخمد الاستجابات الناتجة من التعرّض كالقلق والخوف والهلع وغيرها.

في حالة الدفاع عن النفس، يمكن اعتبار التدريب محاكاةً للخطر وتهيئة الفتاة للتعامل مع ما تخشاه في أماكن كثيرة، لكنها هنا لا تتعرّض فقط لاعتداءاتٍ محاكية ولكنها تمارِس وتتدرب على استجابات استباقية، بما في ذلك مناورات الدفاع عن النفس والهجوم. ومع مرور الوقت، يمكن أنْ تتحوّل ذكريات الاعتداء القديمة والمؤلمة إلى ذكريات جديدة تعطيها شعوراً بالقوة والتمكين وبقدرتها على حماية نفسها والتعامل مع أيّ تهديدٍ لها قد يأتي من المحيط.

يُعرف هذا النوع من الدورات باسم "دورة نموذج الاعتداء" أو "Model Mugging" والذي صمّم بمساعدة عددٍ من علماء النفس والعاملين في مجال الصحة النفسية، إضافةً لمتخصّصين في فنون القتال.

يقوم مبدأ النموذج على قيام متدرّب يرتدي سترةً مبطّنة وضخمة ليحاكي سيناريوهات الاعتداء وتصرّفات وسلوكيات المعتدي. مرةً يمثّل وكأنه معتدٍ غريب ومرةً يأخذ الدور وكأنه أحد أقارب الضحية أو معارفها لتهيئتها نفسيّاً في حال تعرّضت لاعتداءٍ من أحد أفراد العائلة أو الأصدقاء والمعارف المحيطين.

عام 1990، درس عالم النفس الشهير ألبرت باندورا الفرضيات القائلة بأنّ "نموذج الاعتداء" قد يساعد في تعزيز التمكين الذاتي والقدرة على التأقلم بعد التعرّض للتهديدات الجسدية، وقد توصّل بالفعل إلى أنّه يعزّز من الكفاءة الذاتية لدى المرأة، أي قدرتها على أداء أعمالها بفعالية، ويزيد من ثقتها على التجاوز ويقلّل من قابليتها على التأثر السلبي بالاعتداء الحاصل لها وما يرتبط به من مشاعر بالقلق والخوف والذنب.

ووفقًا لنظرية باندورا، فإنّ النساء اللواتي أظهرن نسبةً عالية في الكفاءة الذاتية بعد انخراطهنّ في دورة الدفاع عن النفس كنّ أكثر قدرةً على مواجهة التحديات والصعوبات التي يتعرّضن لها من جهة، والتغلّب على الفشل أو تجنّبه من جهةٍ ثانية. ومن هنا، يكون نموذج الاعتداء هو الطريقة التي تعزّز فيها المرأة كفاءتها الذاتية وتقلّل من شكوكها وأفكارها السلبية حيال قدرتها على مواجهة ما قد تواجهه.

ويشرح باندورا في ورقته أنّ النساء بعد إنهائهنّ للدورة اعتبرنَ أنفسهنّ أقلّ عرضةً للاعتداء الجنسي وأكثر قدرةً على التمييز بين الحالات الآمنة والخطيرة، وبالتالي أكثر قدرةً وسرعةً على التعامل مع الحالات الخطيرة في حال حدوثها. يمكن تفسير ذلك بأنّ إتقان مهارات الدفاع عن النفس أدى إلى التقليل من الأفكار السلبية عن قدرة المرأة وضعفها والتي تسبّب بدورها الخوف والقلق، وإنما على العكس زادت من شعورها بالسيطرة والقدرة الذاتية على الدفاع عن نفسها.

اليوم، هناك المزيد من الاهتمام بإدراج رياضة الدفاع عن النفس ضمن العلاج النفسي للصدمات. لكنّ الموضوع لا يزال بحاجة لمزيد من الدراسات والأبحاث، ومراقبة المستشارين والخبراء النفسيين لدوره وسيرورته وأثره على نفسية المرأة التي تقصده. دون أنْ يعني ذلك أنّه قد يكون كافياً وحده، فحالات الصدمة الناتجة عن التحرش أو الاعتداءات الجنسية واسعة ومختلفة، وما قد يؤتي ثماره من علاجات مع حالةٍ أو اثنتين قد يزيد من سوء حالةٍ ثالثة. لذلك، ينبغي دوماً استشارة الطبيب أو المعالج النفسي قبل التوجه لتدريبات الدفاع عن النفس أو ما يشابهها من فنون القتال.

تعلّم المرأة لفنون الدفاع عن النفس ليس جديدًا البتة، بل يرجع إلى سنة 1906 مع أسلوب لاتسون (Getty Images)
في حالة الدفاع عن النفس، يمكن اعتبار التدريب كمحاكاة للخطر وتهيئة الفتاة للتعامل مع ما تخشاه في أماكن كثيرة (Getty Images)
هدف هذه التوجهات الجديدة في الدفاع عن النفس هو تجهيزالمرأة لمواجهة أيّ اعتداءٍ جسديّ أو جنسيّ قد تتعرّض لها هنا أو هناك (Getty Images)
TRT عربي