تابعنا
استطاعت الرواية خلال السنوات الأخيرة فرض ذاتها في المشهد الأدبي بالعالم العربي، متجاوزة الشعر وباقي الأشكال الأدبية والمعرفية الأخرى. لماذا يجنح القارئ العربي إلى الرواية؟

عوالم الرواية عجائبية، لها قدرة استثنائية على السفر بالقارئ إلى أزمنة وأمكنة مدهشة، فبفضل التسلسل القصصي للأحداث، يتنقل القارئ في تجارب فريدة مع توالي الصفحات، ومن خلال نبش الكاتب في الأحاسيس الداخلية لشخوصه، آلامها وأفراحها وهواجسها، ورسمه سيناريوهات مرّكبة في مخيلة القارئ، يكتشف هذا الأخير، فضاءات نفسية جديدة، تنقله ولو للحظات، بعيداً عن واقعه المعيش.

خلال السنوات الأخيرة استطاعت الرواية العربية فرض ذاتها في المشهد الأدبي، متجاوزة الشعر وباقي الأشكال الأدبية والمعرفية الأخرى، إذ يتزايد إقبال دور النشر على طبعها، ويرتفع طلب القراء عليها مقارنة بباقي الأنواع الأدبية، وفق ما تكشفه معطيات المعارض والمكتبات في قوائمها للكتب الأكثر مبيعاً، فرغم التراجع العامّ في نسب القراءة، فإن للرواية قاعدة مهمة من القراء، خصوصاً الشباب.

نجاح الرواية في الهيمنة على الحقل الأدبي، ليس حبيس الرواية العربية، بل إنه توجُّه عالمي، وفق ما أكّده متابعون للشأن الثقافي، غير أن خصوصيات ما تمر به المنطقة العربية سياسيّاً وثقافيّاً واجتماعيّاً، يفرض التساؤل عما إذا كانت هذه الهيمنة راجعة إلى هرب القارئ من واقع الخراب والصراع نحو مساحات الطمأنينة التي تمنحها الرواية، أم تتعلق برجّة ونهضة جديدة في الرواية العربية، استطاعت من خلالها استقطاب جمهور خاص ووفيّ.

"اختزال الآلام"

يرجع عدد من المتابعين حظوة الرواية اليوم إلى قدرتها على انتشال القارئ من آلام الواقع العربي الذي يعيش حالة من التشظِّي والانهزام، أمام قساوة الظروف الاقتصادية والاجتماعية وضبابية الأفق بعد توالي المشكلات والصراعات السياسية بعدد من دول المنطقة منذ ثورات الربيع، إذ تشكّل عوالم الرواية الخياليّ منها والواقعيّ، ملجأ آمناً.

الروائي المغربي عبد المجيد سباطة، يقول في هذا السياق إن الساحة الأدبية العربية، تشهد حركية واضحة، منحت الرواية شهادة التفوُّق، مضيفاً أن "كثيرين يتحدثون عن هذا الجنس الأدبي، باعتباره ديوان العرب الجديد بعد إزاحته للشعر عن عرشه، وإجباره عدداً من الشعراء على الهجرة إلى عوالمه طوعاً أو قسراً".

وأبرز سباطة في تصريح لموقعTRT عربي، أن الأوضاع التي تعيشها المنطقة العربية من انهيار للدول، والصراعات القومية والدينية والطائفية، علاوة على التخلّف الصريح عن ركب الدول المتقدمة، أسباب تجعل من القارئ العربي، مستسلماً لواقعه وراغباً في البحث عن فسحة خيال توفّرها الرواية.

تزايد الاهتمام بالرواية في المنطقة العربية، ونجاحها في استقطاب جمهور جديد، سنة بعد أخرى، مكّن هذا الجنس الأدبي من تصدُّر المشهد الثقافي العربي. واعتبر الكاتب المغربي طارق بكاري، هذا النجاح "مؤشراً إيجابيّاً"، مشيراً إلى أن "نهضة هذا الجنس الأدبي تعود إلى قدرته على اختزال آلام وآمال المجتمعات".

مرآة عاكسة

لطالما ارتبطت الرواية بالواقع، وكانت مرآةً عاكسة لتحولاته المستمرة، إذ تطرح أسئلة الفرد وقضايا المجتمع، من خلال تقديم الروائي تصوُّراته ونظرته، بالاعتماد على أسلوبه التعبيري وتقنياته السردية الخاصة في الكتابة.

الروائي المغربي سباطة، اعتبر أن الرواية العربية الحديثة بدورها، تنقل صور وموضوعات هذا الواقع بكل مرارته وقسوته، غير أن قراءته في الرواية تبقى أهون من معايشته. وحول تعاطي الكتاب بدورهم مع قضايا المجتمع، كشف المتحدث أن عدداً من الروائيين يلجأ إلى التاريخ ووقائع الماضي من أجل التعبير عن الحاضر ولتمرير أفكار سياسية وفلسفية حوله بأريحية أكبر.

من جهته أبرز بكاري أن إقبال القراء على الرواية العربية، يأتي من كونهم يجدون في الأعمال الروائية ذواتهم، وتمنحهم تشريحاً للمجتمع بكل تناقضاته. وأضاف أن الرواية تستمد قوتها من كونها جنساً قادراً على التهام باقي الأجناس الأدبية وغيرها من صنوف المعرفة، فالرواية تُشبِعُ في القارئ حاجتهُ إلى المتعة وتنمية خياله، مثلما تشبع حاجتهُ إلى المعرفة كذلك.

"حركية جديدة"

وحول رأيه في أسباب تزايد الاهتمام بالرواية والحركية التي تعرفها الرواية في المشهد الأدبي العربي، قال عبد المجيد سباطة إن جزءاً كبيراً من هذه الدينامية "يعود بالدرجة الأولى إلى إنشاء جوائز أدبية معظمها خليجية التمويل، ساهمت في تحريك مياه الرواية الراكدة، وحفزت الروائيين للتنافس على تقديم أعمال جديدة في شكلها ومضمونها".

الدينامية الجديدة التي بعثتها الجوائز في نفَس الرواية، وإن كان وقعها إيجابيّاً على مستوى الإنتاجية والتحفيز، حسب سباطة، تسببت أيضاً في الإضرار بهذا الجنس الأدبي من خلال خلقها مَن أسماهم المتحدث بـ"كتاب الجوائز الذين يكتبون ويصدرون أعمالهم وفق معايير هذه الجائزة أو تلك"، مشيراً إلى أن ظهورهم يتكرر فيها كل سنة، إذ يتبادلون مواقعهم فيها بانتظام، في تطبيق واضح لشروط لعبة الكراسي الموسيقية" على حد تعبيره.

واعتبر المتحدث أن هذه الصور البئيسة من المشهد الأدبي العربي "تضرب المصداقية ومعيار الإبداع في مقتل"، ويسائل عن الجدوى والهدف الحقيقي من إنشاء هذه الجوائز ومدى قدرتها على إفادة صورة الأدب العربي أو الإضرار بها، محليّاً وعالميّاً".

من جهته أكد الكاتب المغربي طارق بكاري في تصريحه لموقع TRT عربي، أن الاهتمام الإعلامي المتزايد بفنّ الرواية، وعلى تغطية جديد الأعمال الروائية، ساهم في توسيع قاعدتها الجماهيرية، كما مكّن، وفق المتحدث، من استقطاب أقلام جيدة من أجناس أدبية وحقول معرفية أخرى.

في المقابل رفض الناقد الأدبي موليم العروسي، القول إن للرواية هيمنة على المشهد الثقافي العربي خلال السنوات الأخيرة، مشيراً إلى أنه في غياب أبحاث ميدانية تقوم على أسس علمية ينجزها باحثون مختصون، يصعب الجزم بهذا المعطى اعتماداً فقط على تقارير معارض الكتاب وأرقام مبيعاتها.

واعتبر المتحدث أن تراجع مبيعات الأعمال الشعرية مقارنة بالرواية، يدفع ربما إلى التخمين أن القراء تحولوا إلى الرواية. وأشار العروسي في تصريحه لموقع TRT عربي إلى أن الشعر الجيد كان دائماً نخبويّاً، والجمهور يفضّل الاستماع إلى الشاعر عوض أن يقرأ بنفسه، والدواوين كانت دائماً تُباع بعدد محدود، ويستمرّ الحقيقي منها في الوجود إلى ما لا نهاية.

وحول ارتفاع إنتاجات الأعمال الروائية، أوضح العروسي أن الاتجاه لكتابة الرواية لا يعني زيادة عدد قرائها بالضرورة، معتبراً أن "عدداً مهمّاً ممَّا يسميه النقاد والصحافيون رواية، لا يعدو أن يكون مذكّرات أو سِيَراً لا تتوفّر على أدنى قيمة أدبية".

تراجع مبيعات الأعمال الشعرية مقارنة بالرواية، يدفع ربما إلى التخمين أن القراء تحولوا إلى الرواية (Getty Images)
لطالما ارتبطت الرواية بالواقع، وكانت مرآةً عاكسة لتحولاته المستمرة، إذ تطرح أسئلة الفرد وقضايا المجتمع (Getty Images)
يرتفع طلب القراء على الرواية في العالم العربي مقارنة بباقي الأنواع الأدبية، وفق ما تكشفه معطيات المعارض والمكتبات في قوائمها للكتب الأكثر مبيعاً (Getty Images)
TRT عربي