تابعنا
وجد الشباب العربيّ أنفسهم خارج المعادلات السياسية، التي تبعت سقوط أنظمة الاستبداد، فعاد بعضهم إلى الأرصفة والمقاهي التي اعتادوا الجلوس عليها، ولازم آخرون خيام الاعتصامات أمام مقرّات الوزارات، حالمين بفرص للعمل تضمن لهم العيش الكريم.

عندما هبّت نسائم الربيع العربي، كان الشباب أول من خرج إلى الميادين عندما ضاقت السبل، ونقلوا الصورة إلى العالم الخارجي، لنفض غبار عقود من التهميش، وأشعلوا وقود الثورات في كل من تونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا، ثم الجزائر لاحقاً، وغيرها من الدول العربية، إذ كانت هذه الدول تعاني أصلاً من صعوبات اقتصادية، على أمل أن ينالوا فرصتهم، غير أن رياح ثوراتهم سارت بما لا تشتهيه شعاراتهم التي تطالب بالتشغيل والعدالة الاجتماعية.

هؤلاء الشباب وجدوا أنفسهم خارج المعادلات السياسية، التي تبعت سقوط أنظمة الاستبداد، فعاد بعضهم إلى الأرصفة والمقاهي التي اعتادوا الجلوس عليها، ولازم آخرون خيام الاعتصامات أمام مقرّات الوزارات، بالمركز والمحافظات بالجهات والمؤسسات الرسمية، وتحولوا شيئاً فشيئاً إلى عبءٍ على الحكومات، بعد أن كانوا وقوداً لثوراتها.

وعلى الرغم من كثرة المؤسسات والدوائر والأجهزة الرسمية التي تدَّعي خدمة شرائح الشباب في دول الثورات العربية، فإن معدلات البطالة في ارتفاع مستمر، لتظل مرارة البحث عن العمل والوظيفة هي الألم الأكبر والتحدي الأعظم في وجه أرتال العاطلين، إذ سجل معدّل البطالة ارتفاعاً بلغ أكثر من 16%، وتجاوز عدد العاطلين عن العمل 20 مليون عاطل في البلدان العربية.

في تونس البطالة أمُّ القضايا

تونس التي تعدُّ المثال الأنجح لدول الربيع العربي، لا يشعر الكثير من شبابها بتحسن الأوضاع الاجتماعية، بل يقولون إنّها ازدادت سوءاً بسبب تفاقم البطالة، التي ظلت عند حدود 15.3% قياساً بنحو 11% في 2010، أي ما يعادل أكثر من أكثر من 600 ألف عاطلٍ عن العملعلى الرغم من برامج الحكومات المتعاقبة لدعم سوق العمل التي كانت عناوين حملات انتخابية عديدة.

وتؤكد الإحصائيات الرسمية أن فجوة البطالة تتسع في الأرياف بشكل أكبر مقارنة بما هي عليه في المدن، بينما تظل النسبة الأعلى في صفوف خريجي الجامعات، إذ تواصلت الاحتجاجات والاعتصامات المطالبة بالتشغيل، على امتداد السنوات العشر الماضية من دون توقُّف، وبلغت خلال شهر مايو/أيار الماضي فقط 516 تحرّكاً، حسب دراسة أعدّها المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية.

ويلفت في هذا السياق، عضو تنسيقية الحركات الاجتماعية بتونس عبد الحليم حمدي في تصريحه لـTRT عربي، إلى أن "شعار (شغل.. حرية.. كرامة وطنية) كان أول الشعارات التي رفعها الشباب التونسي الذي خرج ثائراً على نظام بن علي المستبد، غير أنه ظل شعاراً يرفعه العاطلون عن العمل خلال الاعتصامات، أو يذكر في المنابر الإعلامية خلال مناسبات معينة".

اقرأ أيضا:

واعتبر حمدي أن "رؤساء الحكومات الثماني الذين تعاقبوا على السلطة بعد ثورة 2011، لجؤوا إلى حلول ترقيعية ومسكنات تمثَّلت في طرح آليات تشغيل هشة من دون ضمانات اجتماعية لم تستوعب كل العاطلين عن العمل، كما طرحوا (حبوباً مخدِّرة) متمثِّلة في بعض المنح التي لا تغني من جوع".

اليمن بين عدوان البطالة وجحيم الحرب

الأمر يختلف في اليمن الذي يعيش شبابه ظروفاً قاسيةً ويواجهون بثبات أوضاعاً مأساوية فُرضت عليهم بسبب الحرب والحصار الشديد المفروض من قبل التحالف بقيادة السعودية، بإعدامه فسحة الأمل وفرص العمل، فقد تسبّب في توقف عديد الوظائف والمرتبات ومغادرة رؤوس الأموال، لتغدو البطالة والحرب ثنائية العدوان على الشباب اليمني.

وحسب تقرير صادر عن وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل، فإن الحرب الدائرة في البلاد تسببت في فقدان خمسة ملايين عامل وعاملة وظائفهم وأعمالهم، فيما تشير آخر الإحصائيات المتعلقة بنسب البطالة إلى أن البلد تجاوز منذ 2018 معدل 60%، ويقدر اتحاد عمال اليمن نسبة من فقدوا أعمالهم بنحو 80% من حجم القوى العاملة بالبلاد.

يأتي ذلك كنتيجة آلية لإغلاق آلاف الشركات والمصانع منذ أن بدأت الحرب، ليفقد جراء ذلك 80% من الشباب العاملين وظائفهم، وهو ما أكده الباحث اليمني في علم الاجتماع محمد الكامل، مشيراً في تصريحه لـTRT عربي، إلى أن "وضعية البطالة باتت هاجساً خطيراً يهدّد اليمنيين، أخطر من الحرب ذاتها، إذ إن أغلب العمّال الذين يعملون لا يستلمون رواتبهم منذ نحو أربعة أعوام، أو على الأقل لا يستلمونها بشكل منتظم".

الكامل لفت أيضاً إلى أن "الشباب لا يبحثون عن العمل، بل أصبحوا لا يعتمدون على الدولة أو الوظيفة، إذ إنهم لا يزالون يعتمدون على مدخراتهم وعلاقاتهم بالريف الذي يمثل نحو 70% من المجال اليمني، كما يعتمدون أكثر على تضامن الأسرة والأهل والمغتربين في العالم".

ليبيا الجريحة

وعلى الرغم من غياب الإحصائيات الدقيقة عن ليبيا حول معدلات البطالة بسبب الانقسام السياسي والفوضى الأمنية الحاصلة في البلاد، فإن التصريحات الرسمية لبعض وزراء حكومة الوفاق تؤكد أنّ 100 ألف خريج من الجامعات الليبية سنوياً لا يجدون وظائف في سوق العمل، بسبب تدني مخصصات الاستثمارات التنموية في الميزانية العامة، فيما تؤكد منظمة العمل الدولية أنّ نسبة البطالة فيها تجاوزت 19.2%.

ويشير وزير الاقتصاد الليبي علي العيساوي إلى أن الأعوام الأخيرة شهدت ارتفاعاً في عدد الداخلين إلى سوق العمل بمختلف المناطق الليبية، لا سيما المناطق النائية والجنوبية، بسبب عدم وجود وظائف حكومية، بالإضافة إلى وجود ما يسمى "موظفين خارج الملاك الوظيفي" يبلغ عددهم 45 ألف موظف يتقاضون رواتب شهرية من دون وجود آلية لتدريبهم وتطويرهم في سوق العمل.

من جانبه، يعتبر الصحفي الليبي محمد أسويطي في تصريح لـTRT عربي، أن "نسبة البطالة في ليبيا تكاد تفوق 50%، مشيراً إلى أن رحى الحرب الدائرة في ليبيا كان لها تأثير سلبي على الوضع الاقتصادي، بخاصة في ظل الأطماع الدولية على نهب خيراتها".

اقرأ أيضا:

حرب سوريا تنزف بطالةً

وأمام استمرار الحرب في سوريا، وتواصُل تدمير آلاف المنشآت الاقتصادية والاجتماعية، وهدم البيوت والمؤسسات وتشريد ملايين السوريين، فقد حدث ارتفاع قياسي لنسب البطالة، على الرغم من اختلاف الأرقام الصادرة عن مراكز الدراسات، فإن جميعها يتقاطع حول فكرة ارتفاعها الكبير خلال السنوات الماضية، الأمر الذي خلق بمجمله صورة قاتمة لمستقبل جيل كامل ينتظر فرصة للعمل.

ويقدّر المحلل الاقتصادي السوري يوسف بركات المقيم بتونس في تصريحه لـTRT عربي، نسب البطالة في سوريا بنحو 70% كحد أدنى، ولا يستبعد أن تتجاوز 80%، مُقرّاً بعدم وجود إحصاءات رسمية، غير أنه وبواقع عدم وجود فرص عمل، سواء في القطاع الحكومي أو الخاص، فإن معظم أصحاب الشهادات العاطلين عن العمل، هاجروا إلى دول الجوار وأوروبا.

وكانت الحرب قد أوجدت خلال السنوات العشر الماضية فرصاً مؤقتة للعمل، سواء في الأعمال القتالية، أو حتى ضمن بعض المهن التي خلقتها الحرب، كالعمل ضمن المنظمات الإغاثية، أو خدمات النقل وغيرها من الأعمال.

من جانبه، يخبر الشاب العشريني حسام الحوراني من درعا السورية TRT عربي، بأنه "لا يمكن تحديد نسبة معينة للعاطلين عن العمل بسوريا، لكن الثابت أنها مرتفعة جداً وقد تكون الآن بذروتها، لافتاً إلى أنه لا يمكن حتى تحديد عدد الذين يعملون لأن وضع البلد متدهور خصوصاً مع انهيار الليرة المستمر، حتى إن السكان في أحيان كثيرة لا يجدون ما يأكلونه، مشيراً إلى أن أغلب الشباب لم تعد له فرصة لاختيار العمل الذي يناسبه، بل عليه أن يقبل بأي مجال يتوفر له حتى إن كانت مدة العمل لا تتجاوز أسبوعاً".

البطالة في المغرب قد تتحول إلى قنبلة موقوتة

أما في المغرب فيتفق أغلب المحللين على أن البطالة باتت تعد "قنبلة موقوتة" ومسألة "يجب أن تؤخذ على محمل الجد، إذ إنها تمس أكثر من 10% من المغربيين، في مشكلة تعتبر سبباً رئيسياً للقلق الاجتماعي الذي ينمي مشاعر الإحباط والاستياء في المملكة.

وقد بات مستقبل الشباب، بعد تسع سنوات من حركة 20 فبراير/شباط، التي واكبت مرحلة الربيع العربي في المغرب، موضوع الساعة أكثر من أي وقت مضى في المملكة، التي شهدت في الأعوام الأخيرة حركات احتجاجية غالباً ما يقودها شبان عاطلون عن العمل.

من جانبه، يعتبر المحلل الاقتصادي المغربي رشيد أوراز في تصريحه لـTRT عربي، أن "نسب البطالة في صفوف خريجي الجامعات لا تزال مرتفعة جداً في المغرب، على الرغم من الاستقرار النسبي الذي شهدته في السنوات الأخيرة، خصوصاً بعد إلغاء المرسوم الذي يفرض على الحكومة الانتداب من دون مناظرات توظيف، وهو القانون الذي كان معمولاً به سابقاً، ما خفَّض التحركات الاحتجاجية التي شهدتها البلاد بين 2000 و2012".

ويلفت أوراز إلى "التأثيرات الاقتصادية والاجتماعية السيئة على تنمية البلاد التي تتسبب فيها البطالة بصفوف خريجي الجامعات، الذين تنفق عليهم الدولة أموالاً طائلة لتكوينهم، ولا تستفيد من كفاءاتهم البشرية، إذ يختار بعضهم الهجرة إلى بلدان أجنبية، وهو ما يعدّ من أكبر معوقات التنمية".

هواجس البطالة أكبر من حلولها

مشاكل البطالة وما تبعها من انفجارٍ اجتماعي فاقمها، أرجعه الباحث في علم الاجتماع اليمني محمد الكامل في حديثه لـTRT عربي، إلى أزمة التنمية في المجتمعات العربية التي ركزت بشكل رئيسي على الجانب السياسي على حساب الجانب الاجتماعي والاقتصادي، "فأوقفت توظيف الخريجين ولم يكن القطاع الخاص قادراً على استيعابهم، وتبنت معايير للتوظيف قائمة على علاقة الزبونية، وتحابي فئات معينة، ولّدت مشاعر من الاستبعاد والتهميش لدى الشباب، وظلوا يعانون من مشاكلهم ويراكمونها حتى انفجر الوضع في 2011".

واعتبر أن الثورات التي شهدتها دول "الربيع العربي" لم تحدث تغييراً حقيقياً، بل ولَّدت نوعاً من عدم الاستقرار، ودفعت الحكومات إلى اعتماد ما يُعرف باقتصاد الحرب الذي يشكل بديل هدم للاقتصاد الإنتاجي الوطني، إضافةً إلى الأموال المنهوبة وغياب الاستثمار، ما فاقم معدلات البطالة وجعل من الثورات غير مكتملة ولم تحقق أهدافها".

ولفت إلى أن "الأنظمة السياسية السابقة كانت قد قضت قبل الإطاحة بها على النخب الفكرية والثقافية والتجارية أو استمالتها إلى جانبها، عن طريق التوزيع غير العادل للثروة، ولخيرات التنمية على الجهات"، داعياً الأنظمة العربية إلى "إدراك الوضعية والتحول إلى الإنتاج المحلي واستغلال الطاقات البشرية وتفعيل آليات التكامل العربي الاقتصادي".

بات مستقبل الشباب، بعد تسع سنوات من حركة 20 فبراير/شباط، التي واكبت مرحلة الربيع العربي في المغرب، موضوع الساعة أكثر من أي وقت مضى في المملكة
أمام استمرار الحرب في سوريا، وتواصُل تدمير آلاف المنشآت الاقتصادية والاجتماعية، وهدم البيوت والمؤسسات وتشريد ملايين السوريين، فقد حدث ارتفاع قياسي لنسب البطالة (AFP)
TRT عربي