بيت عصافير عثماني على شكل مسجد (Others)
تابعنا

منذ القدم، أهتم الأتراك بالحيوانات التي تسكن مدنهم وقراهم واعتنوا بها من خلال توفير الحماية وتقديم الماء والطعام لها، وحتى يومنا الحالي إذا ما مشيت بأحد الطرقات أو الأزقة في المدن التركية ستشاهد حاويات الطعام والماء منتشرة في كل مكان على الأرصفة وتحت الأشجار. وتأكيداً على هذه الأفعال والممارسات، قال الشاعر الصوفي العثماني، يونس إمري، "نحن نحب المخلوق بسبب الخالق".

وانطلاقاً من قول يونس إمري، جُبل أهل الأناضول على حب الحيوانات ومساعدتها والرأفة بها. وقبل قرون على صدور قانون خاص يعنى بحقوق الحيوان، بذل المسلمون العثمانيون جهوداً حثيثة من أجل الاعتناء بجميع الحيوانات وحمايتها، وخاصة الطيور الصغيرة ذات الطبيعة الحساسة، ولأجل ذلك تجاوزت جهودهم حدود الرحمة بكثير لتصل إلى مجالات الفن والهندسة المعمارية.

ومن أبرز المعالم والهياكل الهندسية التي يتجسد فيها هذا الشعور هو منازل الطيور التي دأب العثمانيون على تصميمها وبنائها بأشكال وأحجام مختلفة ضمن جدران القصور والبيوت والمساجد والمدارس آنذاك؛ والتي ما زالت حتى يومنا الحالي شاهدة على أسمى معاني الرحمة والجمال إبان فترة حكم الدولة العثمانية.

بيوت الطيور العثمانية

بيوت الطيور العثمانية (Others)

بدأت هذه المباني، التي تُعرف أيضاً باسم "قصور الطيور" أو "منازل العصافير"، في الظهور في العمارة العثمانية منذ القرن السادس عشر، لتبلغ أوجها في القرن الثامن عشر الذي شهد انتشارها على نطاق واسع من خلال بنائها على العديد من المباني والقصور باستخدام الطوب والحجارة، بالإضافة إلى الأخشاب التي لم تدم إلى عصرنا الحالي للأسف.

وإلى جانب المعايير الجمالية والمعمارية، بنيت بيوت الطيور بدقة بالغة وفق بعض المعايير المهمة الأخرى، ومن أهمها بناء البيوت والقصور الحجرية على أعلى مستوى ممكن ضمن البناء أو الجدار بهدف حمايتها من المخاطر وهجمات الحيوانات المفترسة، فضلاً عن بنائها حسب اتجاه سطوع الشمس بعيدة عن هبوب الرياح الشمالية.

وفي زمن الإمبراطورية العثمانية، تحول الاهتمام بأعشاش الطيور الحجرية إلى فن متقن حالها كحال المباني والتحف المعمارية الأخرى، فمع مرور الزمن تحولت إلى قصور عثمانية مصغرة تأخذ شكل المبنى الذي بنيت ضمن جدرانه، سواء كان مسجداً أو قصراً أو حتى مدرسة، لتصبح بذلك إحدى معالم الثقافة المعمارية العثمانية التي تنافس المعماريون فيما بينهم وقتها لتصميم وبناء أجملها وأحسنها.

ويمكن العثور على بيوت الطيور التي تعد من أبرز المعالم المعمارية التي جرى بناؤها خلال الفترة العثمانية في جميع أنحاء البلاد، وبخاصة في إسطنبول. فبيوت الطيور لم تُحي وتُزيّن واجهات المباني العثمانية المهيبة وحسب، بل حلت بديلاً مكان المنحوتات والرسوم المصورة التي كانت رائجة لدى الإمبراطوريات الغربية وقتها.

اهتمام العثمانيين بالطيور

بيوت الطيور على أحد المباني العثمانية القديمة (Others)

افتتح الكاتب الإيطالي إدموندو دي أميسيس، مذكراته بعنوان "رحلة إسطنبول"، قسماً منفصلاً عن القيمة والتعاطف والاحترام التي يوليها سكان الدولة العثمانية للحيوانات والطيور بشكل خاص، حيث قال: "عدد لا حصر له من الطيور من جميع الأنواع، يظهر لها الأتراك التعاطف والاحترام الحار، تسمع زقزقتها و رفرفة أجنحتها حول المساجد، والبساتين، والأسوار القديمة، والحدائق، والقصور".

واستطرد الرحالة والمؤلف الإيطالي دي أميسيس قائلاً حول العلاقة ما بين أتراك الدولة العثمانية والطيور: "بالنسبة للأتراك، لكل من هذه الطيور أهمية خاصة ومعنى رقيق في فهمهم الحضاري، فالحمائم ترمز إلى العشاق، السنونو يرمز إلى الأمان، واللقالق إلى الحج كل عام إلى مكة (المكرمة)، لذلك يحمي الناس هذه الطيور ويطعمونها بامتنان ومحبة تقرباً إلى الله".

وانطلاقاً من حبهم واهتمامهم بالطيور، أسست الدولة العثمانية، مؤسسة طبية خاصة تعنى بالطيور وأمراضها، سميت باسم "غرباخانه لقلقان". وما زال احترام الأتراك للطيور قائماً حتى وقتنا الحالي، ويتمثل ذلك من خلال ما قامت به الإدارة العامة للغابات، التابعة لوزارة الزراعة والغابات التركية، من تعليق ما يقرب من 670 ألف عش صناعي للطيور خلال السنوات الماضية في مختلف الغابات والمتنزهات العامة بالإضافة إلى أشجار الأزقة والطرقات، ليس فقط لتقديم الحماية للطيور فقط، بل لحماية الغابات من الحشرات الضارة.

أشهر الأماكن التي تحوي بيوتاً للطيور

بيت الطيور على جدار مدرسة "السيد حسن باشا"، بيازيد، إسطنبول. (Others)

بنيت بيوت الطيور على الجدران الخارجية للمباني والصروح العثمانية المهمة، بما في ذلك المساجد والقصور والمدارس والمكتبات والمشارب وحتى الكنائس المسيحية والكنس اليهودية، وكان الهدف منها لعمل الخير تجاه الحيوانات الضعيفة وتوفير مكان آمن للطيور من أجل وضع البيض وتربية صغارها.

وحتى اليوم، مدن كثيرة في تركيا لديها بعض الأمثلة على هذا النوع من العمارة، أقدم هذه القصور هو بيت الطيور الذي بني بداية القرن السادس عشر وتحديداً في عام 1504 على أحد جدران مسجد "يالي باشا (Bali Paşa)" في مدينة إسطنبول.

من أمثلة بيوت الطيور في إسطنبول قبر السلطان مصطفى الثالث، ومسجد "السليمانية"، ومسجدي "والده سلطان" و" أيازما" في حي أوسكودار الواقع بالشق الآسيوي للمدينة، وقصر "توبكابي"، ومدرسة "سيد حسن باشا"، ومقسم تقسيم لتوزيع المياه الواقع بجانب ميدان تقسيم، ومسجد "إمينونو الجديد"، ومسجد "أيوب سلطان"، بالإضافة إلى بيت الطيور الوحيد في دير "أيوس"، حيث لا وجود لها في أي مبنى مسيحي آخر، وكنيس "أهيردا" اليهودي بحي بلاط.

TRT عربي