تابعنا
وفي الوقت الذي تتمتع فيه الهواتف الذكية التي بين أيدينا بقدرات حوسبية تفوق تلك الموجودة في المركبة الفضائية التي نقلت الناس إلى القمر في الستينيات والسبعينيات، لا يزال التساؤل الأبرز: لماذا توقفت الرحلات البشرية للقمر؟

يشكل إعلان إدارة الطيران والفضاء الأمريكية "ناسا" مؤخراً أسماء رواد مهمة "أرتيميس 2" المتوجهة للقمر، علامة فارقة في تاريخ مهام ناسا الفضائية، إذ تتضمن هذه المهمة أول امرأة، وأول أمريكي من أصل أفريقي، وأول شخص غير أمريكي، اختيروا ضمن فريق من أربعة رواد فضاء في مهمة إلى القمر، لتكون أيضاً أول رحلة مأهولة تدور في محيط القمر منذ أكثر من 50 عاماً.

وتمهّد مهمة "أرتميس 2" الطريق إلى مهمة “أرتميس 3" الواعدة والأطول والأكثر تعقيداً، والتي ستشمل هبوط اثنين من رواد الفضاء بالقرب من القطب الجنوبي للقمر بحلول عام 2025.

ومنذ توقف الرحلات المأهولة إلى القمر قبل أكثر من نصف قرن، ومع التطور التكنولوجي الكبير في علوم الفضاء والاتصالات والحوسبة والذكاء الصناعي، وفي الوقت الذي تتمتع فيه الهواتف الذكية التي بين أيدينا بقدرات حوسبية تفوق تلك الموجودة في المركبة الفضائية التي نقلت الناس إلى القمر في الستينيات والسبعينيات، لا يزال التساؤل الأبرز: لماذا توقفت الرحلات البشرية للقمر؟

تتطلب الإحاطة بالأسباب الحقيقية لتوقف المهام الفضائية المأهولة إلى القمر تسليط الضوء على "سباق الفضاء"، أحد أهم فصول الحرب الباردة بين القطبين العالميين السوفييتي والأمريكي. إذ لعبت الظروف السياسية وارتباطها بالتمويل دوراً مباشراً في هذا التوقف، أكثر من الجانب العلمي للقضية.

دوافع سياسية واقتصادية

في أكتوبر/تشرين أول 1957، حقق الاتحاد السوفييتي أول انتصاراته في سباق الفضاء بإطلاق أول قمر صناعي، سبوتنيك 1، ما سبب صدمة للإدارة الأمريكية، التي أطلقت بعد أشهر قليلة في فبراير/شباط من العام التالي القمر الصناعي إكسبلورر 1، وسارعت إلى إنشاء وكالة ناسا في ذات العام سعياً لاستكشاف الفضاء.

تلقت الولايات المتحدة صدمة أخرى حين أصبح رائد الفضاء الروسي يوري غاغارين أول إنسان يصعد إلى الفضاء الخارجي في 12 أبريل/نيسان عام 1961 على متن مركبة الفضاء السوفيتية فوستوك 1، لكن الرد الأمريكي لم يستغرق سوى ثلاثة أسابيع ليصبح رائد الفضاء "آلان شيبرد" أول أمريكي يذهب إلى الفضاء على متن مركبة ميركوري فريدم 7 في الخامس من مايو/أيار.

بعد ذلك بعام واحد فقط بدأ الحلم الأمريكي للوصول بالبشر إلى القمر في عهد الرئيس جون كيندي بخطاب شهير تعهد فيه بجعل الإنسان يمشي على القمر بحلول نهاية العقد، وأطلقت وكالة ناسا على إثر ذلك برنامج أبولو، الذي تضمن مجموعة من المهام التجريبية والمأهولة، وصلت ست منها إلى القمر.

حققت هذه المهام الفضائية فتوحات علمية كبرى للبشرية خلال فترة قصيرة، وتُوّجت هذه الإنجازات بنجاح مهمة أبولو 11 في العشرين من يوليو/تموز 1969 حين خطا قائد المهمة نيل أرمسترونغ وزميله باز ألدرين الخطوات الأولى للبشرية على سطح القمر.

تواصلت مهام أبولو ونجحت بإيصال 12 رائد فضاء إلى القمر، لكنها توقفت مع نزول قائد مركبة أبولو 17 يوجين سيرنان على سطح القمر للمرة الأخيرة، في الرابع عشر من ديسمبر 1972، وقبل الرحلة الأخيرة إلى القمر بعامين، ألغت ناسا رحلات أبولو 18 وأبولو 19 لتوفير المال والتركيز على مشروع جديد هو مكوك الفضاء الذي بدأت أول رحلاته عام 1981 وانتهت عام 2011 ومشروع محطة الفضاء الدولية ISS التي أُنجزت بتعاون دولي.

وعزز فشل السوفييت في إرسال أي رواد فضاء إلى القمر عدم اهتمام الإدارة الأمريكية بمزيد من المهمات، كما أدى انهيار الاتحاد السوفيتي ونهاية الحرب الباردة إلى تقويض أحد المبررات الأساسية لمشروع الفضاء.

وكان لحرب فيتنام وانتشار الفقر والمشكلات والأزمات البيئية دور كبير في تقليل شعبية برنامج الفضاء، إذ بدا الأمر إهداراً لمليارات الدولارات للناخبين المنشغلين بمشكلات أخرى.

هدفت الإدارة الأمريكية من خلال مشروع المكوك الفضائي والمحطة الفضائية إلى ترسيخ وجود بشري دائم في الفضاء، ولكن على ارتفاع بضع مئات من الكيلومترات، وليس ما يقرب من 400 ألف كيلومتر على سطح القمر، لكن أحلام الأمريكيين بالعودة للقمر تجددت في الذكرى 20 لوصول الإنسان إلى القمر حين تحدث الرئيس الأمريكي جورج بوش الاب عام 1989عن إعادة البشر إلى القمر ثم التوجه إلى المريخ، إلا أن مبادرته لم تحظ بالدعم السياسي من الكونغرس.

وبعد كارثة انفجار مكوك كولومبيا 2003 في أثناء عودته إلى الأرض، أعلن الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش رؤيته لاستكشاف الفضاء في أوائل عام 2004 وذلك بالتخلص التدريجي من مشروع المكوك بمجرد اكتمال إنشاء محطة الفضاء الدولية.

أنشأت وكالة ناسا برنامج كونستيليشن الذي كان يهدف إلى إعادة الأمريكيين إلى القمر بحلول الذكرى الخميسين لرحلة أبولو 11 عام 2019، لكن البرنامج عانى من نقص التمويل وتجاوز التكاليف المتوقعة، قبل أن يلغيه الرئيس باراك أوباما بعد وقت قصير من توليه منصبه.

لم يؤد إلغاء برنامج كونستليشن إلى توقف برنامج المهام إلى القمر، إذ موّل أعضاء من مجلس الشيوخ، لا سيما من الولايات التي لها مراكز لوكالة ناسا أو ارتباط بصناعات مرتبطة بالفضاء، نظام إطلاق عملاق ومركبة فضائية تعتمد على تصميمات كونستليشن وهكذا ظهر في عام 2010 نظام الإطلاق الفضائي SLS ومركبة أوريون الفضائية.

وجه الكونغرس وكالة ناسا لبناء محطة صغيرة في مدار القمر وتطوير القدرة على الهبوط وإنشاء قاعدة قمرية، وحصل البرنامج الجديد تحت إدارة الرئيس دونالد ترامب على اسم جديد هو أرتميس Artemis (الذي يشير إلى إلهة القمر أخت الإله أبولو في الأساطير اليونانية)، وهدف جديد هو تنفيذ عملية هبوط على القمر بحلول 2025. عوائق علمية

يشير عديد من رواد الفضاء وغيرهم من الخبراء إلى وجود عدد من العوائق الكبرى التي تحول دون جعل مهمات القمر الجديدة المأهولة مستمرة.

تتناثر على سطح القمر الحفر والصخور التي تهدد الهبوط الآمن، وقد أنفقت الحكومة الأمريكية في الفترة السابقة لأول هبوط عام 1969 ما يعادل مليارات الدولارات اليوم لتطوير وإطلاق الأقمار الصناعية إلى القمر بهدف رسم خريطة لسطحه والمساعدة في استكشاف مواقع هبوط محتملة آمنة، مع ذلك عانى أرمسترونج من انخفاض الوقود في مركبته بسبب حاجته إلى العثور على مكان آمن للهبوط، الأمر الذي كاد أن يهدد نجاح المهمة والعودة بأمان.

لكن مصدر القلق الأكبر اليوم هو ما خلفته آثار النيازك عبر الأزمنة من غبار قمري.

يقول العلماء أن القمر مغطى بطبقة سطحية دقيقة من الغبار القمري بعمق عدة بوصات في بعض المناطق وهي مشحونة إلكتروستاتيكيا بسبب تفاعلها مع الرياح الشمسية وتشكل مادة شديدة التشبث تُلوِّث بدلات الفضاء والمركبات والأنظمة بسرعة كبيرة، وعانت مهمات أبولو السابقة كثيراً من المشكلات مع الغبار.

كما يعتبر القمر بيئة قاسية جداً للعيش بسبب عدم وجود غلاف جوي له، إذ يصل سطحه إلى درجات حرارة عالية جداً في الأيام التي يواجه فيها ضوء الشمس بشكل مباشر، وتنخفض درجات الحرارة بشكل كبير في فترات الظلام.

سباق فضائي جديد

تملك الصين برنامجاً فضائياً واعداً يتضمن مسباراً آلياً للقمر والمريخ، ومحطة فضاء دائمة، وطموحات لبناء قاعدة على القمر، وقد تصبح المنافسة مع قوة أجنبية أخرى عاملاً رئيسياً في المستقبل يساعد الولايات المتحدة في الحفاظ على مهمة أرتميس، وربما يقودنا سباق الفضاء مجدداً إلى إنجازات علمية غير مسبوقة وقفزة علمية عملاقة جديدة للبشرية.

TRT عربي
الأكثر تداولاً