الرئيس الجزائري الراحل محمد بوضياف. (AFP Archive)
تابعنا

في مثل هذا اليوم، وقبل 30 سنة، كان الرئيس الجزائري الأسبق محمد بوضياف يلقي خطاباً على الشعب الجزائري من قاعة المركب الثقافي بمدينة عنابة (شرقي البلاد)، ونُقل ذلك مباشرة على الهواء، حتى سُمع دوي إطلاق الرصاص في خلفيَّة الصورة، تهاوى كل من بالقاعة مختبئاً تحت مقعده، وبعدها قُطع البث. بعد ساعات قليلة كان الخبر أُعلن بأن الرئيس محمد بوضياف فارق الحياة إثر محاولة اغتيال ناجحة.

فيما لا يزال الواقفون خلف تلك الجريمة غير معروفين، أو تتعدد الروايات في تحديد هويتهم، أمام استمرار مطالبات نجل الفقيد بإحقاق العدالة في دم والده. هذا ويعد بوضياف، قبل أن يتقلد الرئاسة، أحد رجالات الثورة الجزائرية الذين بذلوا الغالي والنفيس من أجل حرية بلادهم.

من هو محمد بوضياف؟

وُلد محمد بوضياف سنة 1919، في ولاية المسيلة الجزائرية التي كانت واقعة تحت الاحتلال الفرنسي، مثل باقي تراب البلاد. وخلال طفولته تابع تعليمه الابتدائي في مدينة بوسعادة، وفي شبابه عمل محصلاً للضرائب في مدينة جيجل، قبل يحمل السلاح ضد النازية وحلفائها خلال الحرب العالمية الثانية.

بعدها انخرط في حزب الشعب الجزائري وتنظيمه السري، وكُلف إنشاء خلايا سرية للحزب المقاوم، من بينها تلك التي أسسها في مدينة قسنطينة. ما جعله عرضة لآلة القمع الاستعمارية، التي حاكمته مرتين سنة 1950 وحكمت عليه غيابياً بالسجن ثماني سنوات. كما تعرَّض للسجن في فرنسا مع عدد من رفاقه.

إثر عودته إلى الجزائر، انخرط في صفوف الثورة الشعبية، وكان عضواً من اللجنة الثورية التي فجرتها سنة 1954. كما كان ضمن القادة الذين اختطفتهم المخابرات الفرنسية على متن الطائرة التي كانت متوجهة من الرباط إلى تونس، بعد أن غيرت مسارها في السماء.

وتقلَّد بوضياف منصب نائب رئيس الحكومة الجزائرية المؤقتة سنة 1961. وبعد استقلال البلاد، كان موقف بوضياف مخالفاً لأغلب قادة الثورة، حيث كان يقول بأن دور جبهة التحرير انتهى مع جلاء المستعمر، وكان ينادي بفتح البلاد لتعددية حزبية وتأسيس جمهورية ديموقراطية.

وفي 1962، أسس بوضياف حزب الثورة الاشتراكية، وعلى إثر ذاك حاكمته القيادة الجديدة للبلاد بتهم "المساس بأمن الدولة" وحكمت عليه بالإعدام، غير أن الحكم لم ينفذ لتوسط عدد من الشخصيات ولاعتبارات سجله الوطني.

اغتيال بوضياف

سنة 1992، أصبح بوضياف رابع رؤساء البلاد الذي قادها في ظرف كان الأكثر دمويَّة في تاريخها، إثر أزمة تعطيل المسار الانتخابي التي أغرقتها في دوامة حرب أهلية دمويَّة، امتدت طوال عشريَّة التسعينيات السوداء.

رجوعاً إلى تفاصيل يوم 29 يونيو 1992، كان الرئيس المذكور يلقي خطاباً لعموم الشعب بقاعة المركب الثقافي بمدينة عنابة (شرقي البلاد)، خطاب كان يبث ساعتها مباشرة على شاشة القناة الوطنيَّة الجزائريَّة. وبعيدَ دقائق قليلة من بداية الرئيس حديثه، وكانت كلماته الأولى كما توثق ذلك مقاطع مصوَّرة، حول موضوع الإسلام والديمقراطيَّة. دوى انفجار قنبلة صوتية، فتدافع الحضور هلعاً للاختباء تحت مقاعدهم، تلاه رشق رصاص متتابع، قبل أن يقطع البث تحت هول الصدمة.

أصيب الرئيس في مقتل، وقضى نحبه متأثراً بجراحه، أما القاتل فنجح في الهروب خارج القاعة، قبل أن يسلِّم نفسه عند أقرب مركز شرطة. للكشف عن حقيقة ما حدث، ورضوخاً لضغط شعبي وسياسي، شكَّلت السلطة الجزائرية لجنة تقصي حقائق، ضمت عدداً من الفاعلين الحقوقيين إضافة إلى مناضلين في الحركة الوطنية، من رفقاء الفقيد بوضياف في النضال. وهي اللجنة التي خلصت إلى أن قتل الرئيس كان "فعلاً معزولاً"، منفِّذه هو ضابط في القوات الخاصة الجزائرية واسمه مبارك بومعرافي، لقناعاته "المتشددة" وانتقاماً من الرئيس لمواقفه إزاء حزب "الجبهة الإسلامية للإنقاذ". مستدلَّة على ذلك برسالة مكتوبة بخط اليد نسبت إلى بومعرافي قيل إنه وجهها إلى صديق له، لدعم "اعترافاته".

لم تلقَ خلاصات اللجنة المذكورة إجماعاً بشأن صيغة تقديمها للجريمة، كما لطابعها الفردي. بل إن الإجماع لم يتحقق حتى داخل أعضائها كالناشط الحقوقي يوسف فتح الله الذي رفض التوقيع على هذه الخلاصات ليُغتال لاحقاً في وضع غامض. فيما يحمل تقريرها ما رأى فيه الكثيرون ثغرات تصب في طرح الاغتيال المدبَّر. خاصة أن إدماج الملازم مبارك بومعرافي في مجموعة التدخل، التي انضافت إلى الحرس الرئاسي، تم في آخر لحظة، وكان يحمل أمراً فردياً بمهمة ولم يكن اسمه في قائمة فريق التدخل في الأول وتم وضعه مباشرة خلف الستار.

استمرار المطالبات بالعدالة

إلى اليوم يرفض نجل الرئيس محمد بوضياف، ناصر بوضياف، فرضيَّة أن مقتل والده كان "عملاً فردياً"، موجهاً أصابع الاتهام بتدبير الاغتيال إلى وزير الدفاع وقتها خالد نزار، وإلى مدير المخابرات يومها محمد مدين الملقّب بـ"توفيق". وللمفارقة، أن هؤلاء الذين يتَّهمهم نجل بوضياف هم من ثار ضدهم الشعب الجزائري في حراكه الأخير، كما أنه جرى اعتقالهم لمتابعة التحقيق معهم في قضايا "تآمر على الجيش" و"تآمر على الدولة".

مطلع السنة الماضية، برَّأت المحكمة الجزائرية كلاً من نزار ومدين من التهم المنسوبة إليهما، الأمر الذي أثار حفيظة ناصر بوضياف، ودفعه إلى تكرار مطلبه بفتح تحقيق جديد في قضيَّة اغتيال والده. إذ دوَّن وقتها "لم تكن مؤامرة على الجيش، لكن كانت مؤامرة ضدَّ المرحوم بوضياف".

فيما طالب بوضياف الابن السلطات الجديدة في الجزائر مراراً بإعادة فتح التحقيق في ملفها. فـ"هل اغتيل محمد بوضياف لأنه أول رئيس دولة جزائري يندد من مكانته العالية بالمافيا السياسية المالية؟ هل اغتيل بسبب عدم كفاءة الأجهزة الأمنية المسؤولة عن حمايته؟ أم أنها هي الأخرى جزء من المؤامرة؟" يتساءل نجل الرئيس السابق، مرحباً "بالقضاء الجزائري إن أجابني عن أسئلتي".

TRT عربي