تابعنا
في الذكرى الثلاثيين لإطلاق الشبكة العنكبوتية World Wide Web، تتعاظم الكثير من الهواجس حول العالم عن إمكانية حماية الشبكة من الاستغلال الخبيث لها من قبل الكثير من الدول والجماعات الإرهابية والهاكرز بما يحفظ لنا خصوصيتنا وأمننا الشخصي.

تطلبت الترتيبات الإستراتيجية ضمن سياقات توازن القوى بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي إبان الحرب الباردة البحث عن نظام للربط بين مراكز السيطرة والتحكم في الولايات المتحدة؛ من أجل الحفاظ على ميزة التفوق العسكري بعد أن استطاع الاتحاد السوفيتي تطوير تكنولوجيا الصواريخ البالستية العابرة للقارات، والقادرة على حمل رؤوس نووية.

كانت الفكرة تقوم على أن الولايات المتحدة وفي حال تعرّضها لهجوم نووي سوفيتي، لا بدّ لها أن تحافظ على بقاء خطوط الاتصال فعالة بين مراكز السيطرة والتحكم من أجل القيام "بالهجمة الثانية"، التي كانت تشكّل في ذلك الوقت العمود الفقرة لفكرة الردع النووي، وبناءً على ذلك تم اختراع أولى شبكات الإنترنت، والتي سمّيت حينها بشبكة APRA NET.

سرعان ما تحوّلت الشبكة من الأغراض العسكرية البحتة إلى الأغراض الأكاديمية مع تطوير عدد من جامعات الولايات المتحدة شبكة للربط بين مختبراتها، خصوصاً تلك المتواجدة في ولاية كاليفورنيا، وهي التي تطورت لاحقاً؛ لتربط بين الجامعات على ضفاف الأطلسي.

وعندما أثبتت الشبكات مفعوليتها في التواصل عبر تخطي حاجز المكان والوقت والتكلفة، تمّ تبنيها على نطاق واسع من قبل الشركات التجارية؛ حيث كانت البداية مع شركات الطيران الأمريكية، والتي وجدت فيها أداة فعالة في جذب المسافرين والتعاطي معهم بطريقة أكثر ديناميكية ومرونة.

انتشرت شبكة الإنترنت حول العالم بسرعة فائقة، وأصبحت البينة الرقمية للاقتصاد الدولي، وقد تعززت مكانتها مع إطلاق نسخة الـWorld Wide Web، على يد البريطاني تيم برنانس لي في آذار من العام 1989. ومع إطلاق الجليل الثاني من الشبكة وهي المسماه Web 2.0، لم تعدْ الشبكة العصب الرقمي للتعاملات التجارية حول العالم فحسب، بل أصبحت المحور الأساسي لتفاعلنا الاجتماعي مع توفر تقنيات السوشيال ميديا مثل فيسبوك وتويتر ويوتيوب، التي أتاحت للمستخدمين إمكانية المساهمة في إنتاج المحتوى؛ ولذلك أطلق عليها Writable Web .

اتسمت الشبكة بخصائص بنيوية تشكل جوهر وظيفتها التشبيكية أهمها: الانفتاحية، والوصولية، واللامركزية، وهي الخصائص التي انسجمت منذ البداية مع أفكار الليبرالية الجديدة الغربية، الأمر الذي أعطى امتيازاً للولايات المتحدة في قيادة الشبكة والتحكم فيها منذ إنشائها.

اتسمت الشبكة بخصائص بنيوية تشكل جوهر وظيفتها التشبيكية أهمها: الانفتاحية، والوصولية، واللامركزية، وهي الخصائص التي انسجمت منذ البداية مع أفكار الليبرالية الجديدة الغربية، الأمر الذي أعطى امتيازاً للولايات المتحدة في التحكم بالشبكة.

نبيل عودة

لا شك أن امتياز الولايات المتحدة في الشبكة وحتى هيمنتها عليها لا يأتي فقط من مجرد انسجام وظيفة الشبكة مع أيديولوجية الولايات المتحدة الليبرالية؛ بل من خلال العامل التاريخي أيضاً، على أساس أن مسقط رأس الشبكة كانت الولايات المتحدة، بالإضافة إلى العامل التقني الذي يتعلق بالقواعد والبروتوكولات الناظمة لعمل الشبكة، والتي وضعها علماء التكنولوجيا الأمريكيون الذين كانوا يعملون ضمن طاقم وكالة مشاريع البحوث المتقدمة التابعة لوزارة الدفاع الأمريكية في بداية ستينيات القرن العشرين من أمثال جون بوستل Jon Postel.

بشكل مختصر يمكن الحديث عن ثلاثة مبادئ من الناحية التقنية تأسست عليها شبكة الإنترنت، ومنحت الولايات المتحدة امتياز السيطرة على شبكة الانترنت إلى حد كبير؛ وهذه المبادئ هي:

أولاً، نظام أسماء النطاقات Domain Name System.

ثانياً، بروتوكول الإنترنت nternet Protocol وبروتوكول التحكّم في نقل البيانات Transmission Control Protocol اللذان يعرفان بالاختصار TCP/IP، ويعتبران العصب المحرك للإنترنت، ويمنحان الحواسيب القدرة على التواصل مع شبكة الإنترنت.

وأخيراً: أنظمة الخوادم الرئيسية Root Server ويوجد منها ثلاثة عشر خادماً؛ تتحكم بها بعض المؤسسات الخاصة والحكومية، مثل الإدارة الوطنية للملاحة الجوية والفضاء-ناسا، المؤسسة الهولندية غير الربحية، بعض الجامعات، والجيش الأميركي وبعض الشركات الخاصة. وتتواجد عشرة خوادم عملاقة من أصل ثلاثة عشر في الولايات المتحدة، بينما يتواجد واحد في كل من أمستردام واستكهولم وطوكيو.

وقد وطدت الولايات المتحدة سيطرتها على شبكة الإنترنت من خلال إسناد الإشراف على الشبكة وإدارتها ومنح أسماء النطاقات الخاصة بالدول إلى هيئة أمريكية خاصة دعيت بـ بهيئة الإنترنت للأسماء والأرقام المتخصصة-هيئة أيكان (Internet Cooperation for Assigned Names and Number) والتي تعرف بالاختصار ICANN.

لم يرُق تحكم الولايات المتحدة وسيطرتها على شبكة الإنترنت التي باتت المحرك الرئيسي لتدفق البيانات حول العالم لبعض القوى الكبرى المنافسة للولايات المتحدة كالصين وروسيا.

لقد رأت هذه الدول في الإنترنت وما تتمتع به من خصائص اللامركزية والوصولية والانفتاحية خطراً على نظام حكمها الشمولي القائم بالأساس على الإبقاء على قبضة حديدية على المجتمع.

وطالبت الدولتان على مدار عقود بضرورة إسناد إدارة الإنترنت والإشراف عليها إلى هيئة دولية، تحت مظلة الأمم المتحدة وهو ما لم تفلحا به حتى الآن ولذلك بدئتا تتخذان سياسات أكثر صرامة تهدف إلى تشديد الرقابة على وصول الإنترنت والمحتوى الذي ينشر فيها، فقامت الصين بإنشاء ما يعرف بـGreat Fire Wall، بينما أنشأت روسيا ما يعرف بـ Digital Iron Curtain وذلك لفرض سيادتهما على الإنترنت، وهي التوجّهات التي باتت تعرف بأقلمة الإنترنت كنزعة مضادة لعولمة الإنترنت التي سادت تحت الهيمنة الأمريكية.

في الصين على سبيل المثال حظرت السلطات استخدام Google و YouTube و Facebook و Twitte . بدلاً من ذلك ، يستخدم الأشخاص هناك التطبيقات التي أنشأتها شركات التكنولوجيا الصينية ، مثل Tencentو Alibaba و Baid . في إيران، طورت الحكومة برنامج يدعى Soroush وهو برنامج للتراسل عبر الأجهزة الخلوية الذكية ليكون بديلاً عن البرامج المتعارف عليها مثل WhatsApp أو Telegram.

قامت الصين بإنشاء ما يعرف بـ Great Fire Wall، بينما أنشأت روسيا ما يعرف بـ Digital Iron Curtain وذلك لفرض سيادتهما على الإنترنت، وهي التوجّهات التي باتت تعرف بأقلمة الإنترنت كنزعة مضادة لعولمة الإنترنت التي سادت تحت الهيمنة الأمريكية.

نبيل عودة

لم يتخذ التصعيد بين القوى الدولية حول الإنترنت جانب الحمائية الرقمية أو ما يمكن أن يسميه البعض بالردع الرقمي فقط، بل تخطى ذلك إلى الهجوم الرقمي من خلال الحروب السايبرانية Cyberwars، أو الهجمات السايبرانية Cyber attacks، أو حرب العصابات السايبرانية Cyber guerrilla، هذا فضلا التجسس، والتخريب، وحملات التضليل والبروباغندا.

وإن بدت الاستخدامات الخبيثة للإنترنت تظهر منذ بداياتها الأولى، فإنها أخذت بالتصعيد بشكل ملحوظ منذ 2007 عندما شنت روسيا حرباً إلكترونية على جارتها أستونيا، أدّت إلى شلل كامل في بنيتها الرقمية.

تكرر ذلك مع جورجيا عام 2008. غير أن التطور اللافت كان عام 2010 عندما تم ضرب البرنامج النووي الإيراني بدودة إلكترونية خبيثة سميت Stuxnet أدت إلى أعطاب كبيرة في أجهزة الطرد المركزي للمفاعلات الإيرانية. وهناك اعتقاد شائع مفاده أن دودة Stuxnet هي نتاج تعاون بين الولايات المتحدة وإسرائيل، ويصف الكثير من المختصين هذه الدودة بأنها سلاح دمار شامل رقمي؛ حيث إنها قادرة على ضرب أهدافها حتى وإن كانت هذه الأهداف غير متصلة بشكلة الإنترنت.

وتتكبد الولايات المتحدة سنوياً خسائر بعشرات المليارات جراء الهجمات الإلكترونية التي تشنها الصين والتي تسعى دائما إلى سرقة أسرار التكنولوجيا الحديثة والملكيات الفردية من الشركات والمؤسسات الأمريكية؛ ولذلك كانت الصين التهديد رقم واحد على أمن الولايات المتحدة الإلكتروني وفق ما جاء في آخر تقرير للأمن القومي الأمريكي.

تعاني الولايات المتحدة من حالة من غياب توازن القوة رقمي بينها وبين خصومها الدوليين خصوصاً الصين وروسيا وإيران وكرويا الشمالية، ففي الوقت التي تتمتع فيه شبكة الانترنت في الغرب بالانفتاحية، واللامركزية، فإن الشبكة في هذه الدول هي مغلقة إلى حد كبير، وهو ما يجعل الولايات المتحدة عرضة بشكل أكبر للهجمات وللاستغلال الرقمي، تبدّا ذلك بشكل واضح من خلال التدخل الروسي في الانتخابات الأمريكية عام 2016، وحملات التضليل والأنباء المزيفة التي رافقتها.

لقد تحوّلت شبكة الإنترنت مع الوقت إلى ساحة حرب، وباتت جميع البيانات؛ سواء الشخصية أو المتعلقة بالأمن القومي عرضة للاختلاق، والسرقة، والاستغلال، وهو ما يفرض تهديداً حقيقياً على روح شبكة الإنترنت التي بدأت من خلال أحلام براغماتية تتعلق بالحرية، والتواصل، والانفتاح على عوالم جديدة، وهو ما دعا أحد أبرز مطوري الشبطة "تيم لي" لإطلاق دعوة عالمية في عيدها الثلاثين لحماية الانترنت وإبعادها عن "القرصنة التي ترعاها الدولة، والسلوك الإجرامي واللغة المسيئة".

مخترع الإنترنت البريطاني تيم برنانس لي (Getty Images)
TRT عربي