صورة من نتائج المحاكاة لمشروع فلامنغو/ صورة FLAMINGO project (Others)
تابعنا

في سعي العلماء لفهم الكون، ظهر مشروع "فلامنغو"، كأكبر مشروع محاكاة للكون على الإطلاق.

وسعى الباحثون في جامعة ليدن الهولندية من خلاله إلى محاكاة تاريخ الكون، والانفجار العظيم، إلى عصرنا، عبر 28 عمليّة محاكاة حاسوبيّة.

وجرى تشغيل هذه المحاكاة، بوساطة كمبيوتر عملاق موجود في مركز البحوث (DiRAC) في المملكة المتّحدة، طوال عامين، بما يعادل 50 مليون ساعة حسابية.

ويُقصد بالمحاكاة، وضع نموذج الكون بكلّ مكوّناته التي اكتشفت في تاريخ العلم البشريّ، في نموذج حاسوبيّ برمجيّ على كمبيوترٍ عملاقٍ يتمتّع بقدرات حسابيّة ومعالجة بيانات هائلة.

واستطاعت الحواسيب بفضل تقنية "التعلم العميق" (deep learning) من التنبؤ بمسار تشكل الكون خلال مليارات السنين.

بحث عن الأصول الكونية

وفق نظريّة "الانفجار العظيم" وهي الأكثر اعتماداً في الأوساط العلميّة، كان كلّ الكون موجوداً قبل 14 مليار سنة في وضع يطلق عليه "نقطة التفرّد" (Gravitational Singularity).

وتوصف نقطة التفرد بأنها ذات حرارة وكثافة غاية في الضخامة، لدرجة أنّ جميع قوى الطبيعة الأساسيّة؛ -القوى النوويّة القويّة، والقوى النوويّة الضعيفة، وقوّة الجاذبيّة، والقوّة الكهرومغناطيسيّة- كانت مندمجة داخل هذه النقطة المتفرّدة.

وفي حقبة يقدِّر العلماء أنها تعود إلى 13.8 مليار سنة، حصل "الانفجار العظيم"، ومن هذه اللّحظة تولّد كلّ ما في الكون الواسع.

فلامنغو (FLAMINGO)، هو مشروع تابع لاتّحاد (Virgo) لمحاكاة الكمبيوتر العملاق الكونيّ، وهو اختصار "عمليّات محاكاة البنية واسعة النطاق ذات الطاقة المائيّة الكاملة، مع رسم خرائط السماء بالكامل لتفسير ملاحظات الجيل التالي".

إنّ دراسة الكون من خلال مراقبة كيفيّة نمو بنياته الكبيرة أصبحت أكثر صعوبة؛ لأنّ توقعاتنا ليست دقيقة بما فيه الكفاية، ولو استعملنا تكنولوجيا حديثة مثل مسبار "جيمس ويب".

وتعتمد معظم النماذج المستخدمة حالياً على "المادّة المظلمة" فقط، رغم أنّ بعضها يحاول تفسير تأثيرات "المادّة العاديّة" (الباريون) التي تشكّل المجرّات.

يمكن لعمليّات المحاكاة الحاسوبيّة العملاقة (فلامنغو)، بما في ذلك لحركة المادّة العاديّة، أن تحلّ هذه المشكلة.

ويقول روي كوجيل، عالم الفلك في جامعة "لايدن"، إنّه من خلال الاستفادة من التعلّم الآليّ، قارن الباحثون التنبّؤات من عمليّات المحاكاة المتنوّعة، التي أُجريت على أحجام صغيرة نسبياً مع كتل المجرّات المرصودة وتوزيع الغاز في مجموعات المجرّات.

وقد سمح لهم هذا النهج بضبط تأثير الرياح المجرّيّة في عمليّات المحاكاة الخاصّة بهم.

أهمية "المادة العادية"

يظلّ السؤال الأساسيّ هو كيف وصل الكون إلى النقطة الحالية؟ وكيف كان شكله قبل مليارات السنين؟

يعتمد العلماء عادةً التكنولوجيات الحديثة التي تمكّننا من اكتشاف الكون الفسيح حولنا ودراسة مكوّناته وتاريخه، بدءاً من المسبارات الفضائيّة التي تصوّر أعماق الكون، إلى محطّات الفضاء الدوليّة.

وتعتمد في الأساس على دراسة المادة المظلمة في الكون باعتبارها الأكثر حضوراً، لكن مشروع فلامنغو اعتمد المادة العادية أيضاً في دراسة هذا التطور الكوني.

وصُمّمت محاكاة "فلامنغو" لحساب تطوّر كلّ مكوِّن معروف في الكون؛ من المادّة العاديّة (الباريون)، التي تتشكّل منها كلّ الأجرام الكونية في هذا الكون، بما في ذلك النّجوم والكواكب ونحوها، إلى المادّة المُظلمة الغامضة التي تخلق تأثيرات جاذبيّة غريبة، وقوّة "الطّاقة المُظلمة" التي تدفع الكون للتوسّع، بحيث لا يترك "فلامنغو" أيّ جزء كونيّ من دون وضعه في نموذج المحاكاة وأخذه بعين الاعتبار.

إنّ الحجم الهائلَ لأكبر محاكاة لـ"فلامنغو" مذهل، إذ يضمّ 300 مليار جسيّم، يعادل كلّ منها كتلةَ مجرّة صغيرة.

وتتكشّف هذه المحاكاة داخل حجم مكعّبٍ من الفضاء، يعادل 10 مليارات سنة ضوئيّة، وهو مسعى طموح لمحاكاة تاريخ الكون وبنيته.

وطور علماء الفلك رمزاً جديداً يسمى (SWIFT)، وهو عبارة عن برنامج طوّر بشكل خاصّ لإنجاز هذه المحاكاة الحاسوبيّة الضخمة.

ويقوم هذا الكود البرمجيّ المتطوّر بتوزيع عبء العمل الحسابيّ الهائل على شبكة مكوّنة من 30 ألف وحدة معالجة مركزيّة، ما يسمح بإجراء الحسابات المعقّدة المطلوبة لمثل هذا المشروع الضخم.

أوراق المشروع العلميّة

تجلّت ثمار هذا العمل العلمي في مجال الفلك في ثلاث ورقاتٍ بحثية، تصف الأولى الأساليب المستخدمة من فريق الباحثين، والثانية تكشف تعقيدات عمليّات المحاكاة، والثالثة تتعمّق في النتائج، مع التركيز بشكل خاصّ على البنية واسعة النطاق للكون في المادّة المظلمة الباردة (CDM).

وتتناول الورقة الثالثة، على وجه الخصوص، اللّغز الكونيّ المعروف باسم "توتّر سيجما"، أو "إس سيجما".

وينبع هذا التوتر من قياسات إشعاع الموجات الدقيقة (الميكروويف) للكون، وهو إشعاع خافت منتشر في الكون، ويعود إلى الحقبة التي تلت الانفجار الكبير مباشرة.

تحدّيات المشروع

يشكّل توتّر "إس سيجما" تحدّياً هائلاً لنموذج المادّة المظلمة الباردة السائد، الذي يتنبّأ بتكتّل أكثر وضوحاً.

وكان فريق "فلامنغو" يطمح إلى أن تسلّط نتائج عمليّات المحاكاة التي أجراها الضوء على هذا اللّغز الكونيّ.

وسعت الورقة الثالثة على وجه الخصوص إلى معالجة هذا التحدّي، واعتمدت على قياسٍ للكون يُسمى الخلفية الكونيّة الميكرويّة -إشعاع الميكروويف الخافت- الذي يملأ الكون منذ حقبة الانفجار العظيم.

وفي حين أنّ بعض مشكلات البحث ما تزال من دون حلّ، فإنّ الأفكار المكتسبة من إجراء عمليّات المحاكاة لا تقدّر بثمن.

ويؤكّد الباحثون على الدور الذي لا غنى عنه لكلّ من المادّة العاديّة والنيوترونات في تحقيق تنبّؤات دقيقة.

وهذا تطور جديد في دراسة الكون بدلاً من التقنية المعتادة المعتمدة على دراسة المادة المظلمة.

يؤكّد جوب شاي، قائد الأبحاث وعالم الفلك في جامعة "لايدن"، أهميّة المادّة العاديّة (الباريون)، على أنه "رغم هيمنة المادّة المظلمة على الجاذبيّة، فإنّه لم يعدّ من الممكن إهمال مساهمة المادّة العاديّة".

ويعدّ هذا المعطى محورياً، نظراً لأنّ مساهمة المادّة العاديّة قد تصحّح الاختلافات القائمة بين النماذج النظريّة وبيانات الرصد.

وأثبتت محاكاة المادّة العاديّة (الباريون) أنّها مهمّة غاية في التعقيد، ليس لأنّها لا تتفاعل مع الجاذبيّة فحسب، بل أيضاً لا تتفاعل مع الضغط والإشعاع والرياح المجرّيّة.

ويتطلّب هذا التعقيد زيادة كبيرة في قوّة الحوسبة، ما يؤدّي إلى إطالة فترة انتظار الحصول على بيانات حسابية تقدم إجابات عن مشكلة "إس سيجما" من طرف مشروع "فلامنغو".

ورغم الخطوات الهائلة التي قطعتها "فلامنغو"، إلّا أنّ البيانات التي جرى إنشاؤها، وتشمل عدّة بيتابايت (petabytes)، لا تزال في طور البحث والتطوير، ومعلوماتها غير متاحة للجمهور.

ولا يتحدّى مشروع المحاكاة الضخم هذا فهمنا لأصول الكون فحسب، بل يؤكّد أيضاً الترابط بين مكوّناته المتنوّعة وأهمية عناصره المختلفة في دراسة تاريخه وبنيته.

TRT عربي