تابعنا
مقبرة "برج الراس" في محافظة المهدية الساحلية ليست كباقي المقابر التونسية، فلسكان هذه المدينة فلسفتهم الخاصة وموروثهم الثقافي الفريد من نوعه، فكما أن للموتى حرمتهم فللأحياء أيضاً نصيب من الحياة والفرحة داخلها.

لا تعد مقبرة "برج الراس" مقبرة عادية كما يقول سكان مدينة المهدية في الوسط الشرقي لتونس، فطبيعتها الجغرافية وموقعها الخلاب المطل على البحر من ثلاث جهات، جعلا منها فضاء ترفيهياً واجتماعياً وتاريخياً يكتسي خصوصية متفردة، تمازج بين حتمية الموت والتشبث بالحياة.

بين الأضرحة الصامتة والقبور الممتدة على عشرات الهكتارات، تتعالى ضربات الدفوف وأهازيج الفرح من حناجر إحدى الفرق النسائية الشهيرة في عاصمة الفاطميين وعروس الساحل المهدية، حيث تعزف النسوة سمفونية الحياة مستهلة وصلاتها الغنائية بالصلاة على النبي محمد، عليه الصلاة والسلام، ومن ثم على أولياء الله الصالحين وبينهم الولي الصالح سيدي جابر "سلطان المدينة" وحارسها الأمين كما يقول الأهالي.

دأبت المغنية الشعبية سيدة الجمالي، أو "الماشطة" كما يحلو لسكان هذه المدينة تسميتها، على إقامة حفلاتها الغنائية برفقة مجموعتها النسائية في هذه المقبرة وتحديداً في ضريح الولي الصالح "سيدي جابر"، حيث تقام الأفراح وحفلات الختان و"الوعدة" و"الزردة" (طقوس شعبية للتقرب من الأولياء الصالحين ونبيل كراماتهم بهدف تحقيق الأمنيات) بشكل أسبوعي، بطلب من أهالي المدينة المتمسكين بعاداتهم وموروثهم الثقافي والاجتماعي، رغم الجدل الدائر حول المكان والطقوس الاجتماعية المصاحبة له.

حقيقة الزفاف داخل المقبرة

وفي حديثها مع TRT عربي تستغرب سيدة جمالي الضجةَ التي أحدثها حفل غنائي أقامته مؤخراً في الضريح، خلف ردود فعل متباينة وغاضبة بسبب القبور المشيدة حديثاً في هذا الفضاء، إذ شددت على أن "ذلك من عادات سكان هذه المدينة المتمسكين بموروثهم الحضاري، والذي لا يتعارض مع قداسة المكان واحترام هيبة الموت والموتى" وفق قولها.

وكانت وسائل إعلام قد نقلت مقاطع فيديو لهذا الحفل الموسيقي داخل الضريح، وتحدثت عن إقامة إحدى السيدات حفلاً بمناسبة أربعينية زوجها في هذه المقبرة، وهو ما نفته بشدة صاحبة الحفل موضحة أن الأمر يتعلق بتظاهرة فنية وثقافية تقام في ضريح الولي الصالح، وفي سياق الموروث الاجتماعي الذي يتشبث به سكان المدينة.

تقول المصادر التاريخية إن الولي الصالح الشيخ محمد بن جابر الذي تحول قبره إلى مزار لسكان المدينة في مقبرة برج الراس بالمهدية، "يعد من أبرز رموز الحركة الصوفية التي انخرطت في الدفاع عن مدينة المهدية زمن الحصار الذي فرضه الفرنسيون في نهاية القرن الرابع عشر"، لذلك تحمل هذه الشخصية مكانة روحية ووجدانية خاصة في قلوب الأهالي.

متنفس للأهالي

يؤكد الناشط في المجتمع المدني والعضو بجمعية الأصالة والثقافة في المهدية معز الشوك في حديثه لـTRT عربي أن مقبرة المهدية المطلة على البحر ليست كباقي المقابر العادية، فموقعها الجغرافي يجعلها المتنفس الوحيد لسكان المهدية لاحتضان أنشطتهم اليومية بل الترفيهية والاجتماعية منها، مع احترام خصوصية المكان وحرمة الموتى.

ويضيف الشوك أن ضريح الولي الصالح محمد بن جابر الذي يتموقع في أعلى المقبرة تحول إلى مزار يؤمه سكان المدينة، وملاذ ترفيهي واجتماعي للمئات من العائلات التي تقيم أسبوعياً أفراحها ومناسباتها الخاصة في إطار اجتماعي تكافلي يجسد لحمة سكان هذه المدينة.

ويشدد الشوك على أن ضريح الولي الصالح هو أبعد ما يكون عن معلم ديني يقع التبرك به، والاستنجاد بالأموات. وفي هذا السياق تقول الروايات التي تناقلها الأجداد أن نساء منطقة "براج الراس" في المهدية اجتمعن في هذا الفضاء بعد أن جلبت كل منهن مصوغاتها بهدف شراء قوارب الصيد التي تركها الإيطاليون والمالطيون بعد الاستقلال، في بادرة تضامنية تحيل إلى الاقتصاد التكافلي.

نهاية الأسبوع لم تكن عادية أبداً في مقبرة برج الراس بالمهدية وتحديداً في ضريح الولي الصالح سيدي جابر، حيث اجتمع المئات من أهالي المدينة للاحتفال بتظاهرة فلكلورية فنية تحت عنوان "خرجة سيدي جابر" تكريماً لروح هذا الرجل، وللمكانة التي يحظى بها في قلوب الأهالي.

"مولى العناية يا كامل البرهان عز الولاية سيدي جابر يا سلطان ..يا جابر يا جابر يا ساكن التابوت مولى الكسوة الخضراء ومسمارك ياقوت "هي بعض من كلمات الأغاني التي ترددها فرقة "حزب المهدية" بقيادة المنشد فاضل سقا، لتتعالى بعدها زغاريد النسوة وتختلط برقصات تقليدية يؤديها الحاضرون من النساء والرجال والأطفال على وقع موسيقى فلكلورية تدق فيها الطبول داخل صحن ضريح الولي الصالح.

يقول الشيخ فاضل لـTRT عربي إن هذه التظاهرة الفنية الثقافية التي أقيمت في مقبرة برج الراس جاءت رداً على حملة التشويه التي طالت سكان هذه المدينة، واتهامهم بـ"الشرك والشعوذة والتمسح بالقبور"، ولترسيخ الموروث الثقافي والحضاري الفريد من نوعه في هذه المقبرة التاريخية.

"متمسكون بحب الحياة وإقامة الحفلات الغنائية والأفراح في هذا الفضاء شاء من شاء وأبى من أبى"، بهذه الكلمات يختم الشيخ فاضل كلماته وينصرف للتجهيز لحفل جديد في ضريح الولي الصالح سيدي جابر، مشدداً على أنه كما أن للأموات حرمتهم وقداستهم فللأحياء أيضاً في هذه المدينة الساحلية طقوسهم الخاصة وفلسفتهم ونظرتهم للحياة.

جدلية المقدس والمدنس

من جانبه يؤكد الباحث والمختص في علم الاجتماع مهدي المبروك في حديثه مع TRT عربي أن ما يصطلح عليه بـ"الإسلام الطرقي" أخذ مكانته لدى سكان شمال إفريقيا، وبات الأولياء الصالحون شخصيات اعتبارية لها "كرامات وشفاعات" لدى سكان هذه المناطق، وخاصة جهة الساحل التونسي التي تحولت في وقت ما إلى معقل من معاقل الصوفية وقبلة لـ"الحج الطرقي"، وتحولت قبور بعض هذه الشخصيات التاريخية إلى مزارات، ومنها شخصية الولي الصالح محمد بن جابر في مدينة المهدية .

ويشدد محدثنا على الدور الاعتباري الذي أدته مزارات الأولياء الصالحين وأضرحتهم خاصة في القرون الوسطى، وما شهدته من نزاعات بين المخزن (السلطة الحاكمة) والقبائل، حيث كانت تعقد صفقات التهدئة والمفاوضات السلمية في تلك الزوايا. كما شكلت هذه الفضاءات ملاذاً للفقراء والمحتاجين من خلال إعداد الولائم (الزردة)، ولاتزال حتى اللحظة تؤدي نفس الدور.

الباحث في علم الاجتماع يشير إلى أن هذه العقيدة الشعبية المتوارثة لدى سكان مدينة المهدية وغيرها من المدن التونسية، يراها آخرون ضرباً من البدع في إطار جدلية المقدس والمدنس، والحلال والحرام. وبعيداً عن هذه الجدلية يبقى لهذه الموروثات الاجتماعية حضور مهم لدى العامة، وتسهم في تعزيز أواصرهم الاجتماعية.

جانب من احتفالية ثقافية داخل المقبرة (TRT Arabi)
دأبت المغنية الشعبية سيدة الجمالي، أو "الماشطة"، على إقامة حفلاتها الغنائية برفقة مجموعتها النسائية في هذهالمقبرة (TRT Arabi)
التظاهرة الفنية الثقافية التي أقيمت في مقبرة برج الراس جاءت رداً على حملة التشويه التي طالت سكان هذه المدينة (TRT Arabi)
أهالي المهدية متشبثون بموروثهم الثقافي رغم حملات التشويه التي طالتهم (TRT Arabi)
TRT عربي