تابعنا
شنت وسائل إعلام سعودية وإماراتية ومصرية حملات منظمة تستهدف تركيا وتشوه صورتها في العالم العربي، وبعدما فشلت في مهاجمة حاضر تركيا وسياساتها توجهت لمحاولة تشويه تاريخ الدولة العثمانية، واتهامها بأنها كانت احتلالاً للدول العربية.

يُروى عن الشاعر والمفكر التركي الكبير نجيب فاضل قيساكورك (1904-1984) أن صحافياً جزائرياً في فرنسا وجه له سؤالاً بالفرنسية "ألم تكن الدولة العثمانية دولة استعمارية؟"، فأجابه "يا ولدي لو كانت كذلك لكنت توجه إلي سؤالك الآن بالتركية وليس الفرنسية".

هذا الحوار الذي يختلف المؤرخون على توثيقه، وبغض النظر عن تفاصيل مكان وزمان حصوله، إلا أنه أبلغ وأوجز رد على حملات منظمة متزايدة تحاول تشويه تاريخ الدولة العثمانية في العالم العربي، في مسعى للنيل من حاضر تركيا.

ومع تصاعد الخلافات بين أنقرة من جهة وأنظمة عربية من جهة أخرى في الأشهر الأخيرة، شنت وسائل إعلام سعودية وإماراتية ومصرية بشكل خاص حملات منظمة تستهدف تركيا وتشوه صورتها في العالم العربي، وبعدما فشلت الحملات في مهاجمة حاضر تركيا وسياساتها توجهت لمحاولة تشويه تاريخ الدولة العثمانية، واتهامها بأنها كانت احتلالاً للدول العربية.

فعقب إنتاج الإمارات مسلسل "ممالك النار" الذي حاول تشويه تاريخ الدولة العثمانية، حاولت دار الإفتاء المصرية تشويه التاريخ واعتبار فتح إسطنبول "احتلالاً"، قبل أن تشن السعودية مؤخراً حملة منظمة ضد الخليفة العثماني سليمان القانوني وتتهمه بأنه كان محتلاً وسارقاً.

فهل كانت الدولة العثمانية فعلاً احتلالاً في العالم العربي؟ وهل اتبعت سياسة الغزو الثقافي واللغوي ضد الشعوب العربية؟ وإذا كانت هذه الاتهامات صحيحة فلماذا لم تتحدث الشعوب العربية اللغة التركية رغم بقاء الدولة العثمانية 400 عام في كثير من الدول العربية؟

الأتراك تأثروا بالعرب

يقول الصحفي التركي والباحث في التاريخ العثماني نضال صيام: "(...) نرى وضعاً مختلفاً للغاية، حيث إن الأتراك تأُثروا بالحضارة العربية بقسط أكبر بكثير من تأثيرهم على العرب خاصة مفردات اللغة العربية أكبر عدداً من مفردات أي لغة أخرى داخل اللغة التركية، بل حتى مفردات اللغة التركية نفسها، فالمثقف العثماني ما كان يعتبر مثقفاً إن لم يكن يتقن اللغة العربية. ومن المعروف أن معظم سلاطين الدولة العثمانية الستة والثلاثين كانوا يتقنون اللغة العربية، ومنهم من ألف كتباً ورسائل بها".

وحول العلاقة بين الأتراك والعرب يؤكد صيام لـTRT عربي أنها ليست وليدة الفتح العثماني للعالم العربي، فالأتراك بصفتهم مؤسسي الدولة السلجوقية وغيرها من الدول، حكموا الشرق العربي بشكل مستمر منذ القرن الحادي عشر، لكن تأثُّر الأتراك بالعرب كان أكبر بكثير من تأثيرهم في العرب.

ويشدد على أنه "من الخطأ الشائع اعتبار أن العلاقة التركية- العربية وليدة 400 عام فقط، بل هي أعمق من ذلك بكثير".

علاقة تشاركية

يضيف صيام: "ابن خلدون قال في مقدمته الشهيرة إن المغلوب مولع أبداً بتقليد الغالب في سائر أحواله، وهذه القاعدة ثبتت صحتها عبر تكررها في مئات الأحوال اعتباراً من العصور السحيقة حتى يومنا، وتاريخياً حالات الاستثناء من هذه القاعدة نادرة للغاية، ومنها أن المغول أسلموا ومن ثم تأثروا بعادات وتقاليد البلاد التي احتلوها، لكن في هذه الحالة الأتراك لم يكونوا "غالبين"، كما لم يكن العرب "مغلوبين" في أي حال"، معتبراً أنها حالة مختلفة ونادرة أقرب إلى "التشاركية".

ويقارن صيام بين الدولة العثمانية والاستعمارين الفرنسي والبريطاني للدول العربية، موضحاً: "التأثير الحضاري وتغيير اللغة هو ديدن الاستعمار (أو الانتداب)، حتى إن بعض الدول المستعمَرة تستخدم لغة المستعمِر (البريطاني أو الفرنسي) بدلاً من لغتها المحلية، لأن الدول الغالبة أو المحتلة تفرض لغتها وحضارتها رغم اعتراض أهل البلاد المحتلة أو مقاومتهم"، مشدداً على أن هذا الأمر لا ينطبق على الدولة العثمانية على الإطلاق.

ويسرد صيام أدلة أخرى مختلفة على طبيعة العلاقة "التشاركية" بين الدولة العثمانية والعرب، لافتاً إلى أن الدولة العثمانية كانت الوحيدة في التاريخ التي استخدمت عملة مكتوب عليها بخمس لغات، من بينها التركية والعربية، كما أشار إلى أن نسبة العرب في الصدور الأعاظم (الصدر الأعظم: رئيس وزراء الدولة العثمانية) وولاة الولايات المختلفة كانت تماثل نسبة الصدور الأعاظم من الأتراك أنفسهم.

حرية مطلقة

في السياق ذاته يقول عامر سليمان الباحث في اللغة والتاريخ العثمانيين: "منذ بداية اتساع رقعة أراضي الدولة العثمانية في البلقان وأوروبا عبر الفتوحات الإسلامية والدولة تضم رعايا من أعراق وأديان ومذاهب مختلفة يتحدثون لغات عدة، ولم يحدث في أي وقت أن فرضت الدولة مذهباً أو لغة معينة على أي من رعاياها".

ويضيف سليمان لـTRT عربي: "ورغم أن التركية كانت اللغة الرسمية للقصر والدوائر الحكومية فإن كل الرعايا كان لهم مطلق الحرية في التحدث باللغة التي يرغبونها".

ويتابع: "بالنظر إلى عدد السكان والتركيبة الديمغرافية في البلدان التي حكمتها الإمبراطورية العثمانية يمكننا القول إن اللغة التركية تعتبر لغة (أقلية) داخل الإمبراطورية، فلم تكن لغة الغالبية بين العامة سوى بمنطقتي الروميللي والأناضول. ففي البلقان كانت الأغلبية للغة الألبانية والصربية والبوسنية، وفي شمال إفريقيا والحجاز والشام كانت اللغة العربية ،حتى في منطقة الأناضول كان قسم كبير من الرعية يتحدثون الكردية والرومية والأرمنية".

وحول الحملات التي تتهم الدولة العثمانية بالغزو الثقافي، يرد سليمان: "لا يمكن الزعم بأن دولة ما قامت بغزو ثقافي أو فرض ثقافتها ولغتها على الدول التي تحكمها إلا إذا قامت بفرض لغتها لغة أساسية في التعليم ومنعت استخدام اللغات المحلية، مثلما فعلت فرنسا وبريطانيا في دول شمالي ووسط وغربي إفريقيا. وإذا ما حاولنا تطبيق ذلك على الدولة العثمانية نرى أن أكثر المناطق التي استمر فيها الحكم العثماني، وهي منطقة البلقان، لا نكاد نجد فيها من يتحدث التركية حالياً باستثناء بعض العائلات المنحدرة من أصول تركية".

تدريس العربية في تركيا

ويذكر عامر أن "المنطقة العربية التي دام الحكم العثماني بها نحو أربعة قرون لم يحدث أن أصبحت اللغة التركية لغة رسمية فيها للتعليم، ولم يحدث أن حظرت الدولة استخدام اللغة العربية"، لافتاً إلى أن "سكان بعض الولايات بجنوب الأناضول ذوي الأصول العربية لا يزالون يتحدثون بالعربية ومحافظين على ثقافتهم العربية، بعكس أغلب العائلات ذات الأصول التركية في مصر مثلاً".

وعن سبب تمسك الأتراك باللغة العربية، يشرح سليمان: "منذ تحول الأتراك إلى الدين الإسلامي وهم يولون اللغة العربية أهمية كبيرة باعتبارها لغة القرآن الكريم. وكانت اللغة العربية أكثر اللغات التي اهتمت بها الدولة في المدارس العثمانية".

وتشير "قانون نامه" المعروفة بقوانين الفاتح إلى أنه لا يسمح للطالب بالانتقال إلى المرحلة الأعلى في الدراسة قبل اجتيازه بنجاح امتحانات في النحو والصرف والبلاغة. ومن أشهر الكتب العربية التي كانت تُدرس بالمدارس في الدولة العثمانية كتاب العوامل للبركوي، وإظهار الأسرار في النحو للمؤلف نفسه، وأساس التصريف للفناري، وقواعد الإعراب لابن هشام، إضافة إلى بعض التفاسير المشهورة مثل تفسير البيضاوي، وتفسير القرطبي، والكاشاني، وشرح النووي على صحيح مسلم كما تشير إحدى الوثائق العثمانية بتاريخ 1565 في أرشيف متحف طوب قابي.

تركيا اليوم

وبعيداً عن التاريخ، فإن اللغة العربية ما تزال تحتفظ بمكانة مهمة في تركيا، حيث تنتشر مدارس "الأئمة والخطباء" التي ازدهرت في السنوات الأخيرة، وبات يرتادها قرابة 1.3 مليون طالب في أكثر من 5 آلاف مدرسة تنتشر في عموم البلاد، وهي مدارس تركز على علوم الدين والقرآن وتعتمد في جزء مهم منها على اللغة العربية، إلى جانب افتتاح عدد كبير من الأقسام في الجامعات التي تهتم بتدريس العربية والأدب والشعر العربي.

في المقابل وعقب ثورات الربيع العربي ووصول ملايين اللاجئين العرب إلى تركيا، منهم قرابة 3.6 ملايين لاجئ سوري وقرابة 1.5 آخرين من دول عربية مختلفة، إضافة إلى مقيمين بهدف العمل أو السياحة، زاد اهتمام العرب بتعلم اللغة التركية بإرادة ذاتية ورغبة في التعرف أكثر على المجتمع التركي، وتسهيل ظروف الحياة والتواصل فترة بقائهم في تركيا.

عملة ورقية عثمانية من فئة ليرة واحدة ويظهر الكتابة عليها بعدة لغات (ويكيبيديا)
TRT عربي