تابعنا
بعد أن كانت فكرة التناسل والبقاء غريزة متأصلة لدى الجنس البشري، تنتكس اليوم أمام تنامي ظاهرة مريبة بدأت تكتسب زخماً كبيراً في مختلف الأوساط في أنحاء متفرقة من العالم، وتدعو إلى عدم الإنجاب تحت اسم "اللا إنجابية".

في حين يبذل كثير من الأزواج حول العالم جهوداً مضاعفة ومضنية قد تستغرق سنوات طويلة لإنجاب أطفال، يمتنع آخرون في المقابل عن ذلك طواعية.

وبينما كان نبذ الإنجاب في البداية مجرد خيار شخصي وخاص، يبدو أنه اليوم يوشك أن يصبح "فلسفة" أو "تياراً" نشطاً، كما يدّعي البعض، وظاهرة متفشية تحمل عنوان "مناهضة الإنجاب" أو "اللاإنجابية" Anti-Natalism.

وقد شهدت هذه الظاهرة نمواً سريعاً خلال السنوات الأخيرة، استرعى انتباه المراكز البحثية والوسائط الإعلامية، التي سلّطَت الضوء على أسباب ذلك، ومدى وجاهتها في دفع إنسان إلى التعسف على غريزته البشرية، والوصول به إلى حد الاقتناع بفكرة الكفّ عن إنجاب مزيد من الأطفال لهذا العالم.

الإنجاب.. مزيد من الضحايا في عالم بائس

"لمَ أنجبني والداي إلى هذا العالم؟" قد يبدو في البداية مجرد جملة لاحتجاج مراهق على والديه، لكنها أصبحت اليوم تلخّص جوهر "فكرة" و"حركة" بدأت تكتسب زخماً بين صفوف الشباب في العالم، بشكل مقلق.

ويعتبر إخصائيون ومحللون أن المحرك الرئيسي لهذه الفكرة، يتمثل في اعتبار أن إنجاب الأطفال هو بمثابة "الإيذاء" لهم أو"الجناية" عليهم و"الإجرام" في حقهم، وذلك بجلبهم إلى عالم "بائس" و"متوحش".

وانتشرت هذه الفكرة مؤخراً بشكل لافت، في أوساط الشباب الذين عايشوا الحروب والكوارث والظروف المأساوية في بلدانهم. واعتبروا أن التخلي عن فكرة الإنجاب نبذ للأنانية ومنتهى الشفقة على الأجيال القادمة.

أصّل لهذه الفكرة سابقا، الفيلسوف الألماني أرتور شوبنهاور، حين قال: "لو كان إنجاب الأطفال قراراً يقوم على المنطق العقلي الصرف، فهل سيستمر الجنس البشري؟ ألن يمتلك الإنسان من الشفقة ما يكفي لإعفاء الجيل المقبل من قسوة الوجود، أو على الأقل أن لا يفرض بنفسه بدمٍ بارد عبء الوجود على أفراد جدد؟".

وقاسمه الفكرة ذاتها الشاعر والأديب العربي أبو العلاء المعري، قائلاً بيته الشعري الشهير الذي غذّى اليوم فكرة مناهضة الإنجاب لدى كثيرين: "هذا جناه أبي عليَّ وما جنيتُ على أحد".

ويعتبر "اللاإنجابيون" أن هذا الخيار يُعتبر الحلّ الأمثل لتقليل الخسائر البشرية، في ظل عالَم غير آمن تعمُّه الفوضى والحروب والمجاعات والكوارث.

وفي هذا السياق يؤكد إخصائيون نفسيون أن دوافع هذه الفكرة هي الهشاشة النفسية، لكثيرين كابدوا المعاناة بشتى أنواعها وأشكالها، وسيطر عليهم اليأس، وتغلبت عندهم العاطفة على المنطق والفطرة.

رهاب الأمومة والأبوّة.. خوف من المسؤولية

بينما تتفاقم الأعباء اليومية والمعيشية، ويعجز البعض عن تخفيفها وحلّها، ويصبحون بالتالي مثقلين بالهموم والمخاوف مما قد يحمله الغد، في ظلّ الظروف الاجتماعية والاقتصادية الصعبة، امتنع كثيرون عن انجاب الأطفال.

إذ إنه في الوقت الذي يبدو فيه تحمُّل مسؤولية أنفسهم صعباً، قد يصبح مضاعفاً وشاقّاً عليهم، بمجرد إضافة أطفال آخرين إلى المعاناة التي يواجهونها، بخاصة مع زيادة تكاليف رعاية الأطفال والصحة والتعليم والغذاء.

وادّعى مناصرو هذا التيار أن عدم إنجاب طفل بالتالي في مثل هذه الظروف الصعبة، يُعتبر نوعاً من "الإيثار"، أي أن يُحرم الإنسان تجربة الأمومة والأبوَّة بدافع حماية شخص آخر من المعاناة والألم.

وعلى الصعيد ذاته، قد تتعارض فكرة الإنجاب أيضاً لدى كثير من النساء، مع عملها وطموحاتها ونجاحاتها في مسيرتها المهنية أو الدراسية أو حتى السياسية والفنية، فتوضع في خيار بين الارتقاء على سلم النجاح، وإنجاب طفل والاهتمام به.

وقد فضّلت كثيرات منهن بناء على ذلك، نبذ فكرة الإنجاب، تهرُّباً من المسؤولية وتغليباً للمصلحة الشخصية، وإن كانت الأمومة لم تتعارض لدى كثيرات مع النجاح ولم تعرقل مسيرة عديد من النساء اللاتي تتداول إلى اليوم الوسائل الإعلامية سير نجاحهن الباهرة في ظلّ وجود أطفال.

اللا إنجابية.. إنقاذ للكوكب!

إضافة إلى الدوافع الشخصية والذاتية، يبني أنصار "اللا إنجابية" فكرتهم على مبدأ "علمي قياسي" يدّعي إنقاذ الكوكب بذلك.

ففي نوفمبر/تشرين الثاني 2017، أطلق علماء من أكثر من 183 دولة صيحة فزع على العواقب الوخيمة التي ستترتب على النمو الديموغرافي، كالاحتباس الحراري، وفقدان التنوع البيولوجي، وخفض إمدادات المياه العذبة، وإزالة الغابات، ونقص الغذاء، وغيرها.

ودعوا بناءً على ذلك إلى خفض معدَّل الولادات، إذ يسكن على الكوكب اليوم نحو 7.5 مليار نسمة، ومن المتوقع أن ترتفع إلى حدود 11.2 مليار نسمة عام 2100.

في هذا السياق يقول المتطرفون في فكرة "اللاإنجابية"، إن نمط الحياة الحالي لكثيرين يؤكد أن الكوكب لا يمكن أن يسع أكثر من 3 أو 4 مليارات شخص، مدّعين الاستناد في ذلك إلى أبحاث وتقارير علمية.

ويتناسى المناهضون للإنجاب الثغرات والفجوات في الهرم العمري التي من الممكن أن تترتب على ذلك، إضافة إلى المشكلات الاقتصادية، وصعوبة تجدُّد الأجيال بعد ذلك، وغيرها من التحديات والكوارث التي قد تؤدي إلى انهيار الكوكب بدل إنقاذه.

زخم عالمي؟

بغض النظر عما إذا كانت الأسباب في ذلك وجيهة، فإن اللا إنجابية Anti-Natalism بدأ صداها يتردد وتمتدّ آثارها إلى عدة دول في العالم، وقد تأسست بالفعل حركة تروّج هذه الفكرة أُطلقَ عليها اسم حركة VHEMT، أي حركة الانقراض الطوعي للبشر، وتضمّ طيفاً واسعاً من مناصري فكرة عدم الإنجاب في العالم.

كما يناقش عديد من المنتديات والمواقع الإلكترونية الظاهرة بزخم كبير وجدل ساخن، ويروّج بعضها أفكاراً سلبية على الإنجاب، بغرض الإقناع بـ"اللا إنجابية".

قد تجد هذه الأفكار قبولاً وترحيباً، بخاصة في البيئات التي تشهد اكتظاظاً سكانياً كالهند التي تسجّل ولادة نحو 35 طفلاً كل دقيقة، أو في الدول التي تعصف بها الحروب والمجاعات، أو في المجتمعات الرأسمالية، وغيرها من الأرضيات الخصبة لتلقِّي هذه "الفلسفة العدمية"، كما شاء كثيرون توصيفها.

في السياق ذاته أشار مركز بيو للأبحاث، إلى أن غالبية البالغين الأمريكيين ليس لديهم أطفال ولا يفكرون مستقبلاً في إنجاب أطفال. وأُجريَت الدراسة على عينة من اليافعين سُئلوا: "ما مدى احتمالية إنجابكم أطفالاً يوماً ما؟"، فقال 26% منهم إنّه "مرجَّح للغاية"، بانخفاض 6 نقاط عن عام 2018 عندما أجاب 32% بـ"مرجَّح للغاية". فيما ارتفعت نسبة الأمريكيين الذين أجابوا بـ"غير مرجّح أبداً" في عام 2021 إلى 21%، مقارنةً بـ16% عام 2018.

TRT عربي
الأكثر تداولاً