انطلاقاً من التسعينيات، بات التدين في الولايات المتحدة يدخل مرحلة التذبذب، وارتفع عدد الذين يصنّفون أنفسهم "غير متدينين" أو "لا دينيين" (AP)
تابعنا

بُني "الاستثناء الأمريكي" وهو أحد أهم أساطير التأسيس في الولايات المتحدة على رُكنين أساسيين: التقوى/العبادة والعمل/الثروة. فمنذ قدوم المهاجرين الأوروبيين وعلى رأسهم البروتستانت البريطانيون إلى "أرض الأحرار" كما كانوا ولا يزالون يسمونها، كان التدين المسيحي الإنجيلي في أغلبه، والالتزام بالعمل والسعي إلى مراكمة الثروة أساساً لـ"الأمة" الأمريكية الجديدة.

وفي الوقت الذي كانت تشهد فيه أوروبا تراجعاً ملحوظاً للتدين في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، كانت الطوائف المسيحية بشتى تفريعاتها تعيش حالة من الازدهار في الولايات المتحدة. ازدهارٌ سيصل مرحلة الاستقرار بعد الحرب العالمية الثانية، وتحافظ بذلك "أرض الأحرار" على مجتمع متدين لم يتأثر كثيراً خلال الستينيات والسبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي.

انطلاقاً من التسعينيات، بات التدين في الولايات المتحدة يدخل مرحلة التذبذب، وارتفع عدد الذين يصنّفون أنفسهم "غير متدينين" أو "لا دينيين"، كما ارتفع بالموازاة عدد المسيحيين غير الممارسين (لا يلتزمون بالصلاة اليومية والقُدّاس الأسبوعي). هذا الأمر سيستمر في الصعود في عِقدَي الألفية الجديدة، ليُعاد بذلك تشكيل خارطة تدين جديدة في البلاد.

صعود الـ"لا شيء"

كشف استطلاع رأي جديد أجراه مركز بيو للأبحاث في الولايات المتحدة الأمريكية أن 3 من بين كل 10 بالغين يقولون إنهم دون انتماء ديني.

ووفق النتائج التي نُشرت، الثلاثاء، "شهدت السنوات العشرة الماضية انخفاض نسبة من يعرفون أنفسهم على أنهم مسيحيون من 75% إلى 63%".

أما المجموعة الأسرع نمواً في البلاد هي تلك المعروفة باسم "لا شيء" (None) ، إذ كانت تبلغ نسبتها 19% من إجمالي السكان عام 2011، غير أنها ارتفعت إلى 29% خلال 10 سنوات فقط.

وحسب الاستطلاع، زادت شريحة غير المنتمين إلى أي دين من الأمريكيين بنسبة 6% مقارنة بفترة ما قبل 5 سنوات، وبنسبة 10% مقارنة بما قبل 10 سنوات.

وأوضحت النتائج كذلك أن عدد البالغين الذين يقولون إنهم يصلون كل يوم، ويرون أن المعتقد الديني "مهم للغاية" في حياتهم، قد انخفض بشكل مطرد على مر السنين.

هذا الأمر انعكس على السياسة أيضاً؛ فالولايات المتحدة التي عرفت بأنها أكثر دول الغرب التي يلعب فيها الدين دوراً مهماً في تحديد الخيارات الانتخابية، تغيّرت قليلاً خلال العشرين سنة الماضية، حسب تقرير سابق لـصحيفة الغارديان البريطانية.

وفي استطلاع رأي أجراه معهد غالوب الأمريكي، عام 2019، أبدى حوالي 60% من الأمريكيين موافقتهم على إمكانية انتخاب رئيس مُلحد، في صعود قوي خلال قرابة نصف قرن إذ كان الرقم عند حاجز 18٪ فقط عام 1958.

وفي تقرير آخر للمعهد ذاته، صدر ربيع 2021، كُشف أن معظم الأمريكيين (53%) لم يعودوا يعدّون أنفسهم أتباع كنيسة ما أو أي طائفة دينية منظمة، وهو أمر حصل لأول مرة منذ ما يقارب قرناً من الزمن، حسب صحيفة التايمز البريطانية.

نهاية "الأمّة التقيّة"؟

هذه الأرقام والبيانات دفعت العديد من الباحثين إلى التساؤل: لماذا يغادر الأمريكيون الطوائف المسيحية؟ ولماذا بات عدم التدين خيار العديدين في بلاد كانت حتى وقت قريب تُسمى "الأمّة التقيّة".

تناولت مجلة ذي أتلانتيك هذا الموضوع في تقرير بعنوان "لماذا ضيّعت أمريكا دينها"، وقالت إن وسم "غير متدين" بات هويّة أمريكية مخصّصة، هدفها بالأساس التفريق بين الأمريكيين البيض العلمانيين والليبراليين عن الأمريكيين البيض المحافظين واليمينيين والإنجيليين.

من جهة أخرى، نقلت صحيفة واشنطن بوست عن الباحثة تارا بولتون قولها إن تراجع التديّن يعود إلى ارتفاع مستويات عدم الثقة في المؤسسات الدينية والجماعات الدينية المنظمة، بالإضافة إلى نمو "الانتقائية الدينية" (انتقاء أفكار ومعتقدات متفرقة من ديانات مختلفة) بين جيل الألفية حول العالم.

وتستند عدم الثقة في المؤسسات والطوائف المسيحية على نفور من الفساد المالي والاحتيال والاختلاس الذي اعترى كثيراً منها، ونظراً لوضعيتها الخاصة لا يجري تتبع وضعها المالي بالطرق التي تُفحص فيها مؤسسات مدنية أخرى، حسب مجلة فوربس.

كما أن نسبة كبيرة من الأمريكيين الكاثوليك، أخذوا مسافة من كنائسهم أو غادروها بسبب الفضائح الجنسية فيها والاعتداء على الأطفال والقصر جنسياً، كان آخرها التحقيق الصحفي الذي كشف عن أن 1700 قس ومرشد ديني متهمون بالاعتداء على الأطفال جنسياً لا يزالون يمارسون مهامهم دون رقابة.

هذه ربما مؤشرات قد تدل على تغيّرات جذرية داخل "الأمة التقية" لكنه لا يعني بالضرورة نهايتها، إذ تشير ذي أتلانتيك إلى أن الولايات المتحدة لا تزال فعلاً "استثناء" فيما يتعلق بالدين، ولخصت الأمر بمقولة لافتة: "لا دولة غنيّة تُصلّي بالقدر الذي تصلي به الولايات المتحدة، والدول التي تُصلي بالقدر الذي تصلي به أمريكا لا تقاربها في الغنى".

هذا الأمر تؤكده مقولة أخرى شائعة في وصف التدين الأمريكي واختلافه عن أوروبا: "الأمريكيون شعب متدين بشدة والملحدون منهم ليسوا استثناءً، أما الأوروبيون فعلمانيون بشدة والمسيحيون منهم ليسوا استثناءً".

TRT عربي