حصاد الموسم الأول من قمح البركة في إحدى الأراضي الزراعية في العاصمة عمّان (TRT Arabi)
تابعنا

في البداية من المهمّ التأكيد على أنّ القمح يشكل جزءاً لا يتجزأ من تاريخ الأردن والمنطقة ككلّ، ففي عام 2018 أشارت دائرة الآثار الأردنية إلى اكتشافها قطعة خبز متفحمة مصنوعة من القمح إلى جانب حبوب أخرى تعدّ هي الأقدم على مستوى العالم حتى يومنا هذا وتعود إلى ما يزيد عن 14 ألف سنة، وبالانتقال من ضانا والشوبك ووادي موسى جنوبي الأردن إلى حوارن الأردنية في أقصى الشمال كانت العادات الغذائية ترتكز على وجود القمح كعنصر أساسي فيها ما شكّل حجر الأساس للعديد من الأطباق المحلية.

كان الفلاح يقسم ناتج حصاده لعدّة أقسام، قسم يذهب للمؤونة حتى العام المقبل، وقسم يسدّ به ديونه للتجار الذين تعامل معهم خلال العام، وقسم للكسوة ومنه يتمّ تأمين احتياجات البيت الأخرى، وقسم يخزنه بذوراً لزراعتها العام المقبل، فكان الكل مكتفياً بما ينتجه من أرضه أو بما يشتريه من السّوق المحلي.

علاوةً على ذلك كان الفائض من الإنتاج يصدّر إلى دول العالم، ولكن ومع التطور الصناعي الذي شهده العالم أجمع في القرن الفائت انتقل المزارع إلى المدينة واحتلت المصانع والمنشآت المختلفة الأراضي الزراعية الخصبة ما سبب انحدار إنتاج القمح شيئاً فشيئاً خصوصاً مع توافر الأرز بديلاً مستورداً رخيصاً، ولو أخذنا مثالاً طبق المنسف والذي يتربع على عرش مائدة المواطن الأردني فإنّه وبالعودة إلى أصوله الممتدة طويلاً عبر التاريخ نجد أنّه كان يعتمد بشكل أساسي على جريش القمح ولم يبدأ استبداله بالأرز إلاّ خلال أواخر القرن التاسع عشر إلى أن استقر على الشكل المعروف حالياً والذي يعتمد على الأرز فقط.

قمح البركة مشروع من الشعب الأردني للشعب الأردني

أدرك ربيع زريقات ولمى الخطيب، مؤسسا "ذكرى للتعلم الشعبي" مخاطر اعتماد الأردن بشكل كامل تقريباً على القمح المستورد ما دفعهما إلى إطلاق مشروع سمّياه "قمح البركة" استطاعا من خلاله تنفيذ خطوات حقيقية على أرض الواقع في سبيل التحرر من الهيمنة الغذائية، فأشار زريقات في حديثه إلى TRT عربي إلى أنّ الأردنّ اليوم ينتج 2٪ فقط من احتياجاته وهي تكفي الشعب الأردني لمدّة 10 أيام لا غير واصفاً هذه النسبة بأنّها "حالة طوارئ"، في حين أنّ إنتاج الأردن في ستينيات القرن الماضي كان يصل إلى 200٪. وجدير بالذّكر أن الأردنّ ليس إلّا مثالاً لعديد من الدول في المنطقة التي تحوّلت من السيادة الغذائية والاكتفاء الذاتي إلى الاعتماد على الاستيراد بشكل كبير خلال الستين عاماً الماضية.

يهدف المشروع بمحوره الأول إلى إشراك العائلات والمجتمع المحلي بالزراعة الجماعية التشاركية داخل المدينة بحيث يحصل كل مشارك في نهاية موسم الحصاد على مؤونته من القمح ومنتجاته حتى العام المقبل.

يتمّ التعاون مع عديد من ملاك الأراضي غير المستغلة للحصول على الأراضي كما تتمّ الاستعانة بالمزارعين الذين لديهم خبرة في الزراعة البعلية كل في منطقته للحصول على أفضل النتائج، وترتكز الفكرة على دعوة من يودّ الانضمام من العائلات أو الأفراد لدفع مبلغ مادي ليغطي تكاليف الزراعة وإشراكهم بشكل كامل في العملية منذ لحظة البذر إلى حين الحصاد، ويقول زريقات: "في حال كان الحصاد وفيراً فإنّ الفائدة ستعمّ على الجميع وفي حال خسارة الموسم فإنها تتوزع على الجميع ولا تثقل كاهل المزارع لوحده وفي هذه رسالة تضامن وتشارك".

يؤكدّ زريقات أن الهدف من هذا المحور هو تحقيق ما أسماه "السيادة المنزلية"، وبهذا الصدد يستذكر زريقات أن أكثر ما دفعه لإطلاق المشروع هو إحساسه بالاكتفاء والسيادة المنزلية في أثناء الإغلاقات التي سادت العالم أثناء جائحة كورونا، إذ كان بالتشارك مع الخطيب زرعا أرضاً قبل عام من بدء الجائحة، وصادف أن حان موسم حصادها في وقت كان فيه المواطنون الأردنيون يقفون في صفوف طويلة أمام المخابز والأفران في ظلّ خوف من نفاذ القمح من الصوامع داخل البلد.

شارك في مشروع قمح البركة 60 عائلة وفرداً خلال موسمه الأول، في حين وصل العدد هذا العام إلى 140 عائلة وفرداً إلى جانب 4 مدارس. يضيف زريقات: "لا يقتصر الموضوع على ما يحصل عليه المشاركين من قمح، بل ويتعدّى ذلك إلى تعليمهم كيفية طحن القمح بشكل صحيح وكيفية استخدام منتجاته المختلفة، لقد عاد المشاركون إلى التعرف على ثقافة غذائهم وبدؤوا مشاركة تجاربهم الخاصة في اكتشاف الوصفات المنسية وابتكار أخرى جديدة".

إحدى المشاركات في الزراعة الجماعية وهي تحصد باستخدام المنجل (TRT Arabi)

على صعيد آخر فإنّ هدف المشروع الثاني هو خلق سلسلة محلية ومنظومة اقتصادية للقمح البلدي والذي بدأ يتحقق عن طريق ربط المزارعين من مختلف مناطق المملكة بسوق بديل ذي جدوى اقتصادية، وكانت البداية بإيصال القمح من المزارعين إلى أحد المخابز الذي وافق على إضافة الخبز المصنوع من القمح الكامل المحلي منتجاً جديداً إلى رفوفه والذي لاقى رواجاً واضحاً عقب بداية إنتاجه، هذا إلى جانب توفير الطحين البلدي في عدد من المتاجر والمحال.

فلسفة البركة

إن فلسفة قمح البركة تقوم على تعزيز حق الشعب بإنتاج غذائه ووضع قوانينه الخاصة واتباع الثقافة الغذائية التي يختارها في سبيل التحرر من الهيمنة الثقافية في الممارسات الغذائية، ويشير زريقات إلى أنّ من شأن إشراك العائلات بعملية الزراعة بكل مراحلها وعدم الاعتماد بشكل كامل على الآلة تعزيز العلاقة مع التربة والأرض، ويقول: "الحصاد بالمنجل ليس عملا فلكلورياً" تأكيداً منه على أن قمح البركة ليس محاولة لإعادة إحياء التراث كما يراه البعض، وإنّما هو حل لأزمة واقعية ولا ينتظر أن يتمّ التصفيق والإشادة به كعمل فني.

يشرح زريقات أنّ فلسفة البركة التي أتى منها اسم المشروع يمكن تلخيصها في الدعاء الذي يردده المزارع عند عملية البذار: "رمينا الحب وتوكلنا على الرب، يا رب تطعمنا وتطعم منا، يا مطعم الطير بظلام الليل، مطعم الدبيب في الأرض، يا مطعم الهاجم والناجم، واللي على جنبه نايم"، إشارة منه إلى أنّ الفرد يريد أن يكون جزءاً من البيئة التي حوله فهو يدعو أن يعمّ عليه الخير ليصل إلى الآخرين، حتى إنّه يدعو أن يكون هنالك حصة للطيور والحيوانات.

المبادرات الشعبية لا تكفي

يبدو أنّ الدول بدأت تدرك خطر الاعتماد بشكل كلّي على استيراد القمح، وفي الحقيقة فإنّ المبادرات الشعبية مهما كبرت تحتاج إلى أن تمضي قدماً جنباً إلى جنب مع المساعي الحكومية لحلّ المشكلة من جذورها، إذْ لا بدّ من توجّه حكومي ودولي جادّيْن لإعادة المشاريع الزراعية وعلى رأسها زراعة الحبوب بما فيها القمح إلى أول القائمة، وبهذا الشأن يُذكر أنّ وزارة الزراعة الأردنية قامت خلال مايو/أيار الماضي بإقرار خطة للتوسع في زراعة المحاصيل الحقلية (القمح والشعير) وذلك من خلال تقديم تسهيلات للمزارعين للحصول على قروض بلا فائدة إلى جانب توفير الأدوات الزراعية اللازمة لهم بهدف تشجيع المواطن على العودة إلى المشاريع الزراعية مشاريع تجارية يسدّ بها احتياجه ويغذي بها السوق المحلي بالقمح البلديّ، هذا إلى جانب شراء القمح المحلي بأسعار مدعومة أعلى من أسعار القمح المستورد بغية رفع الإنتاج.

من منتجات قمح البركة (TRT Arabi)

بذات الصدد، وقَّع وزير الزراعة الأردني خلال الشهر الفائت مذكرة تعاون مع إحدى الشركات العاملة في مجال المحاصيل الزراعية بهدف تنفيذ تجارب على أصناف عالية الإنتاج من القمح والأرز ضمن محطات المركز الوطني للبحوث الزراعية في جنوب ووسط وشمال المملكة، وذلك بهدف معرفة الأصناف القادرة على التكيف مع التغيرات المناخية التي يشهدها العالم، وقد تناولت المذكرة أهمية استخدام تقنيات وتكنولوجيا توفير المياه في ظل شحّ المياه الذي تعاني منه المنطقة.

تعليقاً على هذا الموضوع يؤكّد زريقات أنّ الأردن يملك فرصة كبيرة في إنتاج القمح حيث يمتلك 25 مليون دونم صالح للزراعة ضمن أراضيه حسب تصريحات حكومية رسمية، ويختم حواره مع TRT عربي بقوله أنّ "اللي أكله مش من فأسه قراره مش من رأسه" ترسيخاً منه لفكرة أنّ السيادة الغذائية لا تقتصر على تأمين احتياجات الشعب من الغذاء وحسب وإنّما تشكّل حجر الأساس في سبيل تحقيق الاستقلال الحقيقي للشعوب.



TRT عربي