السياسية الخارجية المصرية شهدت في السنوات الأخيرة نشاطاً ملحوظاً في إفريقيا (Reuters)
تابعنا

مع التحول الكبير الذي شهدته القارة الإفريقية في السنوات الأخيرة إلى ساحة صراع لقوى إقليمية ودولية مختلفة بدأت القاهرة في تلمس الطريق نحو إعادة نفوذها في "الدائرة الثانية".

ولفترة طويلة ظلت نظرية الدوائر الثلاث (العربية، الإفريقية، الإسلامية) التي وضعها الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر حاكمة للرؤية الاستراتيجية المصرية، رغم انحسار نشاط الخارجية المصرية الملحوظ في العقود الأخيرة، في حين شهدت السنوات المنصرمة دماء جديدة تضخ في الشرايين الإفريقية لمصر.

للدبلوماسية أكثر من وجه

وفي سياق تعزيز الوجود المصري في القارة السمراء نشطت دبلوماسية القاهرة في توقيع الاتفاقيات مع العديد من الدول الإفريقية مثل ناميبيا وزامبيا وأوغندا وغيرها.

كما وقعت غانا ومصر للطيران اتفاقية لتدشين شركة وطنية غانية في أكتوبر/تشرين الأول 2020 باستثمارات مشتركة، وهو ما مثل عودة للناقل المصري إلى غرب القارة الإفريقية مستغلاً التعثر الإثيوبي في توقيع نفس الاتفاقية مع غانا .

ورحبت غانا بالتعاون مع مصر في تطوير السكك الحديدية الغانية، ومشروعات الربط عبر الإقليمي المُقترَحة مع دول الجوار الجغرافي ودول تجمُع إيكواس، وجهود الارتقاء بالبنية التحتية ذات الصلة ، ويأتي التركيز المصري على غانا باعتبارها المستضيفة لأمانة منطقة التجارة الحرة الإفريقية ( AfCFTA) التي تعد أكبر منطقة تجارية حرة في العالم .

ولتطوير العلاقة بالعواصم الإفريقية المؤثرة فقد استقبلت القاهرة رئيس الكونغو الديمقراطية فيليكس تشيكسيدي في فبراير/شباط الماضي، وأعرب عن رغبته في الاستفادة من الخبرة المصرية في إنشاء العاصمة الإدارية الجديدة في بناء مدينة كيتوكو الذكية التي يوليها أهمية كبيرة، وهو ما سيتم من خلال شركة "إنكوم" المصرية ، والكونغو الديمقراطية الآن هي رئيسة الدورة الحالية للاتحاد الإفريقي المشرف على مفاوضات سد النهضة.

وفي نفس السياق شهدت العلاقات المصرية النيجيرية نقلة كبيرة بعد الرسالة التي بعث بها رئيس الأخيرة محمد البخاري إلى نظيره المصري، حيث لم تقتصر العلاقات على الجانب الأمني بل تعدتها إلى المجال الاقتصادي فزارت الكثير من الوفود المصرية الاقتصادية أبوجا التي تعد أكبر اقتصادات إفريقيا عام 2019.

ومع انتشار وباء كورونا انخرطت القاهرة في ما عُرف بدبلوماسية اللقاحات، حيث أرسلت المساعدات الطبية لكينيا وجنوب السودان والكونغو وبوروندي وغيرها.

كما تم إطلاق مجموعة من المبادرات التي تعزز موقع مصر الجيوسياسي والجيوقتصادي على مستوى القارة، كالبدء في إنشاء طريق القاهرة-كيبتاون الذي يصل شمال القارة بجنوبها عابراً لتسع دول بتكلفة تبلغ نحو 1.6 مليار دولار ستوفرها مصر، حيث أكد وزير النقل المصري كامل الوزير في ديسمبر/كانون الأول 2020 أن هذا المشروع يأتي ضمن خطة القاهرة لربطها بمحيطها الإقليمي.

كما تنفذ الحكومة المصرية مبادرة جسور للربط مع عدد من الدول الإفريقية، شاملة حزمة متكاملة من خدمات النقل واللوجستيات وفقاً لوزير قطاع الأعمال العام المصري هشام توفيق الذي أضاف أنه تم إطلاق الجسر الأول من مدينة العين السخنة في محافظة السويس، شرق القاهرة، ليصل إلى مومباسا الكينية، ومنها إلى دول شرق إفريقيا على أن تطلق لاحقاً جسور أخرى متجهة نحو بلدان غرب أفريقيا.

الدبلوماسية التنموية

ترافق هذا الحراك المصري بأنشطة "دبلوماسية تنموية" في القارة السمراء، حيث شهدت السنوات الأخيرة نشاطاً مصرياً ملحوظاً في دعم مشاريع الطاقة في دول حوض النيل والبحيرات، ضمن ما تصفه القاهرة بمبادرتها للحد من عجز الطاقة في القارة.

ويبرز في هذا الإطار ما أعلنته هيئة التصنيع العربية، وهي مؤسسة مملوكة للحكومة المصرية، عن عزمها بناء محطات للطاقة الشمسية في عدد من الدول الإفريقية وبقدرات متفاوتة، وبمنحة من الحكومة المصرية تقدر بـ12 مليون دولار.

وكان الدكتور أيمن حمزة المتحدث الرسمى لوزارة الكهرباء المصرية صرح أن الحكومة المصرية تكفلت ببناء محطة للطاقة الشمسية في أوغندا، وأعلنت مصر عام 2018 إقرارها تمويل وتنفيذ مشروع إنشاء ثلاث محطات لتوليد الكهرباء في إريتريا، بقدرة 4 ميغاوات، من خلال مؤسسات حكومية وبتكلفة 7 ملايين دولار أمريكي.

كما تعمل الشركة العربية للطاقة المتجددة التابعة للهيئة العربية للتصنيع على إنشاء محطة طاقة شمسية بقدرة 1.5 ميغاوات فى جنوب السودان، وكذلك تدشين محطة طاقة شمسية بقدرة 2 ميغاوات فى الصومال.

كما جرى هذا العام توقيع مذكرة تفاهم بين مصر وجمهورية الكونغو الديمقراطية لمشروع طاقة شمسية بقدرة 50 ميغاوات في مقاطعة لوالابا، في حين سبقه عام 2016 تسلم العربية للتصنيع قطعة أرض لبناء محطتي طاقة شمسية قرب العاصمة كينشاسا بتكلفة 6 ملايين دولار سوف يوفرها الصندوق المصري للتعاون الإفريقي.

ووقع عام 2018 تحالف إيطالي مصري من خلال شركة أوراسكوم المقربة من السلطات على عقد لإنشاء محطة للطاقة الكهرومائية على نهر جيجا في بوروندي، بقدرة إنتاجية تصل إلى 50 ميغاوات بإجمالي قيمة العقد نحو 152 مليون دولار بتمويل من مجموعة البنوك الدولية.

الجيش المصري يتقدم

يمثل نشاط المؤسسة العسكرية المصرية واحداً من أوضح ملامح الاستراتيجية المصرية في إفريقيا.

وقد تجسد ذلك في عقد اتفاقيات عسكرية أمنية في شرق ووسط إفريقيا، حيث شهد شهر مارس/آذار الماضي توقيع اتفاقية عسكرية مصرية سودانية كانت أوضح مفاعيلها مناورات "حماة النيل" التي عقدها الجيشان المصري والسوداني أواخر مايو/أيار الماضي، وصفت بأنها الأضخم وضمت تدريبات لأفرع القوات المسلحة المختلفة براً وبحراً وجواً.

وشهدت الأشهر الأخيرة توقيع العديد من الاتفاقيات العسكرية الأمنية، ففي 26 مايو/أيار وقعت مصر اتفاقية تعاون دفاعي مع كينيا، في محاولة من القاهرة لاستثمار الخلافات الكينية الإثيوبية متعددة الأوجه.

وتم التوقيع على اتفاقيات مماثلة ضمن جولة إفريقية لرئيس أركان الجيش المصري محمد حجازي شملت أيضاً رواندا، حيث عقد مع نظيره الرواندي جان بوسكو كازورا الإجتماع الأول للجنة العسكرية المصرية الرواندية المشتركة، وأكد خلال الاجتماع دعم كل أوجه التعاون مع المؤسسة العسكرية الرواندية.

وسبق ذلك توقيع مصر مع أوغندا في 8 أبريل/نيسان اتفاقية ذات صبغة أمنية "لتبادل المعلومات العسكرية مع مصر" . ووقعت القاهرة مع بوروندي في الشهر نفسه اتفاقية تعاون عسكري، ذكر المتحدث العسكري باسم الجيش المصري تامر الرفاعي أن من بين ما تهدف إليه "تأكيد توافق الرؤى تجاه الموضوعات التي تمس المصالح المشتركة للقوات المسلحة لكلا البلدين".

أما في غرب إفريقيا ومنطقة الساحل فقد نشطت العسكرية المصرية من خلال بوابة "مكافحة الإرهاب"، حيث انتهت مصر من إنشاء " المركز الإقليمي لمكافحة الإرهاب لدول تجمع الساحل والصحراء" منتصف عام 2018، وأوضح المتحدث باسم الجيش المصري أنه تم تزويد المركز بأحدث التقنيات لتحقيق التعاون مع الدول الأعضاء في قضايا "التصدي للإرهاب وتعزيز العلاقات الأمنية والاقتصادية والسياسية".

وشهدت قاعدة محمد نجيب في ديسمبر/كانون الأول 2018 ويونيو/حزيران 2019 تدريبات مشتركة على مكافحة الإرهاب، شارك فيها الجيش المصري مع قوات خاصة من جيوش دول الساحل والصحراء منها توغو والسودان ونيجيريا وبوركينا فاسو .

وعلى مستوى العلاقات الثنائية عززت مصر على سبيل المثال من تعاونها مع نيجيريا، ولا سيما في المجال الأمني ومكافحة الحركات المتطرفة كبوكو حرام الناشطة في أراضي العملاق الإفريقي .

كما اتخذت القاهرة أيضاً خطوات لتعزيز شراكتها مع النيجر، فقام اللواء عباس كامل، رئيس المخابرات العامة المصرية، في مارس/آذار الماضي بزيارة نيامي لاستباق احتمال قيام تركيا ببناء قاعدة عسكرية في البلاد .

طموحات ومعوقات

مثّل سد النهضة ومفاوضاته امتحاناً عسيراً للفكر الاستراتيجي المصري، ويبدو أن القاهرة أدركت معه أنها بحاجة فعلية إلى تولي ملفاتها الخارجية دون الاعتماد على "أصدقاء" زادوا من مكاسبهم على حساب تعريض أمن مصر المائي للخطر.

وبجانب تطورات ملف سد النهضة قرع الصراع الإقليمي والدولي على الساحة الإفريقية، وصعود دور خصوم و"أصدقاء" إقليميين على حساب تراجع حضور ومكاسب مصر في أحد مجالاتها الحيوية، جرس الإنذار في القاهرة وهو ما نشهد استجابته ولو متأخرة بعض الشيء.

غير أن استراتيجية العودة المصرية إلى إفريقيا تواجه ببعض العوائق، منها عجز الاقتصاد المحلي عن تقديم الدعم الضروري لتطوير هذه الاستراتيجية وتقديم المغريات الكافية للدول الإفريقية بشكل ينافس اللاعبين الآخرين الذين تسعى القاهرة إلى مواجهتم.

كذلك تمثل الدعاية الإثيوبية التي تصور القاهرة على أنها "عدو" لتنمية الدول الإفريقية عقبة كبيرة في سبيل بناء قوة ناعمة مصرية في القارة، بجانب الحاجة الماسة إلى فهم الحساسيات الإفريقية من قبل القاهرة، فقد تم تفسير لجوء مصر والسودان إلى الجامعة العربية ومجلس الأمن بالانتقاص من الحلول الإفريقية واستعداء "الآخرين" على الأفارقة، وهو ما استثمرته أديس أبابا في صنع اصطفاف إفريقي خلفها.

TRT عربي