تابعنا
انتشرت ظاهرة التشرد بشكلٍ كبير خلال السنوات الأخيرة بتونس، في الوقت الذي لم تقدّم فيه الجهات المسؤولة أي إحصاءاتٍ رسميةٍ حول عدد المشردين بالبلد. TRT عربي التقت تونسيين يفترشون الأرض ويلتحفون السماء، وسردت قصصهم المؤثرة.

تونس ـــ ألقت به الحياة على قارعة الطرقات، ونسيه الجميع، فظلّ يفترش الأرض ويلتحف السماء مستأنساً بخطوات المارّة التي لا تنقطع إلّا في آخر الليل، ليبدأ يومه عند صلاة الفجر، حين يقُض مضجعه مؤذّن المسجد الذي ينام على عتبته، فيزدحم المصلون وتدبّ الحياة في شوارع العاصمة المكتظّة بالسَّاعين إلى رزقهم باستثنائه.

لم يعد يذكر اسمه، لكنّه يذكر أنّ أطفال الحي القدامى كانوا يلقبونه ‘’Bob Marley’’، حين ظنّوا أنّه فَقَد صوابه، كما أنّه ليس متأكداً إن كان عمره قد جاوز السبعين أو ليس بعد، لكنّه متيقّن أنّه لم يعد في العمر ما يتسع لكي يبذل جهداً في تذكّر الأسباب التي جعلته يتخذ من الشارع مأوى، إذ يقول في حديثه لـTRT عربي، إنّ أفراد عائلته لا يرغبون بوجوده بينهم، وإلاّ لما تركوه يصارع مصيره المجهول وحيداً، لذلك لا يسعى لمعرفة شيءٍ عن ماضيه.

سترته القديمة، وقميصه المتسخ، ووجهه الشاحب الخالي من كلّ مظاهر الحياة، يوحي بأنّه لم يعد يبالي لمظهره، وأنّه اعتاد على حياة التشرّد، فهو يقول: "الشارع بات جنّتي، ولم أعد أحتمل البقاء بين الجدران حتّى أنّني هربت من مأوى العجّز الذي لا أذكر كيف دخلت إليه"، ويشير إلى أنّه يعيش على كرم المارّة وزوّار المسجد، واهتمام بعض الجمعيات القليلة التي لا يذكر اسمها، ولا يعرف عنها سوى المساعدات القليلة التي تجود بها عليه أحياناً.

ظاهرةٌ في تصاعد

في الجهة الأخرى من شارع "الحبيب بورقيبة" الرئيسي للعاصمة تونس، يفترش العم الهادي الذي جاوز الستين من عمره، قطعة كرتون صغيرة بالية، بالكاد تكفيه للجلوس، فهو اضطرّ للتسوّل بعد أن وجد نفسه وحيداً في الشارع، دون مأوى، ولا رفيق، منذ ثلاث سنواتٍ.

في البداية كان متردداً في الحديث حول الأسباب التي ألقت به إلى الشارع، لأنّ مشاكله لن تُحل إذا تحدث إلينا، لكنّه كشف لاحقاً لـTRT عربي، أنّ صعوبة الحياة اضطرّته لبيع منزله، ليعيش متنقلاً من منزلٍ إلى آخر بسبب مشاكل الاستئجار وارتفاع تكلفته، لكنّه وجد نفسه لاحقاً وحيداً، بعد أن تخلّص منه أولاده.

وبالرغم من انتشار هذه الظاهرة خلال السنوات الأخيرة بتونس، فإنّ الجهات المسؤولة لم تقدّم إلى اللّحظة إحصاءاتٍ رسميةٍ حول عدد المشردين، باستثناء تعدادٍ وحيدٍ متاح أجرته جمعية "دار تونس" في نوفمبر 2014، ويشير إلى وجود 3000 متشرّدٍ في كامل محافظات تونس، و500 في العاصمة والمحافظات الأربعة القريبة منها.

وأكدت رئيسة الجمعية روضة السمراني في تصريحها لـTRT عربي، أنّ 30% من المشرّدين من فئة النساء، و70% رجال، وأنّ أصغر شخص وجدوه ملقى تحت جدران إحدى البنايات في محافظة أريانة لم يتجاوز عمره 3 أشهرٍ، فيما كان عمر أكبر مشرّدٍ 81 عاماً.

الأزمات الاجتماعية تفاقم التشرّد

وأرجعت السمراني ارتفاع معدلات المشردين إلى توسع دائرة الفقر في السنوات الأخيرة، إلى جانب المشاكل الاجتماعية التي عانت منها البلاد مؤخّراً، من بينها تدهور الوضع الاقتصادي وارتفاع أسعار الإيجار، والإنجاب خارج إطار الزواج"، لافتةً إلى أنّ أغلبهم يوجدون في محطات النقل والحدائق العامة والمساجد، التي يجدون فيها بديلاً عن السكن الذي افتقدوه.

من جانبه، يرى الباحث في علم الاجتماع ممدوح عز الدين أنّ هذه المسألة كانت من المواضيع المسكوت عنها، والتي لا يسمح النظام بالتكلّم فيها، قبل الثورة، وأنّها كانت تخضع لرقابة صارمةٍ، لذلك تم تداولها بكثرةٍ خلال السنوات التسع الأخيرة، بفضل حرية التعبير، التي اكتسبها المجتمع التونسي، وقد لا يعني ذلك بالضرورة انتشارها، وتحوّلها إلى ظاهرةٍ مخيفةٍ.

ويضيف في حديثه لـTRT عربي، أنّ الدولة عرفت بعد ثورة 14 يناير 2011، حالةً من الانفلات على مستوى العلاقات الاجتماعية، وعلى مستوى التحكم في المؤسسات الحكومية، حتّى أنّها فقدت سيطرتها ومكانتها في حماية الفئات الاجتماعية الهشّة، لذلك لم تعد قادرةً على إنقاذ المشرّدين والاهتمام بهم كما في السابق.

عز الدين أضاف أيضاً أنّ الأزمات التي مرّت بها البلاد التونسية في الأعوام التسعة الأخيرة، من تدهور اقتصادها، وتراجع المقدرة الشرائية، مقابل ارتفاع الأسعار، وارتفاع معدلات البطالة، فضلاً عن أزمة القيم التي عاشها المجتمع، قد ساهمت بشكلٍ أو بآخر في بروز ظواهر جديدةٍ، لها تأثيراتٌ سلبية على وحدة المجتمع، وعلى النسيج الأسري منها التشرّد.

المجتمع المدني يعوّض الدولة

ولمعالجة الظاهرة، بعثت الدولة التونسية 3 مراكز للعناية بهذه الفئة الاجتماعية، تعمل على توفير الإقامة الظرفية، والرعاية الغذائية، والطبية، إلى جانب تقديم الدعم القانوني لدى الهياكل القضائية علاوة على تنظيم أنشطة ترفيهية وثقافية، تتراوح طاقة استيعابها اليومية لمراكز بين 30 و50 شخصاً، غير أنّ جزءاً كبيراً من المشردين لا يتوجهون إليها بسبب عدم معرفتهم بعناوين مقراتها.

ويرى الناشط الحقوقي أحمد قادري أنّ الدولة لم تعطي الأهمية اللازمة لظاهرة التشرّد، التي كانت محدودةً قبل سنواتٍ قليلةٍ، رغم خطورتها، ولم تنجح في استيعاب المشرّدين، بالرغم من أنّ أماكنهم تكون غالباً معلومةً.

وقال قادري في حديثه لـTRT عربي إنّه عاين، صحبة رفاقه، ارتفاع عدد مَن لا مأوى لهم، ومَن يتخذون من محطات الحافلات، وجدران البنايات مأوى لهم، حتّى أنّ بعضهم يقضي ليله أمام مقرّ إحدى المحافظات دون أن تتدخل السلطة المحلية في دراسة وضعيته.

وكان موظفون بمصرفٍ في تونس، قد أطلقوا مبادرةً تحت اسم "رفاق الليل"، من أجل مرافقة المشردين في شوارع العاصمة، وتوفّر المبادرة حسب ما أكده أحد مطلقيها الشاذلي فارح لـTRT عربي، بين 60 و100 وجبة في الليلة الواحدة.

وأضاف فارح أنّ زملاءه المنخرطين في مبادرة الإطعام يتبرعون بمبالغ ماليةٍ شهرية تسمح بتغطية نفقات وجبات الطعام الساخنة، إضافةً إلى ملابس، وأغطية، وشدّد فارح على أنّهم لم يتلقوا مساعدةً حكوميةً، ولا تشجيعاً من الدولة التي تكاد تكون غائبةً في هذا الملف، رغم ارتفاع عدد المشرّدين في تونس.

كما أطلق، في وقتٍ سابقٍ، عددٌ من شباب سيدي بوزيد حملة تطوعٍ تهدف لتنظيف ورعاية من لا مأوى لهم، ولا مأكل، ولا لباس، ولا فراش، ولا رعاية صحية، ومن يفتقرون لأبسط متطلبات الحياة، وقد لقيت الحملة تفاعلاً ايجابياً، من قبل المجتمع والإعلام.

يوجد أغلب متشردي تونس في محطات النقل والحدائق العامة والمساجد، التي يجدون فيها بديلاً عن السكن الذي افتقدوه (TRT Arabi)
يرى مراقبون أن ظاهرة التشرد كانت من المواضيع المسكوت عنها، والتي لا يسمح النظام بالتكلّم فيها، قبل الثورة، وأنّها كانت تخضع لرقابة صارمةٍ (TRT Arabi)
يفترش العم الهادي الذي جاوز الستين من عمره، قطعة كرتون صغيرة بالية، بالكاد تكفيه للجلوس (TRT Arabi)
لم يعد يذكر اسمه، لكنّه يذكر أنّ أطفال الحي القدامى كانوا يلقبونه ‘’Bob Marley’’، حين ظنّوا أنّه فَقَد صوابه (TRT Arabi)
TRT عربي