تابعنا
تُعدّ مدينة رأس العين من المدن التي تحظى بتنوع سكاني معقّد، قائم على أساس عِرقي وديني، إذ يتشكل سكانها من العرب والسريان والأكراد والأرمن والشيشان والتركمان والماردلية، فضلاً عن التنوع الديني مثل المسلمين والمسيحيين والإيزيديين وغيرهم.

شهدت مدينة رأس العين، شمال غربيّ محافظة الحسكة على الحدود التركية-السورية، عمليات تهجير جماعي للمسيحيين، خلال فترة سيطرة تنظيم YPG/PYD الإرهابي عليها.

وفي مطلع عام 2013 بسطت وحدات YPG -التابعة لتنظيم PKK الإرهابي- سيطرتها على مدينة رأس العين السورية، حيث كان يُقيم فيها نحو 400 عائلة مسيحية سورية، يُعدّون أحد أهم المكونات الرئيسية لنسيج المدينة، وفق المعلومات التي حصل عليها مراسل TRT عربي من المجلس المحلي للمدينة.

ولم يتبقَ منهم سوى 40 عائلة قُبيل انطلاق عملية نبع السلام في أكتوبر/تشرين الأول 2019، التي حرّر خلالها الجيش التركي وقوات المعارضة السورية، مناطق واسعة في شمال شرق سوريا من وحدات YPG الإرهابية، وفق أعضاء مجلس المدينة.

تسلسل زمني

منذ بدء الاحتجاجات السلمية في سوريا عام 2011 كانت لمدينة رأس العين مشاركة واضحة، استمرت بسلميّتها حتى 8 نوفمبر/تشرين الثاني 2012، عندما توجهت أنظار القوى العسكرية المتصارعة إليها، لتدخل المدينة في نزاع مسلح على ثلاث مراحل تخللتها هدنتان لوقف إطلاق النار.

كانت المرحلة الأولى ذات شقين؛ الأول بين الجيش السوري الحر وقوات النظام السوري، حيث تمكن الجيش الحر في 15 نوفمبر من طرد آخر جندي للنظام، ليبدأ الشق الآخر من المرحلة الأولى عندما اعتدى تنظيم PYD الإرهابي على نقاط حراسة تابعة للجيش الحر قابلها رد عنيف أدى إلى اندلاع اشتباكات بين الجانبين.

ولم يستمر الاتفاق طويلاً حتى انهار، وذلك بعد ادّعاء تنظيم PYD الإرهابي أنّ قوة من العشائر تسعى للسيطرة التامة على مدينة رأس العين لتعود الاشتباكات بمرحلتها الثانية في 17 يناير/كانون الثاني حتى 19 فبراير/ شباط من 2013، عندما شكلت المعارضة وفداً بقيادة المعارض الراحل ميشيل كيلو للتفاوض مع التنظيم الإرهابي.

وفي 23 فبراير 2013 عادت الاشتباكات بين المعارضة وPYD الإرهابي واستمرت حتى منتصف يوليو/تموز من العام ذاته عندما قرر النظام السوري مساندة التنظيم الإرهابي بـ200 مقاتل، لتنتهي المعركة بسيطرة الأخير على المدينة حتى أكتوبر/تشرين الأول 2019 عندما طهّر الجيش التركي المدينة من سطوة الإرهاب بالتعاون مع المعارضة السورية.

تعايش مدمَّر

وتُعدّ مدينة رأس العين من المدن التي تحظى بتنوع سكاني معقّد، قائم على أساس عِرقي وديني، إذ يتشكل سكانها من العرب والسريان والأكراد والأرمن والشيشان والتركمان والماردلية، فضلاً عن التنوع الديني مثل المسلمين والمسيحيين والإيزيديين وغيرهم.

وحول ذلك يقول نائب رئيس المجلس المحلي لمدينة رأس العين حسين الرعاد، إنّ "ما يُميز مدينة رأس العين هو التعايش التاريخي بين مكوناتها الاجتماعية على اختلاف أعراقهم وأديانهم".

ويضيف لـTRT عربي، أنّ "التقاليد الاجتماعية في الأفراح والأتراح والأنشطة التجارية والتعاملات كانت قائمة على هذا التنوع، إضافةً إلى أنّ شكل العلاقة بين تلك المكونات كان مميزاً، فهي تنصهر في الإطار العام، مع المحافظة على خصوصية كل مكون؛ الثقافية والعرقية والدينية".

ويلفت الرعاد إلى أنّ "العائلات المسيحية التي كانت مكوناً رئيسياً من مكونات مدينة رأس العين، تعرّضت لكثير من الانتهاكات والضغوط من ميليشيا PYD أدت إلى تهجيرهم، فالقسم الأقل هاجر إلى المناطق الداخلية السورية، فيما هاجر القسم الأكبر منهم إلى دول أوروبا".

ناقوس كنيسة "مريم المجدلية" للسريان الكاثوليك بعد إعادة صيانته في مدينة رأس العين بسوريا (TRT Arabi)

"تهجير مُمنهَج"

من جانبه يقول أبو جورج -وهو أحد المسيحيين الذين فضّلوا البقاء في المدينة- إنّ أسباب الهجرة كثيرة؛ منها التجنيد الإجباري الذي فرضه تنظيم PYD الإرهابي على الجميع، خصوصاً على الأطفال، بالإضافة إلى تحريض قوات "السوتورو"، وهي قوة شرطة مسيحية آشورية سريانية انضمت إلى PYD الإرهابي، وبدأت بفرض إتاوات وعمليات تجنيد إجباري بحق أبناء جلدتهم من المسيحيين.

ويؤكد أبو جورج -الذي فضل عدم ذكر اسمه خوفاً من اضطهاد التنظيم الإرهابي أقاربه المقيمين في مناطق سيطرتهم- أنّ "العوامل السابقة كانت سبباً لهجرة المسيحيين"، وأنّ السبب الأكثر أهمية هو "قانون حماية وإدارة أملاك الغائب".

ويرى أبو جورج أنّ ما حدث للمسيحيين في رأس العين هي "عمليات تهجير ممنهجة سعى إليها تنظيم PYD الإرهابي، ومخطط نفّذته على مرأى الولايات المتحدة الأمريكية، دون أن تسعى الأخيرة لحماية المسيحيين أو التدخل لوقف هذا الانتهاك".

قانون مجحف

واستنسخ تنظيم PYD الإرهابي القانون نفسه الذي سنَّته إسرائيل عام 1950، واستولت من خلاله على آلاف المنازل والعقارات وملايين الدونمات من خلال تحويل ملكية أملاك المهجرين إلى ملكية "القيم"، إذ إنّ هذا القانون يسمح للسلطات بأن تصادر أملاك الذي تركوا أرضهم وممتلكاتهم خوفاً من الحرب، حتى ولو غابوا عنها بضع ساعات وانتقلوا إلى قرية مجاورة.

وبناءً على هذا القانون، استطاعت إسرائيل أن تحقق نتائج كبيرة على صعيد الاستيطان، وظهر موقفها المعارض لعودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم وممتلكاتهم، وهذا بالضبط ما فعله تنظيم PYD الإرهابي مع مسيحيي رأس العين.

ويقول المحامي أنطون جبرائيل في بحث أعدّه لمجلة "قلمون" الصادرة عن مركز "حرمون" للدراسات، إنّ "الجهة المصدّرة لهذا القانون المجحف نسفت مبدأ استقرار التعامل بين العباد، ومبدأ عدم رجعية الأثر القانوني، وألحقت أفدح الأضرار بأشخاص أبرياء لم يرتكبوا أي ذنب".

ووفق بحث مجلة "قلمون"، فالقانون نصّ في المادة (19) على استثناء المغتربين من المكوّن المسيحي من تطبيق أحكامه، وتحديد طريقة مختلفة لإدارة أملاكهم، في تمييزٍ سافرٍ بين المواطنين، مما يجعله "قانوناً عنصرياً قائماً على التمييز الإثنيّ والدينيّ".

كنيسة مريم المجدلية للسريان الكاثوليك من الداخل بعد إعادة إصلاحها وعودة المسيحيين لممارسة طقوسهم فيها - رأس العين/سوريا (TRT Arabi)

الموقف الأمريكي

ومنذ مطلع عام 2013 حتى بدء عملية "نبع السلام" في 2019 لم تتدخل الولايات المتحدة الأمريكية لوقف عمليات تهجير المسيحيين، ولم تُبادر إلى حمايتهم، واتخذت سياسة النأي بالنفس عن كل ما يجري في المنطقة.

يشار إلى أنّ الولايات المتحدة الأمريكية تدعم SDF الإرهابية، التي يعد تنظيم YPG الإرهابي المُشكّل الأساسي لها.

وفي هذا الصدد، يرى الباحث في شؤون المنطقة الشرقية، سعد الشارع، أنّ هذه العلاقة لا تتعدى السياق العسكري؛ فأي محاولة لتأهيل الإدارة الذاتية ستقابَل برفضٍ مجتمعي كبير فضلاً عن الرفض الإقليمي، وبالتالي فإنّ واشنطن لن تُخاطر في العلاقة المهمة لها مع تركيا من أجل تأهيل ميليشيات إرهابية.

ويضيف لـTRT عربي، أنّ "بلدة رأس العين لها خصوصية معيّنة؛ لوقوعها مباشرةً على الحدود السورية-التركية"، متوقعاً أنّه بسبب ذلك لم يكُن هناك اهتمام ملحوظ من واشنطن بهذه المدينة أو بالمكون المسيحي الموجود فيها.

ويستدرك بالقول: "لكن من جهة ثانية، ربّما يُفهم أنّ الدعم الأمريكي للمكون المسيحي في عموم هذه المنطقة وليس بجزئية رأس العين، جاء عبر دعمهم لما تُعرف بقوات السوتورو المنضوية تحت عباءة SDF".

بدوره، يقول الباحث في مركز "جسور" للدراسات، وائل علوان، إنّ "الجيش الوطني التابع للمعارضة (السورية) كان حريصاً على إيصال رسائل أمان لجميع السكان المحليين في رأس العين بمختلف انتماءاتهم الدينية والإثنية".

ورأى علوان -خلال حديثه مع TRT عربي- أنّ "الهدف الرئيسي للجيش الوطني وللقوات التركية هو تأمين مناطق مستقرة أمنياً توقِف تدفق اللاجئين إلى دول الجوار وتمنع التغيير الديمغرافي الذي يسعى إليه PYD الإرهابي، على عكس الممارسات التي كان يقوم بها تنظيم YPG الإرهابي، والتي كانت تتعمّد تهجير أبناء المنطقة، دون تدخلات من القوات الأمريكية الداعمة لتوقِفها عن هذه الممارسات".

ما بعد التحرير

وتفرض الاحتلالات ما قد لا يُطيقه أهالي أي منطقة، وهذا ما حدث بالضبط مع أبناء مدينة رأس العين بشكل عام، ومع مسيحييها بشكل خاص، لذلك كان لا بدّ من اتخاذ إجراءات كثيرة لاستعادة الحياة فيها وخلق حالة من الاستقرار.

ويقول قائد فرقة "السلطان مراد" التابعة لـ"الجيش الوطني السوري" فهيم عيسى، إنّ من أولوياتهم في منطقة عملية نبع السلام "إعادة الاطمئنان للناس"، من خلال إعادة أملاكهم المسلوبة من تنظيم YPG/PYD الإرهابي.

ويلفت في حديثه مع TRT عربي، إلى أنّ "الحياة بدأت تعود تدريجياً إلى مدينة رأس العين، وأُعيد تأهيل المساجد والكنائس والمدارس والمشافي التي كان بعضها يُستخدم قواعد عسكرية لإرهابيي PYD/YPG".

ويشير عيسى إلى أنّ هدف الوجود العسكري حالياً هو حماية حدود المنطقة، بالإضافة إلى حماية المؤسسات المدنية، وتوفير بيئة آمنة، حتى تتمكن الإدارة المدنية من القيام بواجباتها.

بدوره يؤكّد مدير لجنة إدارة أملاك المسيحيين الغائبين في رأس العين، نعوم ملكي، أنّ أملاك المسيحيين عادت إلى مالكيها الأصليين، وتدير أملاك الغائبين منهم لجنة مؤتمَنة على أملاكهم دون أي تدخلٍ من القوى العسكرية المحليّة.

مدرسة وكنيسة "آكوب" للأرمن الأرثذوكس بعد ترميمها في مدينة رأس العين (TRT Arabi)

ويضيف لـTRT عربي، أنّ جميع أملاك الغائبين ومصالحهم الزراعية والتجارية "تُستثمر بالشكل الأمثل ويُسلَّمون عائداتها المالية دون أي عوائق"، فضلاً عن حماية مصالح مَن تبقى في مدينة رأس العين من القوى العسكرية التابعة للجيش الحر.

وحول الحياة الاجتماعية، يقول ملكي إنّ العمل على تأهيل الكنائس شارف على الانتهاء، وهذا بالتعاون مع الجانب التركي الذي أولى هذا الملف أهمية خاصة، فضلاً عن تأمين الأجواء المناسبة لممارسة المسيحيين طقوسهم وثقافتهم الدينية والاجتماعية بكل حريّة.

عوائق العودة

وهناك أسباب أخرى وراء عدم عودة المسيحيين، منها ما يتعلق بطبيعة المنطقة، وأخرى تتعلق بالاستقرار الذي تعيشه العائلات المهجَّرة، وفق المحامي إبراهيم ملكي الذي يقيم في السويد منذ عام 2015.

ويؤكد لـTRT عربي أنّ جزءاً من المسيحيين المهجرين يريدون العودة إلى مسقط رأسهم، لكن ما زالوا يرون أنّ الحوكمة في رأس العين لم تكتمل بعد.

ويضيف إبراهيم أنّ كثيراً من العائلات سيُتمّون نحو عشر سنوات في المناطق التي هُجّروا إليها، وأسسوا حياة جديدة فيها، وهذا شكَّل لهم استقراراً، وأصبح من الصعب عليهم البدء بتأسيس حياة جديدة.

ويبقى ملف مدينة رأس العين أحد أكثر الملفات المعقدة؛ نظراً لتنوعها الإثنيّ والدينيّ، وبالتالي يحتاج إلى تعاملٍ من نوع خاص يضمن حصول جميع مكوناتها على حقوقهم الثقافية والاجتماعية والدينية، وهذا ما تسعى جميع القوى المحلية إلى تحقيقه.

TRT عربي