تابعنا
مثلت "ثورة ديسمبر" التي انطلقت عام 2018 ضد حكم الرئيس السابق عمر البشير منعطفاً في العلاقة بين الخرطوم والعواصم الغربية بعد سنوات طويلة من القطيعة والعداء، إذ بدت واشنطن وحليفاتها الغربيات أكبر الداعمين لمعسكر القوى المدنية مقابل المكون العسكري.

مثلت "ثورة ديسمبر" التي انطلقت عام 2018 ضد حكم الرئيس السابق عمر البشير منعطفاً في العلاقة بين الخرطوم والعواصم الغربية بعد سنوات طويلة من القطيعة والعداء، إذ بدت واشنطن وحليفاتها الغربيات أكبر الداعمين لمعسكر القوى المدنية مقابل المكون العسكري.

غير أن انهيار العملية السياسية واندلاع اشتباكات تنذر بالاتساع بين كل من قوات الدعم السريع والجيش السوداني وضعت أدوار القوى الخارجية الفاعلة في المرحلة الانتقالية في السودان تحت مجهر البحث والتساؤل: كيف وصلت الأمور إلى هنا؟!

مقاربة غربية مرتبكة

بعد "الثورة" أصبحت الساحة السياسية في البلاد ملعباً لعديد من القوى الدولية والإقليمية، وبرز الدور الغربي على أكثر من صعيد، لكن المقاربة الغربية تجاه السودان كانت، وفقاً لمحمد تورشين، الباحث السوداني المختص في الشؤون الإفريقية، "سبباً من أسباب الأزمة الآن وتعقيد المشهد السياسي".

ويمضي تورشين مفسراً ذلك بعدم ضغط القوى الغربية على الأطراف المدنية لكي تكون الفترة الانتقالية محدودة في عامين، تليها انتخابات، "إذ إن كل التطورات التي حدثت كانت نتيجة الفترة الانتقالية الطويلة، وسعي الأحزاب التي شاركت فيها "لتحقيق مغانم".

من جانبه يصف الدكتور محمد خليفة الصديق، أستاذ العلوم السياسية في جامعة إفريقيا العالمية بالخرطوم، المقاربة الغربية في التعامل مع السودان بأنها "مرتبكة".

مضيفاً في تصريح لـTRT عربي أن هذا الارتباك سمة ملازمة للسياسة الأمريكية تجاه الخرطوم، "فواشنطن منذ السبعينيات حتى سقوط نظام الإنقاذ ظلت علاقتها مع السودان مرتبكة لا تدري ما الذي تريده على وجه التحديد من السودان".

ويربط الصديق هذا الارتباك بأن "كل رئيس أمريكي كان عنده رؤية خاصة، كما أن الملف السوداني تداولته مجموعات مختلفة داخل الإدارات الأمريكية وكل منها كان لها رؤيتها، وكذلك كل مبعوث أمريكي للقرن الإفريقي كانت له رؤية مختلفة، فالقادم من المؤسسة العسكرية تختلف مقاربته عن القادم من مؤسسة دبلوماسية، وهكذا".

ويوضح الصديق أن الغرب رغم عمله المستمر وتنسيقه مع حلفائه في المنطقة لإسقاط نظام الإنقاذ (نظام البشير) فإنه لم يكن يمتلك خطة واضحة لما بعد ذلك، وذلك يظهر في ملفات مختلفة، منها مسألة ديون السودان.

ويذهب الصديق إلى أن غياب الرؤية الواضحة يمكن ملاحظته بوضوح في رفع اسم السودان من قائمة الإرهاب الذي جاء بعد مخاض طويل ودفع أموال طائلة، وتوريط السودان في قضية المدمرة كول، التي يرى أن السودان "ليس له علاقة بها"، واضطراره إلى دفع تعويضات بلغت 350 مليون دولار وهو يعاني من مشكلات اقتصادية جمة، "ما كان مثار سخرية حتى لبعض أعضاء الكونغرس"، وفق تعبيره.

وفي فبراير/شباط 2020 وافق السودان على دفع تعويضات لأُسَر ضحايا البحارة الأمريكيين الذين قُتلوا في هجوم نفذه تنظيم القاعدة على المدمرة الأمريكية كول في خليج عدن عام 2000، وهدفت الموافقة السودانية إلى استيفاء الشروط التي وضعتها الإدارة الأمريكية لحذف السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب، في حين يرجع مراقبون الضغوط الأمريكية في هذا الملف وربط الحذف من القائمة بالتطبيع مع إسرائيل إلى رغبة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب في تحقيق مكاسب دعائية في عام انتخابي.

ويعزو الصديق هذا السلوك الأمريكي إلى أن "السودان ليس من أولويات السياسة الغربية في المنطقة، قد يكون من الأولويات المتوسطة، وثمة معلومات أن سر اهتمام الغرب بالسودان نابع من الموقع الجيوستراتيجي للسودان، وأن ما يحدث فيه يؤثر في المنطقة التي تعاني أصلاً من الهشاشة، ولذلك فإنه يحاول الحفاظ على السودان في حالة من الضعف على أساس استمراريته بهذا الشكل دون أن يتفكك أو أن يتحول إلى بؤرة فوضى، لأن تأثيرات ذلك في محيطه ستربك الحسابات الأمريكية في المنطقة ككل".

هل كان بالإمكان أفضل ممّا كان؟

وفي ما يتعلق بأدوات الضغط التي استخدمتها القوى الغربية للدفع نحو تحول ديمقراطي في السودان، يرى محمد خليفة الصديق أن أبرز هذه الأدوات تمثل في "التلويح بحل ديون السودان والتلويح بأن الانتقال الديمقراطي سيجعل السودان جنة الأرض وتتدفق عليه المعونات، وكانت كلها وعوداً لم يجنِ السودان منها أي شيء، لا على مستوى المانحين ولا على مستوى إعفاء الديون".

ويكمل الصديق قائلاً: "رفع السودان من قائمة الإرهاب لم يتجاوز الفائدة المعنوية، إذ لم يترتب عليه دخول استثمارات مثلاً، حتى إن 750 مليون دولار كان يفترض أن تتدفق بعد الرفع، جاء انقلاب البرهان وعطلها".

ويعتقد أن هذه الأموال في حال قُدمت "فما كانت ستتجه إلى خزينة الدولة السودانية، ولكن إلى المنظمات المدنية المعروفة بنشاطها في قضايا الجندر والتجهيز للانتخابات والانتقال الديمقراطي والأشياء التي تهتم بها الولايات المتحدة".

ويرى الصديق أن مجيء السفير الأمريكي إلى الخرطوم عُدَّ "خطوة إيجابية وكبيرة كان من الممكن أن يكون لها ما بعدها، لكن مع اندلاع الاشتباكات الأخيرة أجْلته الولايات المتحدة مع رعاياها مباشرة"، وهو ما يتناقض مع تأكيدات أمريكية سابقة بعدم ضرورة الإجلاء، وهو ما يعزز "سيادة الارتباك في الرؤية الأمريكية للأزمة"، وفق تعبيره.

وهذا ما يوافقه فيه محمد تورشين، مبيناً أنه "كان يمكن الوصول إلى نتيجة أفضل من خلال وضع مسار واضح منذ البدء في ما يتعلق بإدماج الدعم السريع في مؤسسات الدولة، وأن تجري إصلاحات هيكلية في هيكل الدولة السودانية خلال عامي الفترة الانتقالية، ويجري تأكيد مبدأ أن "الديمقراطية لا يمكن الوصول إليها بشكلها الكامل المتكامل في فترة محدودة، وإنما هي عملية تتطور مع مرور الوقت وكثرة الممارسات، حتى الوصول إلى نموذج مستدام يحقق تطلعات الشعب السوداني".

لكن ما حدث، وفقاً لتورشين، أن عدم رغبة الولايات المتحدة في دعم هذه العملية كان نتيجة عدد من الأسباب، منها وجود أولويات أخرى تهم واشنطن، وهو ما جعل مواقف كثير من الدول الغربية تنحو إلى تفضيل "أن يكون النظام في السودان مستقراً بقدر الإمكان، ديمقراطياً كان أو غير ذلك".

إنقاذ ما يمكن إنقاذه

مع بدء الاشتباكات بين قوات الدعم السريع والجيش السوداني في 15 أبريل/نيسان تسارعت عواصم مختلفة، داعية إلى وقف القتال والعودة إلى العملية السياسية، في حين بدا نشاط أمريكي لمحاولة إعادة عقارب الساعة إلى ما قبل لحظة الانفجار.

المساهمة الغربية في وقف التدهور الحالي يمكن أن تكون، وفقاً لتصريح محمد تورشين لـTRT عربي، من خلال الضغط على بعض الأطراف، كالمبادرة الأمريكية بدعم الدور السعودي أو دعم منظمة الإيقاد والدور الكيني، "فعلى واشنطن أن تستغل كل نفوذها في التأثير في أطراف إقليمية مهمة جداً تسهم في تقريب وجهات النظر وصياغة تسوية، رغم أن الوصول إلى التسوية وفق الظروف الحالية يبدو متعذراً".

في نفس السياق يرى الدكتور محمد خليفة الصديق أن دور الغرب كان من المفترض أن ينشط قبل اندلاع الأزمة، أما الآن فمن الممكن أن تتخذ القوى الغربية مجموعة من الخطوات لإنقاذ الوضع، منها على سبيل المثال "ممارسة ضغوط بكل الأدوات المتاحة لديها، إن كان في مجلس الأمن الدولي أو الأمم المتحدة لمساندة الدولة في قمع التمرد، كما أن الحديث عن أي تفاوض الآن غير ممكن لأن الدعم السريع صدر قرار بحله".

ويرى الصديق أيضاً أن القوى الغربية وغيرها قادرة على الوقوف بجانب السودان على المستوى الإنساني عن طريق تقديم الدعم الإغاثي والإنساني عبر مطار وميناء بورتسودان، "بدل إرسال الطائرات والبواخر الفارغة فقط لإجلاء الرعايا".

ويختم الصديق بأن "الغرب يجب أن يدعم الدولة التي يمثلها الجيش الآن، وبعد ذلك من الممكن أن يدفع نحو عملية سياسية تقوم على الأحزاب الموجودة والمعروفة، سواء من داعمي الاتفاق الإطاري أو الكتلة الديمقراطية، وإعلان رئيس وزراء متفق عليه، وعقد مؤتمرات لإعادة بناء ما دمرته الحرب.. ما يمثل إشارة إيجابية داعمة للسودان" واستقراره.

TRT عربي