تابعنا
أصبح تطوير "الاقتصاد غير النقدي" أحد الرهانات الكبرى لجميع الدول، فلم يعد يقتصر اليوم على البلدان المتطورة إنما صار مشروعاً في عدة مناطق من العالم منها الشرق الأوسط وأفريقيا.

تعزز الصين في السنوات الأخيرة تفوقها في مجال الاقتصاد غير النقدي الذي أظهرت فيه تقدماً على عديد من الدول، بما فيها الولايات المتحدة الأمريكية، وهو ما جعل بعض المتابعين يعتقدون أن أكبر تهديد يتعرض له النظام المالي العالمي الحالي الذي تتحكم فيه واشنطن يتمثل في توسع الاقتصاد غير النقدي للصين.

مفهوم جديد

أصبح تطوير "الاقتصاد غير النقدي" أحد الرهانات الكبرى لجميع الدول، فلم يعد يقتصر اليوم على البلدان المتطورة إنما صار مشروعاً في عدة مناطق من العالم منها الشرق الأوسط وأفريقيا.

وقال أستاذ الاقتصاد بجامعة المدية بالجزائر الدكتور عمر هارون لـ"TRT عربي" إن مصطلح الاقتصاد غير النقدي كان يقصد به سابقاً التعاملات التي تجري دون نقود باعتماد منطق المقايضة والتبادل.

وحسب موقع لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا، فإنه إلى الآن لم توفر الهيئة الأممية أي تعريف لمصطلح " الاقتصاد غير النقدي".

لكن عدة مقالات حديثة لمختصين عرّفت مصطلح "الاقتصاد غير النقدي" بالتعاملات الاقتصادية التي تجري رقمياً من خلال تحويل الأموال عبر تطبيقات وهواتف ذكية، بالاعتماد على التكنولوجيا والعملات الرقمية، والناتجة حسب مارتن تشورزيمبا الباحث بمعهد بيترسون للاقتصاد الدولي عن "الثورة غير النقدية".

وحسب تعبيره يشير الاقتصاد غير النقدي إلى الاقتصاد الذي تحل فيه المعاملات الرقمية مثل الخدمات المصرفية الصافية والخدمات المصرفية التي تجري عبر الهاتف المحمول والتطبيقات الرقمية ومدفوعات بطاقات الائتمان محل طرق الدفع التقليدية مثل النقود أو العملات المعدنية.

وأوضح الخبير الاقتصادي محمد سالم في حديثه مع "TRT عربي" أن الاقتصاد غير النقدي يختلف عن الاقتصاد النقدي كون التبادل بين الأفراد والمؤسسات يجري باستخدام العملات الرقمية والمحافظ الالكترونية من خلال الهواتف النقالة، إضافة إلى عدم حاجته إلى الاعتماد على نظام مالي مركزي، عكس الاقتصاد النقدي الذي يتطلب نظاماً مالياً مركزياً يحدد قيمة النقود ويتحكم في تداولها.

وقال الباحث الاقتصادي سمير رؤوف لـ"TRT عربي" إن بدايات الاقتصاد غير النقدي كانت عام 1998 عندما انتشرت في الولايات المتحدة ظاهرة العمل المنزلي واقتصاد الخدمات الذي انطلق بالرعاية المنزلية وقتها ليتشكل في الوقت الحالي في التكنولوجيا المالية التي من بين أوجهها العملات الرقمية.

تقدم صيني

يكشف الباحث بمعهد بيترسون للاقتصاد الدولي مارتن تشورزيمبا في كتابه " The Cashless Revolution: China’s Reinvention of Money and the End of America’s Domination of Finance and Technology" (الثورة غير النقدية: الصين تعيد اختراع النقود ونهاية هيمنة أمريكا على المال والتكنولوجيا) الذي صدر في أكتوبر/تشرين الأول الماضي أن بكين حققت في السنوات الماضية تقدماً لافتاً في مجال الاقتصاد غير النقدي.

ويقول تشورزيمبا في أحد مقالاته لما زار الصين في 2017 " كنت أبحث بشكل جنوني عن أحد الصرافات الآلية للحصول على النقود، في حين كان أصدقائي يستخدمون أحد التطبيقين (أليباي) أو (وي تشات) على هواتفهم الذكية لكي يتقاسموا فواتير المطاعم".

مضيفاً: "في 2017 بمساعدة تطبيق (أليباي) ركبت دراجة هوائية مشتركة مكنتني من الوصول إلى الاجتماع في وقت مبكر، ودفعت ثمن العشاء عن طريق المسح الضوئي لرمز الاستجابة السريع "code QR"، ثم طلبت الحصول على أول رحلة تشاركية لي باستخدام "Didi"، وكل ذلك من هذا التطبيق، إن تطبيقَي (أليباي) و(وي تشات) غيّرا أسلوب الحياة المالية لدى كثيرين".

وأضاف: "أما في الولايات المتحدة، فإن الناس يدفعون بشكل شامل باستخدام البطاقات الائتمانية ويكتبون مليارات من الشيكات الورقية".

ويرجع الكاتب التفوق الصيني إلى أن بكين كانت جاهزة إلى إحداث ثورة في أساليب الدفع بسبب عدم توافر البدائل عند إطلاق تطبيق "أليباي" في 2004 بسب تهالك البنوك الحكومية، إضافة إلى أن الصينيين وإن لم يأتوا بابتكارات لم تكن موجودة في دول أخرى، فإنهم أجروا تعديلات واستخدامات أكثر نجاحاً للابتكارات والنماذج التكنولوجية التي تنسب إلى آخرين، إضافة إلى أن الحكومة في الصين منحت الشركات التكنولوجية العملاقة الكبرى مجالاً كبيراً للابتكار أكثر مما يسمح به المشرعون الأمريكيون، إذ سمحت للشركات التكنولوجية غير الخاضعة للتنظيم بدخول فضاءات كانت ممنوعة على أي جهة لا تحمل رخصة مالية، فيما يجبر المشرع الأمريكي شركات التكنولوجيا المالية الناشئة على التقيد بكامل القواعد التقليدية.

ويلفت الدكتور عمر هارون إلى أن القوانين المشددة الأمريكية أفشلت مشروع العملة الرقمية لفيسبوك، من خلال الاتهامات التي وجهت إلى مالكه مارك زوكربيرغ في عهد الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب.

وأشار الخبير الاقتصادي محمد سالم في حديثه مع "TRT عربي إلى أن "تفوق الصين في مجال الاقتصاد غير النقدي يمكن أن يترجم في حجم التجارة الإلكترونية التي وصلت نهاية 2021 إلى 1543 مليار دولار، فيما لم تتعد بالولايات المتحدة الأمريكية خلال الفترة ذاتها مبلغ 794.5 مليار دولار".

أما الباحث الاقتصادي سمير رؤوف، فيرى أن بروز الصين منافساً للولايات المتحدة الأمريكية في مجال التقنيات الرقمية أصبح ظاهراً للجميع، بل إنها قد تسيطر خلال سنوات على جزء كبير من التكنولوجيا المالية الحديثة والتحكم بها، من خلال مجال الأقمار الصناعية والتقدم الذي حققته شركة هواوي في تكنولوجيا الجيل الخامس، والتي تتوجه اليوم إلى تكنولوجيا الجيل السادس.

وحذر تقرير لمعهد "جيتستون" الأمريكي صادر في 2021 من عمل الصين على اتخاذ خطوات عديدة لحسم حربها في مجال التكنولوجيا.

وأعلن رئيس مجلس الدولة الصيني "لي كه تشيانج" خلال الاجتماع السنوي لمجلس الشعب الصيني، في 5 مارس/آذار 2021، الخطة الخماسية الرابعة عشر، التي تضمنت زيادة الإنفاق بنسبة 7% سنويّاً لتحقيق إنجازات كبرى في مجالات التكنولوجيا الرائدة، إذ تخصص الدولة موارد للذكاء الصناعي والمعلومات الكمية وأشباه الموصلات، وعلم الدماغ وعلم الجينوم والتكنولوجيا الحيوية والطب السريري والصحة والفضاء العميق والبحار والأرض العميقة.

وأطلقت البنك المركزي الصيني في يناير/كانون الأول 2022 نسخة تجريبية من تطبيق المحفظة "اليوان الرقمي"، في محاولة لتوسيع استخدامه ليشمل مزيداً من الأشخاص.

واليوان الرقمي هو نسخة رقمية من العملة الوطنية في الصين وهو قيد العمل منذ عام 2014، ولا يشبه العملات المشفرة مثل "بيتكوين"، ويصدره ويتحكم فيه البنك المركزي.

وكانت الحكومة الصينية وقفت في سبتمبر/أيلول 2021 تصنيع العملات المشفرة بالبلاد، والذي قد يكون سببه إعطاء فرصة لتقوية العملة الوطنية الرقمية، إذ إن بكين تستعد لإعادة تصنيع العملات المشفرة داخل حدودها هذا العام، وفق ما كشفه مؤسس شركة ترون "جاستن صن" شهر يناير الماضي الذي قال في تغريدة إن بكين تستعد للعودة إلى صناعة العملات الرقمية من خلال فرض ضريبة على معاملات التشفير.

وقبل قرار 2021، كانت الإحصاءات تشير إلى أن الصين تمثل ما يقرب من 65% من جميع عمليات تعدين البتكوين في العالم، وتستحوذ منغوليا الداخلية على نحو 8% من المعدل الوطني بسبب الأسعار الرخيصة للكهرباء.

تهديد وشيك

جعلت الخطوات التي بلغتها الصين في مجال الاقتصاد غير النقدي المختصين يطرحون سؤالاً واحداً هو هل يشكل هذا الواقع تهديداً للنظام المالي العالمي الذي تتحكم فيه الولايات المتحدة من خلال الدولار الأمريكي الذي ترتبط عدة عملات واقتصاديات في العالم به؟

وهنا يجيب الدكتور عمر هارون أن العملات الرقمية بما فيها "اليوان الرقمي" الصيني غير قادرة اليوم على التخلص من هيمنة النقود التقليدية، وإزاحة دور الدولار الأمريكي، مضيفاً في حديثه مع TRT عربي أنه " كان من الممكن للعملة التي أطلقها فيسبوك أن تؤثر في تحكم الدولار في النظام المالي العالمي، لكن فشل المشروع أنهى هذا الاحتمال".

وبيّن عمر هارون أن هذا الخوف نفسه هو الذي يجعل الإدارة الأمريكية تحاول بكل الطرق تحطيم تطبيق "تيك توك" خشية أن يسعى لتكرار تجربة فيسبوك، إضافة إلى القرارات ضد شركة هواوي والصراع القائم على تايوان كونها أحد أهم المناطق في العالم إنتاجاً للرقائق الالكترونية.

كما يرى محمد سالم أن "الاقتصاد غير النقدي لا يشكل حتى اليوم تهديداً للاقتصاد الأمريكي، رغم إمكانية مواجهة واشنطن بعض التحديات مثل التحول إلى الاقتصاد الرقمي والعمل بالعملات المشفرة وغيرها، بالنظر إلى قدرة الولايات المتحدة على التكيف مع هذه التحديات والاستفادة من الفرص الاقتصادية الجديدة التي يوفرها الاقتصاد غير النقدي"،

مبيناً أن توجه "النظام المالي العالمي نحو الرقمنة لا يعني بالضرورة التخلص نهائياً من الاقتصاد التقليدي، إنما يعني فقط زيادة حجم التعاملات غير النقدية".

أما الباحث الاقتصادي سمير رؤوف فيعتقد أن التكنولوجيات الحديثة استطاعت على الأقل إحداث خلل في نظريات آدام سميث التي بني عليها النظام المالي الحالي، إضافة إلى أن الظروف الحالية تشير إلى أن العالم في مرحلة التخلص من نظام القطبية الواحدة، بتشكل قطبية ثانية تقودها مجموعة بريكس بقيادة الصين لمنافسة واشنطن.

ويعتقد الدكتور عمر هارون أن "دول مجموعة بريكس التي تمثل اليوم أكثر من 40% من الاقتصاد العالمي إذا مضت في مشروع التعامل بعملاتها المحلية ستكون قادرة على التسبب بأثر محطم في الدولار الأمريكي".

وأشار هارون إلى أن نجاعة الاستراتيجية الصينية تمكن في أنها "استراتيجية غير صدامية أو مهيمنة مثل نظيرتها الأمريكية، بل هي استراتيجية توسعية مبنية على الانتشار وبناء علاقات وشراكات مع دول أخرى، تتجلى اليوم من خلال مجموعة بريكس التي تنوي عدة دول الانضمام إليها".

ومن هنا، كما يضيف "باشرت هذه الدول تحسين أدائها في مجال الاقتصاد غير النقدي مثل السعودية والجزائر التي ستطرح هذا العام مشروع عملتها الوطنية الرقمية بما أن هذا الجانب من الشروط اللازمة للانضمام إلى بريكس".

TRT عربي