تابعنا
بالنظر إلى دول بريكس وما حققته من زيادة في الناتج المحلي الإجمالي عبر السنوات، نجد أنّ الصين كانت دائماً أكبر اقتصاد في هذا التجمع والأسرع نمواً بين بلدان بريكس الأخرى، وقد جعلها نموها السريع ثاني أكبر اقتصاد في العالم بعد الولايات المتحدة.

كثُر الحديث والجدل حول تجمُّع بريكس (BRICS) في الآونة الأخيرة، لا سيّما بعد انضمام ست دول إليه، ثلاث منها دول عربية هي السعودية والإمارات ومصر، بجانب الأرجنتين وإثيوبيا وإيران، وأُثيرت التساؤلات عن مدى النفع الذي ستحصل عليه تلك الدول.

ويُعتبر انضمام أعضاء جُدد إلى تجمُّع بريكس، الذي يشكل 31% من حجم الاقتصاد العالمي وأكثر من 40% من سكان العالم، تطوّراً هامّاً على الساحة الاقتصادية الدولية، ولكن هل سيُحدِث هذا الانضمام تغييراً جذرياً في الاقتصاد العالمي؟

نظام عالمي جديد

جرى عقد أول مؤتمر لتجمُّع بريكس عام 2009، ومن أبرز أهدافه المعلنة المساهمة بشكل كبير في "تنمية البشرية وإقامة عالم أكثر انصافاً وعدلاً، بالإضافة إلى السعي لإنشاء نظام نقدي دولي مستقرّ يمكن التنبؤ به أكثر تنوعاً".

إضافةً إلى ذلك فإنّ من أهمّ أهداف التجمع أيضاً تحقيق تنمية مستدامة ونموّ اقتصادي في البلدان النامية يدعمه التعاون في ما بين الدول في المسائل الاقتصادية والمالية والتجارية، وبالتالي سيسهم ذلك في النمو السليم والمتوازن للعالم على المدى الطويل.

وبالنظر إلى دول بريكس وما حققته من زيادة في الناتج المحلي الإجمالي عبر السنوات، نجد أنّ الصين كانت دائماً أكبر اقتصاد في هذا التجمع والأسرع نمواً بين بلدان بريكس الأخرى، وقد جعلها نموها السريع ثاني أكبر اقتصاد في العالم بعد الولايات المتحدة.

أما جنوب إفريقيا فكانت تتمتع دائماً بأصغر اقتصاد من بين دول التجمع، ولديها ثالث أكبر اقتصاد في إفريقيا، ويعود انضمامها إلى هذا التجمع كونها الاقتصاد الرئيسي الأكثر تقدماً واستقراراً في إفريقيا.

وتكشف بيانات البنك الدولي أنّ مجموع الناتج المحلي الإجمالي على أساس تعادل القوة الشرائية لعام 2023 وصل إلى 56 تريليون دولار، أي ما يقرب من ربع الاقتصاد العالمي المعدّل حسب تعادل القوة الشرائية.

وفي ما يلي بيانات مساهمة دول البريكس في الاقتصاد العالمي من حيث تعادل القوة الشرائية:

بيانات مساهمة دول البريكس في الاقتصاد العالمي من حيث تعادل القوة الشرائية (Others)

بنك التنمية أمام البنك الدولي

ولتحقيق أهداف بريكس في سعيها إلى زيادة النمو والتنمية وخلق نظام نقدي عالمي مستقر، جرى إنشاء "بنك التنمية الجديد" برأسمال قيمته 50 مليار دولار، وذلك بهدف تأمين التمويل اللازم لمشاريع البنى التحتية وغيرها للدول الأعضاء، كما جرى إنشاء صندوق احتياطي الطوارئ بهدف توفير الحماية ضدّ ضغوط السيولة العالمية، إذ تتأثر العملات المحلية للدول الأعضاء سلباً نتيجة هذه الضغوط، وهو ما يشبه صندوق النقد الدولي.

يُذكر أنّه منذ بداية إنشائه وافق بنك التنمية الجديد على قروض تمويل تبلغ قيمتها 33 مليار دولار، لكنّه في الآونة الأخيرة توقف عن تقديم قروض جديدة، إذ يواجه مشكلة في جمع الأموال بالدولار لسداد ديونه، وفقاً لما جاء في صحيفة "وول ستريت جورنال"، إذ إنّ بقاء المصرف الذي تأسس بهدف إعادة تشكيل التمويل الدولي سيبقى مرهوناً باعتماده على الدولار الأمريكي.

وتوضح الصحيفة أنّ البنك جمّد الإقراض الجديد لموسكو بعد الغزو الروسي لأوكرانيا، وذلك من أجل طمأنة المستثمرين على امتثاله للعقوبات الغربية.

ومنذ ذلك الحين اضطر بنك التنمية الجديد إلى تحمّل ديون باهظة الثمن بشكل متزايد لخدمة القروض القديمة.

وفي يوليو/تموز الماضي خفضت وكالة فيتش التصنيف الائتماني للبنك، مشيرةً إلى التحديات التي تواجه وصوله إلى أسواق السندات الدولارية.

وبالنظر إلى بيانات هذه البنوك فإنّ حجم بنك التنمية الجديد يساوي تقريباً نصف حجم البنك الدولي من حيث الأصول التي تستطيع إقراضها، كما يبلغ حجم بنك طوارئ بريكس عُشر صندوق النقد الدولي الذي تبلغ قدرته الاقراضية نحو تريليون دولار.

وهذا الفارق في الأصول يحتاج إلى توسعة من خلال انضمام مزيدٍ من الدول برؤوس أموال مساهمة في البنكين (بنك التنمية وبنك الطوارئ)، الأمر الذي سيقود إلى توسعة عضوية بريكس.

توسعة بريكس.. أهداف وتحديات

وازدادت في الآونة الأخيرة طلبات الانضمام إلى عضوية بريكس من دول عديدة، وكثرت التساؤلات حول أسباب رغبة هذه الدول في الانضمام، وفي هذا الصدد يقول الخبير الاقتصادي الدكتور كريم عادل، رئيس مركز العدل للدراسات الاقتصادية والاستراتيجية في القاهرة، إنّ العالم شهد أزمتَين ماليتَين متتاليتَين أثرتا في اقتصادات معظم الدول، وأدى ذلك إلى ضرورة الانضمام إلى مثل هذه التكتلات الاقتصادية بهدف استعادة التوازن والاستقرار الاقتصادي العالمي والإقليمي.

ويوضح عادل في حديثه مع TRT عربي أنّ الدول الأعضاء يمكنها الاستفادة من دعم بنك التنمية الذي يوفر الموارد والمعونة الفنية لتنفيذ المشروعات ذات الأولويات الوطنية والاستثمار في البنى التحتية، بما في ذلك من قطاعات الطاقة والنقل والمياه والمواصلات والتحول الرقمي.

وحول انضمام الدول العربية إلى بريكس، يضيف رئيس مركز العدل للدراسات الاقتصادية والاستراتيجية، أنّ هذه الدول تسعى إلى تعزيز قوة اقتصاداتها واكتساب ثقة المجتمع الدولي والمؤسسات المالية العالمية.

ومن أهداف التعامل التجاري ضمن تجمُّع بريكس التعامل بالعملات المحلية للدول، الأمر الذي سيسبب خسارة لأحد الأطراف، كما حصل مع روسيا في تعاملاتها مع الهند عندما تعاملت معها بالعملة المحلية الهندية (الروبية)، وبالتالي لن تستطيع هذه الدول التعامل مع دول أخرى بفائض عملة تلك الدولة عندما تضطر إلى شراء الدولار، مما سيعرضها لخسارة.

ويلفت عادل إلى تفصيلة مهمة تتعلق برأسمال بنك التنمية الذي يتكون من الدولار الأمريكي، وذلك يتعارض مع الهدف الرئيسي لبريكس، وهو القضاء على هيمنة الدولار، وعليه يجب أن يجري العمل على أمرين، الأول أن يكون رأسمال بنك التنمية مكوّناً من سلّة عملات الدول الأعضاء وليس الدولار الأمريكي.

والأمر الثاني -حسب عادل- يتمثل في ضرورة أن يوفّر البنك غطاءً نقدياً للدول الأعضاء، بهدف توفير أو ضمان القيمة النقدية لسدّ الفجوة بين الصادرات والواردات، حتى تستطيع الدول الأعضاء تنفيذ معاملات تجارية بالعملات المحلية بعيداً عن الدولار.

عملة البريكس

إلى ذلك، أطلق رئيس البرازيل فكرة وجوب العمل على خلق عملة خاصة بدول بريكس، لكنّها لم تلقَ صدى، وذلك لصعوبة تنفيذ الأمر وما يحتاج إليه من ترتيبات مختلفة، وهذا ما يؤكده الدكتور مدحت نافع، محاضر الاقتصاد والتمويل بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة.

ويضيف نافع لـTRT عربي أنّ فكرة اعتماد عملة موحدة في تجمُّع بريكس غير واقعية في الوقت الحالي، مشيراً إلى أنّه حتى الاتحاد الأوروبي واجه صعوبات كبيرة في تنفيذ العملة الموحدة، رغم تشابه دولهم من حيث الثقافة والاقتصاد.

ويبدو أنّ التعامل باستخدام العملات المحلية سيزيد تدريجياً، وهذا يأتي جزءاً من محاولة التخلص من الهيمنة الدولارية على النظام المالي العالمي. ويقترح الدكتور نافع التفكير في تنفيذ عملة موازية كالعملة الرقمية قائمة على سلة من عملات الدول الأعضاء والذهب وبعض منتجات الطاقة، التي يمكن أن تزيد تدريجياً نسبة استخدامها في التجارة بين الدول الأعضاء، ثم بعد ذلك تكتسب مكانة لها في النظام العالمي.

وفي ما يتعلق بجزئية عدم الانسجام أو الخلافات بين دول بريكس ودول الغرب أو في ما بينها، فيشير محاضر الاقتصاد والتمويل إلى أنّه توجد فرص وتحديات تتعلق بالصراعات والخلافات بين دول تجمُّع بريكس.

ويبيّن نافع أنّ الفرص تكمن في وجود تنوع ثقافي وفكري واختلاف في الأيديولوجيات والتركيبة السكانية والاقتصادية بين دول التجمع، وهذا التنوع يمكن أن يكون فرصة للتعلم المتبادل وتبادل الخبرات.

أما التحديات فتتمثل في وجود صراعات بين الدول الأعضاء في التجمع، ويمكن أن تشكل هذه الصراعات تحدياً للتجمع، لكنّها في الوقت نفسه يمكن أن تكون فرصة لحل هذه الصراعات كمشكلة سدّ النهضة والخلافات بين إيران ودول الخليج أو بين الهند والصين ووضعها على طاولة التفاوض في إطار تجمُّع بريكس.

ويتابع القول: "إذا نجحت دول بريكس في حل هذه الصراعات فإنّ ذلك سيكون إنجازاً للتجمع، وقد يسهم في تعزيز دوره في العلاقات الدولية".

هل تتحول بريكس إلى تجمّع عسكري؟

لا يمكن استبعاد فكرة تحوّل أي تجمّع اقتصادي بين دول عدّة إلى تجمّع عسكري، لكن في بريكس الوضع مختلف، إذ كان موقف دول البريكس غير مساند لروسيا في أزمتها.

وفي هذا الإطار يرى مدير المركز العربي للدراسات السياسية في القاهرة الدكتور محمد صادق إسماعيل أنّ تجمُّع بريكس يمكن أن يكون تجمعاً اقتصادياً وسياسياً بدلاً من أن يكون تجمّعاً عسكرياً، إذ إنّ الدول الأعضاء في بريكس مشاركة في تجمعات دولية أخرى مثل مجموعة العشرين، وإن دخول الدول العربية إلى هذا التجمع يهدف إلى تعظيم المصالح الاقتصادية والاستفادة من إمكانيات دول بريكس فقط.

ويلفت إسماعيل في حديثه مع TRT عربي إلى أنّ جزءاً من استراتيجية الصين المستقبلية طريق الحرير أو ما يُعرف بـ"الحزام والطريق"، يمرّ عبر دول الخليج وإلى دول إفريقيا عبر بوابة مصر، فالصين تبحث عن موطئ قدم في القارة الإفريقية، وبالتالي سيكون هناك تنظيم جيد لطريق الحديد أو ما يُعرف بـ"مبادرة الحزام والطريق" عبر دول الخليج ومصر، وبالتالي يمكن أن تتحقق مكاسب اقتصادية هامة للدول العربية الثلاث إذا جرى وضع استراتيجية مناسبة لتعظيم الموارد والاستفادة من إمكانيات بريكس.

أما الدكتور مدحت نافع فيرى أنّ هذا التجمع -الذي يُعتبر أهم تحدياته تجاوز خلافاته- إذا استطاع العمل على أهم الخطوات وهي أن يُحكّم المصلحة البينية بشكل كبير، وأن يزيد فرص التجارة والاستثمار بين دوله، وأن يزيد فرص تناقل التكنولوجيا والتعلم والتبادل الثقافي والفكري، وأن يتغلب على انشقاقات أعضائه الأيديولوجية، كل ذلك إذا استطاع التجمع تحقيقه فسيشكل رقماً هامّاً في الاقتصاد العالمي.

TRT عربي
الأكثر تداولاً