تابعنا
افتتح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أول محطة للطاقة النووية في تركيا في27 أبريل/نيسان، لتكون تركيا من ضمن الدول التي تمتلك محطات نووية على أراضيها.

مع تدشين أول وحدة للطاقة النووية في محطة آق قويو النووية في مدينة مرسين الواقعة على شاطئ البحر الأبيض المتوسط جنوب تركيا، ستنضم تركيا إلى نادي الدول التي تملك محطات طاقة نووية على أرضها.

وتعد محطة آق قويو نتاج تنسيق وثيق بين تركيا وروسيا بدأ رسميا مع توقيع اتفاقية بين البلدين بتاريخ 2010، للتعاون في مجال إنشاء وتشغيل المحطة النووية.

حلم من القرن العشرين

تعود جذور مساعي تركيا لاكتساب الطاقة النووية من أجل الاستخدامات السلمية إلى خمسينيات القرنِ الماضي.

وكان الرئيس الأمريكي دوايت أيزنهاور في ديسمبر/كانون الثاني عام 1953 ألقى خطابه الشهير أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة بعنوان: "الذرّة من أجل السلام"، دعا فيه إلى الاستخدام السلمي للطاقة النووية التي "يمكن تحويلها إلى مصدر عظيم للفائدة لجميع البشر".

كما دعا إلى إنشاء إطار دولي ينظم الاستخدامات السلمية للطاقة النووية، وهو الأمر الذي سييتحقق بعدها بثلاث سنوات مع تأسيس الوكالة الدولية للطاقة الذرية وتحديداً في عام 1957.

وكانت تركيا من أوائل الدول التي تجاوبت مع فكرة استخدام الطاقة النووية للاستخدامات السلمية. وتزامن ذلك مع انضمام تركيا حديثاً إلى حلف شمالِ الأطلسي.

التقى الرئيس التركي آنذاك جلال بايار نظيره الأمريكي آيزنهاور خلال زيارته للولاياتِ المتحدة الأميركية في بدايات 1954، ليمهد هذا اللقاء لاتفاقية ثنائية أُقرت في العامَ التالي للتعاون في الاستخدام السلمي للطاقة النَووية.

في هذا السياق، يقول الدكتور أوغور تشافيك، أستاذ الفيزياء في جامعة قرة دينيز، والذي يشغل أيضاً موقع كبير مستشاري نائب رئيس الجمهورية التركية ومنصب مستشار في وكالة أبحاث الطاقة النووية والتعدين التركية Tenmak، في حديثه إلىTRT عربي، "أنشئت هيئة الطاقة الذرية التركية على مراحل، بدأت عام 1956 أي قبل إنشاء وكالة الطاقة الذرية العالمية" مؤكداً أن تركيا "كانت إحدى الدول القليلة جداً التي أولت إجراء البحوث في هذا المجال اهتماماً، فخصصت قطعة من الأرض في منطقة كوتشوك جكمجة في إسطنبول وأسست فيها مفاعلاً بحثياً عام 1961".

في ذات السياق افتتحت تركيا في 27 مايو/أيار 1962 مركز جكمجة للأبحاث النَووية والتدريب، الذي ضم مفاعلاً بحثياً صغيراً بقوة واحد ميغاوات قدمته الولايات المتحدة، ورعى الافتتاح الرئيس التركي آنذاك جمال كورسيل.

وجدير بالذكر أنه في عام 2020 حُلّت هيئة الطاقة الذرية TAEK بموجب مرسوم رئاسي وحوّلت مهامها وسلطاتها إلى إطار جديد هو وكالة أبحاث الطاقة النووية والتعدين التركية Tenmak.

ويشير تشافيك إلى أن تركيا بعدما أنشأت أولى المفاعلات لأغراض بحثية في ستينيات القرن الماضي، بدأت تدريب المواردِ البشرية وتأهيلها، وكان ذلك "بداية ممتازة"، على حد قوله، ويضيف "لكن بعد أحداث الانقلاب العسكري بدايات الستينيات وما نتج عنه من إضرابات، لم يحدث تقدم جاد في سير المرحلة".

اتهامات غير مبررة

تفاوضت تركيا مع عدة دول غربية كبريطانيا والولايات المتحدة خلال عقدَي الستينيات والسبعينيات للحصول على مفاعلات نووية. ومع اندلاع أزمة الصواريخ النووية في كوبا، وقّعت تركيا معاهدةَ الحد من انتشار الأسلحة النووية عام 1969 وصدّقت عليها مطلع الثمانينات.

لم يمنع هذا ظهور عقبات تسببت فيها عوامل شتى ومن بينها تسريبات غير مستندة إلى دلائل عن مشروع نووي تركي سري مزعوم .

وعلق البروفيسور مصطفى كبار أوغلو مدير مركز دراسات الأمن العالمي والأبحاث الاستراتيجية، والذي يشغل أيضاً عميد كلية العلوم الاقتصادية والإدارية والاجتماعية في جامعة MEF، في لقائه مع TRT عربي على هذه الادعاءات قائلاً "على من يثير مثل هذه المزاعم أن يجري الأبحاث"، مؤكداً أنه "بعد البحث والدراسة الأكاديمية في الموضوع لمدة ثلاثين عاماً، أستطيع أن أجزم بعدم وجود أي مشروع سري للأسلحة النووية في تركيا".

وكان كبار أوغلو قد أنجز دراسات عديدة في العلاقات الدولية والحد من انتشار أسلحة الدمار الشامل، وتولى مهام ومناصب في مراكز بحثية للأمم المتحدة والناتو.

ويرى مصطفى كبار أوغلو أن الادعاءات "التي تتحدث عن أهداف عسكرية سرية لمبادرات تركيا في مجال الطاقة النووية أثارها حلفاء غربيون، مثل الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا واليونان، لكنها "ادعاءات غير مبررة على ضوء سياسة تركيا الخارجية والاتفاقيات التي وقعتها، وأهمها معاهدة منع انتشار الأسلحة النووية"، وفق تعبيره.

تفاوض في ظروف سياسية غير مستقرة

كثفت تركيا في نهاية الستينياتِ ومطلَعِ السبعينيات محادثاتها مع دول عدة من بينها بريطانيا حول مشاريع الطاقة النووية السلمية، وأعدت عام 1970 دراسة جدوى لمفاعلٍ نَووي بقدرة توليد 300 ميغاوات.

ومن خلال بحثنا في الأرشيف الوطني البريطاني عثرت TRT عربي على وثائق مصنّفة تمتد من عام 1996 وحتى منتصف السبعينياتِ، تتناول زياراتٍ متبادلةً بين مسؤولين في مفوضية الكهرباء التركية TEK وهيئة الطاقة الذرية التركية TAEK ومسؤولين في هيئة الطاقة الذرية البريطانية UKAEA.

إحدى الوثائق تتحدث عن زيارة وفد بريطاني لتركيا في نوفمبر/تشرين الثاني عام 1973.

تتحدث عن زيارة وفد بريطاني لتركيا في نوفمبر/تشرين الثاني عام 1973. (TRT Arabi)

وحسب الوثيقة ذكر الدكتور ماكيغي المسؤول في هيئة الطاقة الذرية البريطانية أن مجلس مفوضية الكهرباء التركية TEK قدم اقتراحاً جديداً إلى الحكومة الموجودة آنذاك، يفيد بأنه يجب إدخال الطاقة النووية بمنشأة بقوة 600 ميغاواط لتعمل بحلول عام 1982 ولتصبح عملياتية بشكل تجاري موثوق بحلول العام 1983".وبعد أن خسرت الحكومة البريطانية التي أبرمت الاتفاق في أكتوبر/تشرين الأول عام 1973 الانتخابات، صرف البريطانيون النظر عن الأمر.

يشرح الدكتور تشافيك أنه بعد تلك الفترة "كان التوجهُ هو لإنشاء مفاعلِ طاقةٍ لأغراض تجارية، فرُخّص بانشاء مفاعلٍ نَووي في موقع مفاعل آق قيو، في أواسط السبعينيات"، لكن الحكوماتُ المتعاقبة التي وضعت الأمرَ على جدول أعمالِها سرعان ما واجهت انقلابِ 1980 الذي تسبب بعدم "وضوحِ في الرؤية المستقبلية"، فضلاً عن أنه وبسبب "غيابِ الضمانات المالية لم تدخل الشركاتُ الأجنبية في السباق"، وفق تعبيره.

مزاعم التعاون السري مع باكستان

أثارت العلاقات المتنامية بين أنقرة وإسلام آباد المخاوف في دوائر في خصومة مع تركيا.

فحسب وثيقة مؤرخة في 24 مارس/آذار عام 1988 موجهة من وزير الخارجية الأمريكي إلى السفارة الأمريكية في نيودلهي تروي أن ممثلاً عن السفارة الهندية في واشنطن سأل مدير مكتب شؤون الشرق الأدنى عن قصة تتناول خلافاً أمريكياً مع تركيا بشأن مزاعم بتزويد شركات تركية باكستان بمٌعدات تخصيب اليورانيوم.

وثيقة مؤرخة في 24 مارس/آذار عام 1988 موجهة من وزير الخارجية الأمريكي إلى السفارة الأمريكية في نيودلهي (TRT Arabi)

وحسب الوثيقة ذكر السفير الأمريكي في أنقرة للسٍفارة الهندية في العاصمة التركية أن حكومته أبلغت نيو دلهي قبل سنوات عدة أن مشكلة الصادرات المزعومة تحت السيطرة، وأن الاهتمام الحالي بالمحادثات بين الحكومتين الأمريكية والتركية أتت من سلسلة تسريبات مشوهة في الصحافة التركية.

وفي هذا الصدد يشير كبار أوغلو إلى أن الاتصالات التي رصدت بين كنعان إيفرين والرئيس الباكستاني ضياء الحق "تسببت في شائعات متكررة، ظهرت في الصحف اليونانية والهندية على وجه التحديد".

التسعينيات.. 8 مناقصات دون نتيجة

واصلت تركيا في مطلع تسعينياتِ القرنِ الماضي محاولاتِها للحصول على الطاقة النووية السلمية.

في هذا السياق، طرحت مناقصات لبناء مفاعلٍ بقدرة توليد 2000 ميغاوات في منطقة آق قويو. وشاركت في المناقصات شركات عدة مثلِ Westinghouse وMitsubishi AECL Framatome و Siemens.

لكن الأوضاع السياسية في تركيا، لاسيما بعد عام مذكرة 1997 العسكرية في 28 فبراير/شباط التي أجبرت رئيس الوزراء نجم الدين أربكان على الاستقالة قامت على أثرها حكومة ائتلاف ثلاثي، أربكت المساعي التركية في هذا الصدد.

الحكم الجديد والطريق إلى "آق قويو"

مع مجيء حزب العدالةِ والتنمية إلى الحكم في انتخابات عام 2002، وضع في برنامجه بناء مفاعلات نووية لأغراض سلمية، وأطلق مشروعات نحو ذلك مدفوعاً بحاجات تركيا المتنامية .

سعت حكومة العدالة والتنمية لتحقيق مشروع توليد الكهرباء من الطاقة النووية، وبعد مسار من المفاوضات مع شركات عديدة، وقع رئيس الوزراء التركي آنذاك رجب طيب أردوغان والرئيس الروسي وقتها دميتري ميدفيديف في عام 2010 اتفاقاً لإنشاء مفاعل في موقع آق قويو بحيث تتولى تنفيذَه شركة روس أتوم الروسية الحكومية بكلفة 20 مليار دولارٍ تموّلها روسيا.

وكان الرئيس أردوغان اعتبر حينها أن توقيع الاتفاقية "خطوة مهمة جداً في مجال الطاقة"، في حين رأى ميدفيديف أن "الشراكة والتعاون في مجال الطاقة النووية هو اتفاق شامل يفتح صفحة جديدة في العلاقات بين البلدين". وأثار توقيع الاتفاقية حفيظةَ دوائرَ غربية، حسب بعض المحللين.

يذكر أن البروفيسور كبار أوغلو في ذلك الوقت كان ضمن وفد رسمي رئاسي إلى كوريا الجنوبية، وشارك في اجتماع ترأّسه وزير الطاقة التركي تانر يلدز.

يقول كبار اوغلو لـTRT" عربي نقلاً عن وزير الطاقة إن "تركيا تحملت مسؤولياتها المتعلقة بالاتفاقيات الدولية مع حلفائها الغربيين منذ عشرين إلى ثلاثين عاماً، ومع ذلك، عندما ترغب تركيا في إنشاء محطات نووية باستخدام حقوقهم المنبثقة عن تلك الاتفاقيات، فإن حلفاءنا الغربيين لا يساعدون تركيا. طلبنا من الولايات المتحدة الأمريكية وكندا وألمانيا مراراً وتكراراً شراء مفاعلات نووية، ولكن لم يُنفَّذ ذلك بسبب أسباب مختلفة. عندما تقدمنا بأحدث طلب عطاء، انسحبت الشركات المشاركة ما عدا روسيا. حتى عندما تقدمنا بالطلب للمرة الثانية ودعونا الشركات الغربية، لم يأت أي منهم. لم يكن لدينا أي بديل سوى العمل مع روسيا".

وعلى الرغم من كل المصاعب، خطا المشروع التركي النووي لأغراض سلمية إلى الأمام، وبعد سنوات قليلة كان بناء المحطة يتواصل بسرعة، ووضع الرئيس أردوغان، وكان انتُخب رئيساً للجمهورية حينها، أحجار الأساس على مراحل، ووعد باتخاذ ما يلزم من أجل عملية بناء سريعة لـ "محطة الطاقةِ النَووية الثانية أو حتى الثالثة".

ووجَّه رسالة واضحة بالقول: "لا يمكن لأي شخص يفكر في استقلال تركيا الاقتصادي ورفاهيةِ الأمةِ التركية أن يعارضَ الطاقةَ النَووية".

محطة آق قويو

تقع محطة آق قويو في منطقة "كلنار" بولاية مرسين وتتألف من 4 وحدات، كل منها بمفاعل القدرة مائي – مائي VVER من الجيل 3+ بقوة 1200 ميغاوات وطاقة إجمالية تبلغ 4800 ميغاوات، لتصبح مع اكتمالها أكبر منشأة نووية في العالم.

ويقول الدكتور تشافيك في حديثه مع TRT عربي إن "حجم إنتاج الطاقة المتوقع بعد إتمام كل الوحدات هو 35 مليونَ كيلووات".

وتابع "سيبدأ تشغيل الوحدة الأولى عام 2023 وينتهي بناءُ الوَحَدات الأربعِ في عام 2026. بعدها ستغطّي المنشأة ما يقارب 10% من حاجة تركيا إلى الطاقة الكهربائية" مستدركاً بأن ذلك وفق التقديرات الأولية "فلا يمكننا التنبؤ بحاجاتِ الطاقة المتغيرة بصورة قطعية"، وفق تعبيره.

ومع بدء تشغيلِ المرحلة الأولى في محطة آق قويو منشأة نووية، تصبح تركيا الدولة الثالثةَ والثلاثين التي على أرضها منشآت نووية سلمية تمكنها من إنتاج مستمر لطاقة كهربائية دون انقطاعات، ودون انبعاثات وغازات دفيئة ضارة بالبيئة.

إن مشروع محطة آق قويو النووية الذي سيكتمل بناؤه خلال سنوات قليلة، لن يكون الوحيد من نوعه. فلدى أنقرة توجه لإنشاء محطة جديدة في سينوب على البحر الأسود، لتدخل الجمهورية التركية في مئويتها الثانية عصراً جديداً من أمن الطاقة يتوّج مساراً بدأ في منتصف القرنِ العشرين.

TRT عربي