فرضت الإدارة الأمريكية جملة من العقوبات على روسيا لتدخلها في الانتخابات الأمريكية لعام 2020 (Reuters)
تابعنا

والمدقق في تفاصيل الأسباب التي سيقت لتبرير هذه العقوبات، والجهات التي استهدفتها، لا يخطئ في ملاحظة أن السياسة السايبرانية التي انتهجتها موسكو في الآونة الأخيرة كانت في صلب هذه الأسباب التي دفعت الإدارة الأمريكية إلى فرض هذه العقوبات، وتعبر في الوقت ذاته عن جدية واضحة لدى واشنطن في إضفاء بُعْدٍ جديد للهجمات السايبرانية الدائرة بين الجانبين من خلال الرد على هذه الهجمات بعقوبات فعلية اقتصادية ودبلوماسية، وعدم الاكتفاء بالردود من طبيعة الهجمات السايبرانية.

تضمن إعلان الإدارة الأمريكية فرض عقوبات على ست شركات تكنولوجية تقدم الدعم لجهاز الاستخبارات الروسي العامل في الخارج وقد أكدت وكالة الأمن السايبراني الأمريكية بأن هذه الشركات ضالعة في الاختراق الإلكتروني الكبير الذي أصاب العديد من وكالات الحكومات الفيدرالية الأمريكية والعشرات من الشركات الخاصة العام الماضي وعرفت باختراق SolarWinds.

وقد أولت العقوبات اهتماماً خاصاً بالجهات التي ساهمت بالتدخل الروسي في الانتخابات الأمريكية حيث تم فرض عقوبات على ما يقرب من 32 شخصاً وكياناً يشتبه في تورطهم بالتدخل في الانتخابات الأمريكية لعام 2020. كما أوضحت وزارة الخزانة الأمريكية أن كونستانتين كيليمنيك مشمول بالعقوبات، وهو ضابط مخابرات روسي معروف عمل عن كثب مع بول مانافورت عندما كان الأخير رئيساً لحملة الرئيس السابق دونالد ترمب الرئاسية لعام 2016، وهناك اعتقاد قوي بأن مانافورت قد سرب معلومات حساسة عن بيانات الاقتراع واستراتيجيات الحملات الانتخابية لعملاء روس.

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والرئيس الأمريكي جو بايدين  (AP)

ومن الأهمية بمكان تأكيد أن العقوبات الجديدة تسلط الضوء على نشاط الاستخبارات الروسية في الخارج، وبالأخص تلك المتعلقة بالتدخلات الإلكترونية حيث شملت العقوبات شبكة من المؤسسات والمواقع الإلكترونية تخضع لسيطرة أجهز الأمن الروسية، وتستخدم لنشر المعلومات الكاذبة والمضللة للتأثير على الانتخابات في العديد من الدول حول العالم.

هذه التطورات تعيدنا إلى الجدل الذي أثير على مدار سنوات عديدة حول خطر الهجمات السايبرانية إذا ما حفزت ردود فعل مؤلمة من قبيل رد فعل عسكري مباشر أو عقوبات اقتصادية قاسية. فمنذ تصاعد الهجمات الإلكترونية، واتخاذها أشكالاً أكثر شمولية ودراماتيكية، وتحديداً مع بداية العشرية الثانية من الألفية الحالية، تزايدت النقاشات حول التداعيات المباشرة لهذه الهجمات على مستوى العلاقات البينية بين الدول وعلى مستوى النظام الدولي ككل. وكان هناك تخوف يبرز في كل هذه النقاشات يدور حول إذا ما كان سيترتب على هذه الهجمات، وفق ظروف معينة، رد من شأنه أن يشعل حرباً فعلية بين الأطراف المنخرطة؟

اتخذت هذه النقاشات شكلاً أكثر جدية مع انتقال السياسة السايبرانية من كونها مخصصة للدفاع وحماية الأنظمة الحساسة في الدول من التعرض للاختراق، إلى سياسة مخصصة للهجوم وذلك لتحقيق بعض الأهداف عالية السرية. وربما المثال الأبرز على ذلك الهجمات التي عرفت بعملية الألعاب الأولمبية، واستطاعت فيها الولايات المتحدة وإسرائيل اختراق أنظمة الطرد المركزية الأكثر تطوراً لدى إيران بواسطة فايروس Stuxnet، والذي أدى إلى خروج ثلثها في ذلك الوقت عن الخدمة، وقد اعتبر سلاحاً للتدمير الشامل الإلكتروني.

وقد ردت حينها إيران باستهداف بعض الأهداف التابعة للولايات المتحدة أو بعض حلفائها، من أبرزها الهجوم السايبراني الذي استهدف شركة أرامكو السعودية والذي أدى إلى خسارة الشركة لثلث أجهزتها الإلكترونية، والمحاولة الإيرانية لاختراق الأنظمة الإلكترونية لأحد السدود المائية القريبة من مدينة نيويورك الأمريكية.

محموعة من الهاكرز الروسي المتهمين باختراق Solarwind (AP)

أخذ الخوف يتعاظم مع المؤشرات التي برزت في الآونة الأخيرة وتتعلق بسعي بعض الدول لتوسيع نطاق استهداف العمليات السايبرانية الهجومية. فالهجمات التي شنتها روسيا على أوكرانيا في عام 2014، واستهدفت شبكة الكهرباء التي تخدم ملايين البشر، كانت مؤشراً على أن بعض الدول باتت تضع نصب أعينها الأهداف التابعة للبنية المدنية الحساسة جنباً إلى جنب مع الأهداف العسكرية، وهو الأمر الذي من شأنه تهديد أنظمة البنى التحتية في الدولة والذي يعتمد عليها ملايين البشر سواء أنظمة الصرف الصحي أو الكهرباء أو المياه أو حتى أنظمة السلامة العامة كالمستشفيات والإطفائية والدفاع المدني.

وفي الأيام القليلة الماضية، تعرضت بعض المنشآت النووية الإيرانية إلى عمليات تخريب يعتقد على نطاق واسع أنها بسبب هجمات إلكترونية، وهو الأمر الذي استدعى رفع مستوى التصعيد في البحار من خلال الاستهداف والاستهداف المقابل للسفن الإيرانية والإسرائيلية، وهو الأمر الذي يخشى العديد من المراقبين تدحرجه لمواجهة عسكرية مباشرة بين الطرفين.

يبدو أن الوقت الذي كانت فيه الهجمات السايبرانية تجري في الظل، وتقتصر على الأهداف الإلكترونية من تخريب للأنظمة، وتجسس، وسرقة بيانات، وتعنى بالأهداف العسكرية وحدها بعيداً عن الأهداف المدنية قد انتهى، وأن العالم اليوم يدخل طوراً جديداً من الهجمات السايبرانية أكثر اتساعاً وشمولاً وخطورة في الوقت ذاته، فقد تتحول فيه هجمات سيبرانية إلى شرارة لاشتعال حرب شاملة، وبذلك تكون الهجمات السايبرانية كالنبوءة التي تحقق ذاتها من ذاتها، وأن التخوف من اشتعال حرباً عسكرية بسبب هجمات سيبرانية ما هو إلا مسألة وقت لا أكثر، فالسيناريو الأكثر قتامة هو أن تصل إحدى الجهات الخبيثة إلى أنظمة إطلاق الصواريخ، النووية على وجه التحديد منها، وهو الأمر الذي من شأنه أن يضع العالم على شفير حرب عالمية ثالثة.

تدرس روسيا خياراتها للرد على العقوبات الأمريكية، وفي الوقت الذي ردت فيه مبدئياً بطريقة مشابهة من خلال طرد بعض الدبلوماسيين الأمريكيين من سفارة بلادهم في موسكو، فإن هناك شكوكاً كبيرة ما إذا كانت العقوبات والعقوبات المضادة سوف تتوقف عند هذا الحد، وهناك شكوك أكبر حول ما إذا كانت الهجمات الإلكترونية سوف تتوقف عند هذا الحد أم تذهب إلى مستويات أخرى أشد خطورة. الحقيقي والجدي الآن هو حاجة المجتمع الدولي إلى مواثيق تنظم العلاقات بين الدول في العالم السايبراني، قبل التدحرج إلى سيناريوهات لا تُحمد عقباها.


TRT عربي