تابعنا
تشهد الأزمة السياسية في تونس تطوراً غير مسبوق خلال الأيام المنقضية، منذ إعلان رئيس الجمهورية قيس سعيّد نفسه قائداً أعلى للقوات المسلحة العسكرية والمدنية.

وتضمّ بحسب تأويله للدستور قوات الجيش الوطني وقوات الأمن الداخلي التابعة لوزارة الداخلية من حرس وطني وشرطة بالإضافة إلى جهاز الديوانة، الجمارك.

هذا الإعلان أتى بعد أسابيع قليلة من رفض رئيس الجمهورية التوقيع على التعديلات التي أُدخلت في البرلمان على قانون انتخاب المحكمة الدستورية، معللاً ذلك بأنّ آجال انتخاب المحكمة الدستورية قد انتهت.

هذه المواقف المتتالية للرئيس التونسي جعلته في مرمى اتهامات من معارضيه، وصلت إلى درجة اتهامه بقيادة انقلاب وسطوٍ على صلاحيات رئيس الحكومة، وهو ما قد يجرّ مؤسسات الدولة إلى تنازع وصراع قد يهدد الاستقرار في البلاد التي تعيش أسوأ أزمة اقتصادية منذ العام 2011.

سطو على الصلاحيات

انتهز رئيس الجمهورية فرصة إحياء الذكرى الـ65 لعيد قوات الأمن الداخلي، ليعلن عن تغيير جوهري في صلاحياته الممنوحة له حسب دستور العام 2014، حيث أعلن الرئيس نفسه قائداً أعلى للقوات المسلحة العسكرية والمدنية، في حالة نادرة عن نظرائه من قادة الدول الديمقراطية والاستبدادية.

حيث قال الرئيس التونسي قيس سعيّد في خطابه بالمناسبة ''تعلمون أنّ رئيس الجمهورية هو الذي يتولى التعيينات والإعفاءات في الوظائف العليا العسكرية والدبلوماسية والمتعلقة بالأمن القومي بعد استشارة رئيس الحكومة، وتُضبط الوظائف العليا بقانون. المبدأ هو أنه لا تفريق، حيث لم يفرّق القانون. هذا معهود في كل نصوص العالم، فالقوات المسلحة هي القوات المسلحة العسكرية والقوات المسلحة الأمنية".

وشدد على أنّ ''رئيس الدولة هو القائد الأعلى للقوات المسلحة العسكرية والمدنية، فليكن هذا الأمر واضحاً بالنسبة إلى كل التونسيين في أي موقع كان''.

ويُذكر أن تونس اعتمدت في دستور جمهوريتها الثانية نظاماً تشاركياً يتميّز بتوزيع النفوذ بين رئيسي الجمهورية والحكومة، لتحقيق التوازن والحد من هيمنة رئيس الجمهورية على السلطة.

حيث حدد الدستور التونسي في 17 فصلاً مهام رئيس الجمهورية وصلاحياته وشروط انتخابه، وذلك من الفصل 72 إلى الفصل 88، ورغم أنّ صلاحيات منصب رئيس الجمهورية التونسية تقلّصت مقارنة بما كانت عليه قبل الثورة، فإنّ عدداً من المهام العليا لا تزال بعهدة هذا المنصب، وأهمها رئاسة الدبلوماسية التونسية وقيادة الدفاع الوطني، وهو ما فرض على رئيس الحكومة استشارة ملزمة للرئيس قبل تكليف وزيري الدفاع والخارجية.

تعطيل المحكمة الدستورية

هذا التأويل الأخير للرئيس قيس سعيّد لنص الدستور لم يكن الأول منذ توليه الرئاسة، فقبل أسابيع قليلة وبالتحديد يوم 4 أبريل/نيسان الجاري، ردّ الرئيس على التعديلات التي أُدخلت على قانون انتخاب المحكمة الدستورية، معيداً القانون لقراءة ثانية في البرلمان وعرضه على تصويت معزز.

إلا أنّ رئيس الجمهورية لم يكتف بما حدّده الدستور له من صلاحيات للاعتراض على القوانين وردّها، بل ذهب لأبعد من ذلك بكثير ليحكم بعدم الدستورية والتي هي من اختصاص القانون الدستوري، معلناً رفضه انتخاب أعضاء المحكمة الدستورية قبل تعديل الدستور.

وفي رسالة طويلة أثارت الاستغراب داخل تونس وخارجها، قال رئيس الدولة إنّ "الدستور منح لرئيس الجمهورية وحده اختصاص الختم وخوّل له الحق في الرد. والختم كما ورد ذلك عند صاحب تاج العروس يفيد الطبع وهو الاستيثاق في أن لا يدخله شيء من ذلك قوله: "أمْ عَلَى قُلُوْبٍ أَقْفَالُهَا" ومنه قوله تباركت أسماؤه "خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوْبِهِم" والختم كما يعرفه الفقهاء هو العنصر اللازم المكمل للقانون، لأنّ قابلية النفاذ تجد مصدرها في عملية الختم لا في النص التشريعي الذي عبّرت به الهيئة التشريعية عن إرادتها".

انقلاب من داخل السلطة

كل هذه الممارسات التي أقدم عليها رئيس الجمهورية خلال الأشهر المنقضية، مما أدخل البلاد في أزمة سياسية غير مسبوقة، ولا يتوقّع أحد من الأطراف السياسية كيفية الخروج منها على الرغم من دعوات الحوار المتتالية التي كان أهمها مبادرة الحوار الوطني التي دعا لها الاتحاد العام التونسي للشغل أكبر نقابات البلاد، دفعت بصدور مواقف حادة من عدد من الشخصيات الوطنية والأحزاب السياسية.

حيث اعتبر الناشط السياسي وأستاذ القانون الدستوري جوهر بن مبارك في تدوينة على حسابه على فيسبوك أنّ "أحاديث رئيس الجمهورية استهتار بالدستور والتشريع وفاتحة انقضاض على دولة القانون، بكلّ صدق و تجرّد وعقلانية يقتضي الحال وقفة صارمة من كلّ القوى السياسية والمدنية المؤمنة بالديمقراطية والرافضة لوقع أقدام العسكر. ويقتضي الأمر فوراً وقبل فوات الأوان إسناد البلاد بحكومة قوّية ورئيس لها قادر على مسك الأمور بقوّة وحماية المؤسسات الديمقراطية وتحييد العبث قبل انفلات الوضع".

ويبدو أنّ دعوة بن مبارك قد التقطتها أحزاب سياسية أخرى عبّرت بشكل مشابه عن الوضع السياسي الذي تعيشه البلاد، ففي تدوينة أيضا يوم 19 أبريل/نيسان 2021 انتقد فيها خطاب رئيس الجمهورية قيس سعيد، أكّد القيادي في حزب الأمل أحمد نجيب الشابي أنّ قيس سعيّد يستغل الثغرات القانونية من أجل الانقلاب على السلطة تدريجياً واصفاً سلوكهُ بأنّه تأويل فردي لأحكام الدستور يستغلها لصالحه.

مشدداً على أنّ الأخطاء الجسيمة لرئاسة الدولة أصبحت موجبة للمساءلة وحتى العزل، وفسّر السياسي أنّ رئيس الدولة يستغل الثغرات لمحاولة الزحف على الحكم وبسط النفوذ.

ما الحل؟

لم يمرّ وقت طويل على حديث رئيس الجمهورية حتى جاء الرد سريعاً من رئيس الحكومة هشام المشيشي، الذيصرّح بأنّ "البلاد لا تحتمل تأويلات شاذّة، اليوم"، وبادر بعدها بممارسة صلاحياته بتعيين لزهر لونغو مديراً عاماً للمصالح المختصة (المخابرات)، وهي واحدة من أهم المناصب في وزارة الداخلية التونسية.

حركة النهضة بدورها، أصدرت موقفاً بلهجة حادة اتهمت فيه رئيس الدولة بـ"خرق الدستور"، معتبرة أنّ "إقحام المؤسسة الأمنية في الصراعات يمثّل تهديداً للديمقراطية والسّلم الأهلي ومكاسب الثورة".

هذه المواقف، ضاعفت من التخوّفات من تعميق الأزمة المستمرة منذ أشهر في تونس، حيث اعتبر عضو المكتب التنفيذي لحركة النهضة خليل البرعومي في حديث لـTRT عربي أنّ البيان الأخير للحركة الذي وصفه البعض بأنه قوي ولهجة تصعيدية، "توصيفاً لحالة عشناها بشكل متكرر ومستمر لقراءة رئيس الجمهورية بشكل أحادي فردي وشاذ في أغلب الأحيان".

وأضاف البرعومي أنّ هذا الموقف تأجّل لأكثر من مرّة، حيث كانت النهضة ترى أن مواقف الرئيس ربما تكون مجرد تعبير عن آراءه المختلفة، ولكن هذه المرّة كانت في مناسبة رمزية وهي عيد قوات الأمن الداخلي وبحضور كبار الضباط التونسيين، وكان خطابه موجهاً لجميع الحاضرين باعتباره أوامر صادرة عنه، وكان هناك نوع من الوعد والوعيد وهو ما اعتبرته حركة النهضة صورة سيئة شكلاً ومضموناً ولا يمكن القبول به أو السكوت عنه.

وأكّد البرعومي أنّ "البيان هو إعلان عن خطر في المشهد السياسي التونسي ولكن رغم كل ذلك، النهضة ترى الحلّ في حوار وطني يكون على رأس بنوده المحكمة الدستورية والقانون الانتخابي والمسائل الاقتصادية والاجتماعية، والنهضة تبحث عن توافقات وتقاطعات مع مختلف الفاعلين السياسيين في البلاد بالإضافة إلى المنظمات الوطنية، ونفضّل في النهضة أن يكون الحوار الوطني تحت إشراف رئيس الجمهورية ولكن في صورة رفض رئيس الدولة للحوار فالبديل عن الحوار هو الفوضى والخلافات العقيمة، وهو ما سيجعل الطبقة السياسية في مواجهة مع الشعب خاصّة مع شبح الإفلاس وعجز المالية العمومية وتفاقم الأزمة الاقتصادية في البلاد".

TRT عربي