تابعنا
أنقرة تتحرك في الميدان لكن عينها على طاولة المفاوضات. هذا الموقف التركي بين طاولة المفاوضات والميدان عبّر عنه الرئيس التركي بشكل واضح بقوله: "نحن جاهزون دوماً لحل الخلاف عن طريق الحوار وعلى أساس الحقوق".

عادت مياه شرق المتوسط لتسخن من جديد مع اكتشاف اليونان مزيداً من الثقة على إثر دعم فرنسا والاتحاد الأوروبي، وإعلانها مع مصر التوقيع على اتفاقية لترسيم الحدود البحرية بين الطرفين، وذلك في أثناء زيارة وزير الخارجية اليوناني إلى القاهرة في السادس من أغسطس/آب.

الاتفاقية الثنائية قوبلت برفض قاطع من قبل أنقرة، التي أعلنت أن رفضها للاتفاقية لن يقف عند المستوى الدبلوماسي فحسب، بل سيتعدى ذلك إلى الصعيد الميداني أيضاً. وبالفعل فإن الرد التركي لم يتأخر، إذ قامت أنقرة بإرسال سفينة المسح الزلزالي إلى المنطقة المتنازع عليها مع اليونان، وذلك برفقة قطع عسكرية، ما فتح المجال أمام أسئلة التصعيد. وإذ تسعى أنقرة لتثبيت حقوقها ميدانياً فإنها تتطلع للعودة إلى طاولة الحوار البناء من جديد.

التصعيد التركي هو رد فعل على تصعيد الأطراف الأخرى

الرد التركي الرافض جاء نتيجة قراءة أنقرة للاتفاقية على أنها استمرار لمحاولات تهميش تركيا في شرق المتوسط، وأنها تستهدف الاتفاقية الأخيرة الموقعة بين طرابلس وأنقرة، وبهذا تتعدى على المياه الإقليمية التركية، وبأن الاتفاقية جاءت رغم حسن نية أنقرة التي أوقفت عمليات المسح والتنقيب مستجيبة بذلك لدعوات الحوار التي أطلقتها الحكومة الألمانية.

فالاتفاقية المعلنة بين القاهرة وأثينا تمثل حلقة في سلسلة المحاولات الإقليمية لعزل تركيا واستبعادها من مياه وثروات شرق المتوسط، هذا بالرغم من تمتع أنقرة بالشواطئ الأطول في شرق المتوسط.

ومن الجدير بالذكر أن محاولات تهميش تركيا وإقصائها قد بدأت منذ الانقلاب العسكري في مصر الذي قاده المشير عبد الفتاح السيسي ضد الرئيس المنتخب ديمقراطياً محمد مرسي، إذ بدأ النظام المصري العمل على التقارب الثلاثي مع إسرائيل وقبرص اليونانية.

هذا التعاون الثلاثي تعزز عبر دخول اليونان على خط التقارب، والتعاون بين هذه الدول جرى تتويجه من خلال الإعلان عن تأسيسهامنتدىغاز شرق المتوسط في يناير/كانون الثاني 2019، في حين استبعدت تركيا من مفاوضات إنشائه ومن اجتماعه التأسيسي.

محاولات استبعاد تركيا في شرق المتوسط ردت عليها تركيا من خلال التصعيد ميدانياً، والبدء بعمليات المسح والتنقيب التي تسارعت منذ عام 2018 مع تعزيز أنقرة لقدراتها الذاتية. ويسجل هنا أن عمليات التنقيب بدأتها قبرص الرومية منذ عام 2011، في حين أن تركيا لم تطلق عمليات البحث أو التنقيب إلا بعد سبعة أعوام في 2017.

محاولات تركيا لتجاوز الاستبعاد وأخذ زمام المبادرة تتوج من خلال توقيع مذكرة تفاهم لترسيم الحدود البحرية مع طرابلس في نوفمبر/تشرين الثاني 2019، وهي الاتفاقية التي نقلت تركيا من خانة الدفاع ورد الفعل إلى خانة الهجوم والفعل في شرق المتوسط.

وبالرغم من تسجيل تركيا للاتفاقية لدى الأمم المتحدة، فإن الاتفاقية الأخيرة المعلن عنها بين اليونان ومصر تجاهلت الاتفاقية التركية الليبية بل تعمل على استهدافها، وذلك من خلال ترسيم المساحات التي جرى ترسيمها سابقاً. وبهذا فإن أنقرة ترى الاتفاقية اعتداءً واضحاً على سيادتها ومياهها الإقليمية.

وما جعل أنقرة تأخذ موقفاً حاسماً تجاه الاتفاقية أيضاً، هو أن هذه الاتفاقية جاءت في الوقت الذي يفترض فيه أن الطرف اليوناني قد بدأ جولة من الحوارات مع الطرف التركي لإيجاد حلول لقضايا شرق المتوسط.

فقد كانت تركيا قد استجابت لدعوات الحوار التي أطلقتها ألمانيا التي تترأس الرئاسة الدورية للاتحاد الأوروبي، وعليه فقد قامت تركيا بإيقاف عمليات المسح والتنقيب، وتوجهت للحوار الدبلوماسي في العاصمة الألمانية برلين على رأس وفدٍ ترأسه السفير إبراهيم قالن الناطق باسم الرئاسة التركية. إلا أن أثينا قامت باستغلال حسن النية التركية واستغلت الظرف لتوقيع اتفاقية ترسيم حدود بحرية مع مصر، وذلك في محاولة لفرض أمر واقع على الأرض.

محاولات عزل أنقرة إقليمياً وتجاوز الاتفاقية التي وقعتها مع طرابلس واستغلال نياتها للحوار قوبلت برفض قاطع من قبل أنقرة، وجاء الرد التركي عبر إطلاق سفينة أوروتش رئيس للعودة من جديد إلى عمليات المسح والتنقيب. والملفت أن السفينة ستقوم بأعمال التنقيب الأولية في المنطقة التي تزعم اليونان أنها تمثل نقطة تقاطع مع حدودها البحرية مع قبرص الرومية، على أن يتم توسيع مساحة التنقيب، بل حتى إمكانية التعاون مع شركات دولية في هذا الصدد، كما أشار وزير الخارجية التركية جاوش أوغلو في تصريحاته.

موقف تركيا المبدئي هو مع الحوار في شرق المتوسط

الموقف التركي لا يمثل محاولة للتصعيد ورداً للحوار، بل على العكس من ذلك فقد قام الرئيس التركي، حتى بعد الخطوة المصرية اليونانية، بالدعوة إلى عقد حوار بين الدول المتشاطئة والعمل على "إيجاد صيغة تحفظ حقوق الجميع".

هذا في الوقت الذي جدد فيه وزير الخارجية التركي جاوش أوغلو من العاصمة السويسرية بيرن الموقف التركي المبدئي من الحوار. كما أن تركيا لم تقم حتى الآن بإعلان حدود منطقتها الاقتصادية الخالصة في عموم شرق المتوسط، مفضلة الانتظار إلى حين حصول تفاهم بين أنقرة وكل من القاهرة وبيروت، بل حتى لاحقاً مع دمشق.

وفي سياق دعوات الحوار يبرز الدور الألماني، إذ تتمتع ألمانيا بعلاقات جيدة مع كل من أثينا وأنقرة، التي تمثل ألمانيا شريكاً تجارياً مهماً بالنسبة إليها، كما أن ألمانيا تترأس حالياً الرئاسة الدورية للاتحاد الأوروبي ما يعطيها ثقلاً أكبر كوسيط، فضلاً عن أن ثقل ألمانيا داخل الاتحاد يجعلها قادرة على موازنة الموقف العدائي الذي تتخذه فرنسا من تركيا، أو حتى دعوات قبرص الرومية واليونان لفرض عقوبات على تركيا.

وحول الدور الألماني كوسيط بين تركيا واليونان يرى إركوت أيواز الباحث في مركز ستا-برلين، في تصريحِ خاص لـTRT عربي أن "ألمانيا تبحث عن قصة نجاح في سياستها الخارجية، بما يعزز من دورها في الاتحاد الأوروبي على الصعيد السياسي، فضلاً عن الصعيد الاقتصادي، خاصةً بعد خروج المملكة المتحدة من الاتحاد، وما يعزز دورها أيضاً على المنصة الدولية في ظل خلافات برلين مع واشنطن حول استيراد الغاز الروسي من قبل ألمانيا".

ويشير أيواز إلى أن ألمانيا تريد تحقيق نجاح على صعيد سياستها الخارجية في المرحلة الحالية التي تترأس فيها الرئاسة الدورية للأمم المتحدة، وتشغل فيها مقعداً غير دائم في مجلس الأمن.

ويضيف: "أنه لا ينبغي إغفال رغبة المستشارة الألمانية ميركل في تحقيق إنجاز سياسي قبيل مغادرتها سدة الحكم في العام القادم"

وبالرغم من استغلال أثينا المساعي الألمانية للحوار مع تركيا وعقد صفقة منفردة مع مصر، فإن أنقرة عادت ورحبت بالجهود الألمانية. وفي هذا السياق جاءت زيارة وزير الخارجية الألمانية هايكو ماس إلى أنقرة في الخامس والعشرين من أغسطس/آب، حيث التقى نظيره التركي مولود جاوش أوغلو.

وحول حدود الدور الألماني وإمكانية مساهمته في الوساطة بين تركيا واليونان يرى الباحث أيواز من مركز ستا-برلين أن "ألمانيا لا تتبنى سياسة عدوانية تجاه تركيا مقارنة بفرنسا"، لكنها في المقابل "لا تدين بشكلٍ واضح الخطوات التصعيدية اليونانية"، ومن ثم يمكن القول إنها أيضاً "تتبنى وجهة نظر أقرب إلى أثينا". مشدداً على أن برلين على الأقل تؤكد أنه "لا بدّ من التوصل إلى حل على طاولة المفاوضات".

وبينما تنظر تركيا بإيجابية إلى المساعي الألمانية، فإنها مستمرة في تثبيت حقوقها على الأرض، وهو ما جرى تأكيده من خلال إطلاق تركيا لإخطار بحري NAVTEX وتمديد عمل سفينة أوروتش رئيس المسحية حتى الأول من سبتمبر/أيلول، مع استمرار إجراء العمليات العسكرية في بحر إيجة والبحر المتوسط.

أنقرة تتحرك في الميدان لكن عينها على طاولة المفاوضات. هذا الموقف التركي بين طاولة المفاوضات والميدان عبر عنه الرئيس التركي بشكل واضح بقوله: "نحن جاهزون دوماً لحل الخلاف عن طريق الحوار وعلى أساس الحقوق، وإلى حين تبني هذه الفكرة فإن تركيا ستستمر في تنفيذ خططها في الميدان والمجال الدبلوماسي".

TRT عربي