تابعنا
لطالما شكّل مصير المفقودين في سوريا قضيّة محوريّة، إذ استخدم النظام السوري الاعتقال التعسفي والإخفاء القسري وسيلة لترهيب المحتجين والمعارضين.

وسط ترحيب من منظمات حقوقية وردود فعل دولية إيجابية، أقرَّت الجمعية العامة للأمم المتحدة إنشاء مؤسسة دولية توضّح مصير المفقودين في سوريا، بعد سنوات من مطالب ذوي المفقودين والمختفين قسراً، وبعد جهود مناصرة حثيثة في هذا الإطار منذ اندلاع الثورة في البلاد عام 2011.

وتبنّت الأمم المتحدة القرار في 29 يونيو/حزيران لـ"استجلاء مصير المفقودين في سوريا وأماكن وجودهم وتقديم الدعم للضحايا وأسرهم"، وحظي بتأييد 83 دولة، بينما صوّتت 11 دولة ضده، وامتنعت 62 دولة عن التصويت.

ولطالما شكّل مصير المفقودين في سوريا قضيّة محوريّة، إذ استخدم النظام السوري الاعتقال التعسفي والإخفاء القسري وسيلة لترهيب المحتجين والمعارضين، كما استخدمت أجهزة الأمن السورية التابعة للنظام ورقة المفقودين لابتزاز عائلاتهم بمبالغ ماديّة، ووثّقت "رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا" عام 2021 عمليات ابتزاز مالي للأهالي مقابل معلومات عنهم وزيارات لرؤيتهم أو إطلاق سراحهم.

وعارض النظام قرار الأمم المتحدة على لسان مندوبها الدائم بسام صبّاغ معتبرةً أنه "قرار آخر مسيّس يستهدف سوريا، ويعكس تدخلاً سافراً في شؤونها الداخلية"، وأن "سوريا لم تكن طرفاً في أي من هذه المناقشات التي جرت، ولم تُدعَ إليها، ولم يتشاور أحدٌ معها".

تفاؤل حذر

رغم رفض النظام السوري مشروع قرار إنشاء المؤسسة واتخاذه صيغة لاذعة بانتقادها واعتبارها "مسيّسة" و"غامضة المعالم"، في إشارة واضحة إلى عدم التعاون معها مستقبلاً، إلّا أن بعض ذوي المعتقلين الذين التقتهم TRT عربي أبدوا بعض التفاؤل بهذه الخطوة.

وبينما تنتظر زوجها المعتقل على يد قوات النظام السوري، رغم الأخبار المتضاربة التي تصلها عن مصيره ما إن كان قد قُتل أو لا يزال على قيد الحياة، تُبدي السيّدة السورية مياسا الشيخ أحمد أملاً بإيجاده، وتقول لـTRT عربي، "لدي أمل في معرفة مصير زوجي المعتقل، وأتمنى أن تحقق المؤسسة هدفها في إيجاد المفقودين".

وتتابع، "أنتظر زوجي منذ 11 عاماً وخمسة أشهر، لا أعلم ما إن كان حيّاً أم تُوفّي، لا أعلم أين هو في كلتا الحالتين، تهجّرنا من منازلنا وتعرضت مع أولادي إلى القصف، لكن السؤال الذي يؤرقني دائماً هو، أين زوجي؟"

وحول تعويلها على خطوة الأمم المتحدة إنشاء المؤسسة المستقلة من أجل "استجلاء" مصير المفقودين، من بينهم زوجها، رحّبت مياسا بهذا القرار وتمنّت أن تنجح في تحقيق هدفها الرئيسي، إلّا أنها ترى أن القرار أتى متأخراً جداً قياساً إلى أعداد المختفين قسراً في سوريا، وقالت "أن تأتي متأخراً خيرٌ من ألا تأتي".

بدورها ترى الناشطة السورية والمعتقلة السابقة، فدوى محمود، أن المؤسسة تشكّل "بارقة أمل" لها ولمعظم الأهالي الذين طال انتظارهم وزادت خيبات أملهم بكل شيء.

تعمل فدوى منذ سنوات في ألمانيا على مناصرة قضيّة المفقودين، بينهم زوجها وابنها، عبر حملة "عائلات من أجل الحرية" التي تجمع عدداً من ذوي المعتقلين والمفقودين.

وتقول فدوى لـTRT عربي إن "هذه المؤسسة هي من جهد وتعب العائلات، نعلم التحديات التي ستواجهها، وخاصة من النظام السوري، لكن تعنّت النظام وشركائه لن يلغي مشاركتنا".

الشريك المؤسس في "رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا"، محمد منير الفقير، قال لـTRT عربي إن أي خطوة، ولو إعلاميّة، في جهة الكشف عن مصير المفقودين يمكن أن تشكل "بارقة أمل" للأهالي.

ويدعو الفقير السياسيين والفاعلين الحقوقيين والمجتمعيين إلى بذل جهود إضافية لتوعية الأهالي للمآلات المتوقعة من المؤسسة، وأن "يضبطوا توقعاتهم منها، ولا يكونوا في مواجهة إحباطات جديدة تجعلهم عرضة للأزمات النفسية والحزن، كي لا يقعوا في مصائد شبكات الابتزاز المالي التي تعدهم وتمنّيهم كذباً وزوراً بالكشف عن مصير أبنائهم، ولكيلا يتحولوا أيضاً إلى وقود للصفقات السياسية المرتبطة بحل القضية السورية على حساب أبنائهم المفقودين"، وفق تعبيره.

سقف توقعات منخفض.. ما الجدوى؟

بلغت حصيلة المختفين قسريا في سوريا ما لا يقل عن 111 ألفاً و907 أشخاص، بينهم 3041 طفلاً و 6642 سيدة (أنثى بالغة)، على يد أطراف النزاع والقوى المسيطرة منذ مارس/آذار 2011 حتى أغسطس/آب 2022، والنظام السوري مسؤول عن قرابة 86٪ منهم، وفق "الشبكة السورية لحقوق الإنسان" .

ورحّبت الشبكة بقرار إنشاء المؤسسة وأبدت تعاوناً معها في المستقبل، مشيرةً إلى أهميتها في دعم ومناصرة ملف المفقودين في سوريا، لكنها حذّرت من "خطورة رفع سقف التوقعات من هذه المؤسسة على أهالي المفقودين والمختفين قسريّاً".

وحسب البيان، فإن المؤسسة "ستحشد من دون شـك الجهود الحقوقية السورية والدولية لدعـم ملف المفقودين، وربما تتمكن من بناء قاعدة بيانات مركزية، وستشكل منصة يمكن لعشرات الآلاف مـن أهالي المفقودين التواصل معها، لكـن دورهـا لـن يكون الإفراج عن المعتقلين تعسفيّاً".

من جانبه، يوضّح مدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان، فضل عبد الغني، بأن المطالبة بتشكيل هذه الآلية كانت منذ عام 2011، إذ طالبت لجنة التحقيق الدولية المستقلة في تقريرها الأول حول سوريا بإنشاء آلية أممية مهمتها الخاصة الكشف عن مصير المفقودين.

ويلفت عبد الغني في حديثه لـTRT عربي، إلى أن "الآلية هي للمفقودين الذين من أبرزهم المختفون قسرياً، إذ يشمل مصطلح المفقودين من قُتل أو اختفى أو فُقد من دون علم ذويه"، ومشيراً إلى أنه في سوريا القسم الأكبر من المفقودين هم المختفون قسرياً، وممن ماتوا تحت التعذيب.

ويبيّن أنه "منذ 12 عاماً توثّق الشبكة بشكل يومي قضية المعتقلين ومن أُفرج عنهم، إذ تركّز البيانات على أنّها الحد الأدنى الذي تمكّنا من تسجيله، فهنالك تقريباً 156 ألفاً بين معتقلٍ ومختفٍ قسرياً، إذ أخفى النظام السوري الأغلبية العظمى منهم".

ولفت إلى أن "المجتمع الدولي وآليات الأمم المتحدة وكل الجهود لم تستطع إطلاق سراح معتقل واحد، ولا تكشف عن مصير المختفين قسرياً، إذا هناك إخفاق كبير في هذا الملف، والأمر باعتراف الجميع"، وفق عبد الغني.

وعن جدوى هذه الآلية في المناصرة، قال، "مُتوقع من هذه المؤسسة مناصرة ملف المفقودين ووضعه على طاولة الحلّ السياسي، أي لن يكون هناك حلٌّ من دون معالجة هذه القضية وإبرازها للرأي العام ووضعها ضمن أجندة الدول والمطالبة بإطلاق سراح المعتقلين والكشف عن مصيرهم، إضافة إلى جمع بيانات عن المختفين وإبلاغ الأهالي، وأن تكون بمنزلة منصة تنسّق بين عمل المؤسسات الحقوقية الدولية والسورية".

وفي تعليقه على ما ذكره بيان الشبكة عن "خطورة رفع سقف التوقعات"، يوضّح عبد الغني أنه "عادة ما يحدث في آليات الأمم المتحدة التي تُنشأ، هو التركيز على ما تستطيع القيام به فقط، إذ يجب التذكير أيضاً بالمهام التي لا تستطيع إنجازها حتى لا يصيب الأهالي أملٌ زائفٌ وتضخيمٌ ومبالغةٌ".

بدوره يعتقد منير الفقير، أنّ "فرص نجاح المؤسسة نادرة أو شبه منعدمة، لعدم وجود آليات إلزام للنظام السوري للتعاون في ذلك، لكون الموضوع قد أُقرَّ عن طريق الجمعية العامة للأمم المتحدة وليس مجلس الأمن، ولعدم وجود توافق دولي بالحد الأدنى حول المؤسسة، فضلاً عن موقف عربي موحّد تقريباً من عدم تأييدها بانتظار خطوات بديلة قد يكون وعد بها النظام".

ويرجّح الفقير إمكانية "نجاح المؤسسة في مناصرة قضية المفقودين في سوريا وبناء قاعدة بيانات ضخمة ومركزية فيما يتعلق بهم، وأيضاً باعتبار تأييد 83 دولة لتشكيلها، فهذا بحدّ ذاته يشكل نقطة مهمة في إدانة جميع القوى المتورّطة بجرائم ضد الإنسانية مثل الإخفاء القسري، وهو مهم لمنع الإفلات من العقاب".

"خطوة تاريخية"

وصفت لجنة التحقيق الدولية المستقلة بشأن سوريا قرار إنشاء المؤسسة بـ"التاريخي"، إذ صرّح رئيس اللجنة، باولو بينيرو، أن "هذه الخطوة طال انتظارها من المجتمع الدولي، وجاءت أخيراً لمساعدة عائلات جميع من اختفوا قسراً وخُطفوا وعُذّبوا واحتُجزوا في الحبس التعسفي بمعزل عن العالم الخارجي على مدى السنوات الـ12 الماضية".

كما رحّب مفوّض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان بالقرار بقوله: "المبادرة مطلوبة بشدة، فالعائلات لها الحق في معرفة مصير وأماكن وجود أحبّتها بهدف مساعدة المجتمع بأسره على التعافي".

ووفق مندوب لكسمبرغ الدائم لدى الأمم المتحدة، أوليفيه مايس، فإن المؤسسة الجديدة "ستعمل على التنسيق والتواصل مع كل الأطراف، وستكون نقطة موحدة لجمع ومقارنة البيانات المتعلقة بمصير المفقودين وأماكن وجودهم، وسدّ جوانب القصور الحالية، إذ لا يوجد تنسيق كاف بين الأطراف المعنية، الأمر الذي ينتج عنه قوائم غير مكتملة للأشخاص المفقودين، كما لا توجد جهة موحدة يلجأ إليها أهالي المفقودين لمعرفة مصير ذويهم".

وكانت منظمة "هيومن رايتس ووتش" ومنظمات سورية ودولية قالت في بيان مشترك إن "المضيّ قدماً في هذه القضية أساسي للأسر والمجتمع كله، يجب على المجتمع الدولي أن يمدَّ يدَ الدعم والمساعدة للأسر والضحايا المحتاجين، الشعب السوري لا يستحق أقل من ذلك".

بينما صرّحت الأمينة العامة لمنظمة العفو الدولية، أنياس كالامار، عشيّة التصويت على إنشاء المؤسسة بأنه "يمكن للدول الأعضاء في الأمم المتحدة توفير وسيلة لإعمال حق العائلات في الكشف عن الحقيقة من خلال إنشاء مؤسسة متخصّصة تركز على الضحايا، لتوفر لذويهم الإجابات التي طال انتظارها بشأن ما حدث لأحبائهم".

TRT عربي