تتزاحم الأحداث والانتخابات في عام 2024 في دول عدة على المسرح العالمي، وتتقاطع خيوط التغيير السياسي والاقتصادي لتشكل محطات رئيسية وتحولات ملحوظة في عديد من الدول تنعكس تأثيراتها بوضوح على الاقتصاد العالمي.
فكيف ستُلقي هذه التغيرات بظلالها على الاقتصاد العالمي، وهل سيُعاد تشكيل الطابع العالمي للأسواق المالية والتجارة الدولية تحت وطأة هذه التحولات؟
انتخابات عالمية مرتقبة
أكثر من مليارَي شخص في أكثر من 70 دولة سيتوجهون إلى صناديق الاقتراع للإدلاء بأصواتهم في انتخابات مختلفة، وتُشير تصريحات لهيئة الرقابة الحكومية الدولية إلى أن نصف دول العالم تعاني تراجعاً ديمقراطياً، وأن الانتخابات المرتقبة في أنحاء العالم ستكون بعيدة عن الديمقراطية.
وهذا سيُشكل تحدّياً أمام الاقتصاد العالمي، إذ إن حالة عدم اليقين بشأن الانتخابات وتداعياتها السياسية يمكن أن تشكل عائقاً أمام النمو الاقتصادي العالمي، الذي سيشهد تباطؤاً في عام 2024، حسب توقعات البنك الدولي ليصل إلى 2.6% مع احتمال حدوث ركود معتدل في أوروبا والمملكة المتحدة.
ما التوقعات الاقتصادية لعام 2024؟
يُشير تقرير آفاق الاقتصاد العالمي إلى أن الاقتصاد سيظل هشّاً في عام 2024، ورغم أن التضخم سيكون أقل من العام السابق، فإن نسبته ستبقى مرتفعة بشكل عام، أي ما زالت أعلى من هدف بنك الاحتياطي الفيدرالي البالغ 2%.
ومن المتوقع أن يصل معدل التضخم العالمي إلى 5.8% لعام 2024 مع عدم توقع وصول الاقتصادات الكبيرة إلى هدفها في انخفاض التضخم إلى نسبة 2% حتى عام 2025، وفي الوقت نفسه هناك توقعات بتضخم أقل من 3% في الاقتصادات المتقدمة.
ويرى مراقبون أيضاً أن تشهد اقتصادات الأسواق الناشئة والاقتصادات النامية تضخماً بنسبة 7.8% مقارنةً بعام 2023، إذ بلغ 8.5%، كما سيشهد بعض البلدان مثل الأرجنتين ومصر وغيرها معدلات تضخم تتجاوز 10%.
وبالعودة إلى أكبر الاقتصادات في العالم، الولايات المتحدة الأمريكية والصين والهند، فإن انتخابات الولايات المتحدة في 2024 ستكون تأثيراتها على مستوى العالم.
وستشهد الولايات المتحدة نمواً اقتصادياً أبطأ إلى حدّ ما عن عام 2023، إذ كان معدل النمو 2.6%، ومن المتوقع أن يصل إلى 1.3 في عام 2024، ويقترب من 1.7% لعام 2025، فيما قد يصل معدل التضخم إلى أقل من 2.5% لعام 2024 بعد أن بلغ 3.7% لعام 2023، حسب بنك الاحتياطي الفيدرالي.
ومع تباطؤ نمو اقتصاد الصين، ثاني أكبر اقتصاد في العالم، الذي يُتَوَقّع أن ينخفض إلى نسبة 4.6% بعد أن كان 5% لعام 2023، وذلك بسبب استمرار الضعف في قطاع العقارات وضعف الطلب الخارجي، وأيضاً تصاعد التوترات بشأن تايوان، واستمرار أمريكا في الحدّ من قدرة الصين على الوصول إلى التكنولوجيات المتقدمة.. ستزداد حدة الحرب الباردة بين الطرفين.
أما فيما يخص الهند فيُتوقع أن يصل نمو اقتصادها إلى 6.7% لعام 2024 بعد أن كان 6.3% لعام 2023، حسب بيانات صندوق النقد الدولي ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، ويرى اقتصاديون أنه من المتوقع أن يظل النمو الاقتصادي في الهند قوياً، إذ تُعدّ آفاق الاقتصاد الهندي إيجابية ويمكن أن تحقق تقدماً ملحوظاً.
أسعار الفائدة وأسواق النفط في 2024
وفقاً لـ"CME FedWatch" وهي أداة تتبع احتمالية تغيرات أسعار الفائدة الفيدرالية، فإن هناك فرصة لخفض أسعار الفائدة في مارس/آذار المقبل، كما يُشير بنك الاحتياطي الفيدرالي إلى ثلاثة تخفيضات محتملة لأسعار الفائدة في عام 2024 وذلك بناءً على تباطؤ النمو، إذ يرتبط العائد على سندات الخزانة ارتباطاً وثيقاً بتوقعات سعر الفائدة الفيدرالي.
وستشجع تخفيضات أسعار الفائدة أيضاً الاستثمار في بلدان الأسواق الناشئة، التي ستقدم معدلات عائد أعلى نسبياً.
وفيما يخصّ أسعار النفط، كانت الحرب على قطاع غزة وهجوم إسرائيل، سبباً مهماً في التوقعات، إذ استخدم البنك الدولي توقعاته لسوق السلع الأساسية للتحذير من أن أسعار خام برنت قد ترتفع إذا انجذب المنتجون في المنطقة إلى صراع أوسع نطاقاً.
ووفقاً لبنك غولدمان ساكس، سيتراوح سعر خام برنت بين 70 و90 دولاراً للبرميل في 2024، بمتوسط يتراوح بين 80 و81 دولاراً في عامَي 2024 و2025، وجرى تقليص التوقعات بمقدار 10 دولارات بسبب العرض الأمريكي القوي. ومن المتوقع أن تظل سوق النفط متقلبة خلال 2024 بسبب التوترات الجيوسياسية والعوامل الاقتصادية.
تأثيرات سلبية
لا شكّ أن ملامح التغيرات السياسية المرتقبة تفتح الباب لعديد من الأسئلة، مثل التغيرات في سياسات التجارة الخارجية والاستثمارات العابرة للحدود والتحديات المتوقعة.
وفي هذا الجانب يتوقّع د.مدحت نافع، محاضر الاقتصاد والتمويل في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة، أن "التغييرات في البيئة السياسية لها تأثير سلبي على توقعات النمو الاقتصادي العالمي، خصوصاً في ظل تنامي التوجه نحو التراجع والارتداد عن العولمة".
ويرى نافع في حديثه لـTRT عربي، أن "الاتجاه الشعبوي والانغلاقي الذي يتبناه كثير من الحكومات المنتخبة، خصوصاً ذات الاتجاه اليميني، يشكل عاملاً مؤثراً، لا سيّما في الدول الكبيرة مثل الولايات المتحدة والهند والصين، إذ قد يتسبب انتخاب قادة يتبنون الاتجاه الانغلاقي في تقليل حركة التجارة العالمية والتأثير في توقعات النمو".
وعن تأثير الانتخابات في العلاقات الجيوسياسية للدول صاحبة الاقتصادات المتقدمة، يشير نافع إلى أن "الهند لها أهمية كبيرة جداً جيوسياسة بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية في سياستها طويلة الأجل لاحتواء المدّ الصيني، كما إن أي تغيير متوقَّع في صانعي السياسات لديها لن يؤثر في العلاقات مع أمريكا".
وحول الانتخابات الأمريكية، يلفت د.نافع إلى أن هناك توقعات بعودة تيار ترمب في الولايات المتحدة، الذي يترتب عليه نقص في الالتزامات الخاصة بالبيئة وتخضير الاقتصاد والتجارة المفتوحة.
تأثر النمو والتجارة
وتشمل أهم التحديات القائمة في 2024 التغيرات المناخية وتأثيراتها الاقتصادية السلبية، وتفاقم أزمة الديون نتيجة التشديد النقدي في الفترة السابقة، وفق د.مدحت نافع، إذ يُتوقع الآن تهدئة في سياسات التشديد النقدي بفضل استقرار معدلات التضخم وظهور مؤشرات سلبية في التوظيف والنمو.
ويرى محاضر الاقتصاد أن اتجاه البنوك المركزية قد يتحول نحو التيسير النقدي لتحفيز النمو، وقد يعزز التيسير النقدي فرص النمو ويسهم في تسديد الديون الخارجية بأسعار أرخص، مما يعزز الفرص للدول المدينة النامية.
ويبيّن نافع أن تأثير التغيير السياسي في العلاقات التجارية بين الدول هو تأثير يختلف حسب نظام الدولة، إذ كلما كانت الدولة مستقرة سياسياً وتحكمها المؤسسات فالتغيير السياسي لا يؤثر على علاقتها بشكل كبير.
ويستدرك بقوله: "هناك استثناءات حتى لهذه القاعدة، مثل التغيير السياسي في الولايات المتحدة، حينما أتى بتيار يميني شديد الانغلاق بزعامة ترمب كان شديد التطرف، وأثّر بشكل كبير في العلاقات التجارية، وظهرت ما عُرف بالحرب الباردة التجارية بين الولايات المتحدة والصين، وامتدت تبعاتها وآثارها على حركة التجارة العالمية بشكل عام".
وفي ظل التوقعات والتغيرات السياسية المرتقبة لا بدّ من الإشارة إلى إمكانية تشكيل تحالفات اقتصادية جديدة، إذ يوضّح د.نافع مدى إمكانية تحقيق أهداف هذه التحالفات من عدمها، مشيراً إلى أن التحالفات الاقتصادية سواءً كانت قديمة أم حديثة، تشهد تعقيدات متزايدة في تحقيق أهدافها؛ بسبب تشابك العلاقات الاقتصادية والسياسية.
ويردف: "على سبيل المثال، في تحالف بريكس نجد صراعات بين كثير من الأعضاء، وبعد امتداد بريكس بلس وجدنا إيران والسعودية موجودتين في تحالف واحد، وحتى الآن كل نجاحات التحالفات الجديدة مشروطة بمحدودية الهدف الذي يمكن تحقيقه، إذ يجب التركيز على تحديد أهداف محددة وضيقة المجال لضمان نجاح التحالفات الجديدة وتفادي التعارضات المحتملة في الأهداف الواسعة".
2024 تحت مجهر السياسة
السياسة تُدير الاقتصاد، ولا بدّ من إلقاء الضوء على العلاقة بين القرارات السياسية والديناميات الاقتصادية خلال الفترة المقبلة، وفي هذا السياق يوضّح د.أشرف سينجر، عضو المجلس المصري للشؤون الخارجية، أن الانتخابات القادمة في الولايات المتحدة، سواء فاز بايدن أو ترمب سيكون لها تأثير كبير على الاقتصاد العالمي.
ويشير سينجر في حديثه لـTRT عربي، إلى تأثير الحرب في غزة على السياسة الداخلية الأمريكية، إذ تُظهر استطلاعات للرأي ازدياد دعم الشباب لفلسطين أكثر من إسرائيل، وأن الحرب في غزة تثير قلقاً بين صانعي السياسات في إسرائيل والولايات المتحدة.
ويرى سينجر أن الانقسامات الظاهرة بين الولايات المتحدة وأوروبا هي "انقسامات شكلية" وليست في موضوعات جوهرية، وعن هذا يقول: "لا يزال التعاون بين الأوروبيين والأمريكيين قائماً حول السعي لانتصار كييف، إذ تُمثل أوكرانيا أهمية استراتيجية لشكل النظام الدولي، وضياعها يعني ضياع تايوان وبالتالي صعود الصين وروسيا، وهذا أمر لا تقبله الولايات المتحدة ولا أوروبا".
السياسات المحتملة والتحديات
وفيما يخصّ الانتخابات في الهند أو الصين، يرى سينجر أن هذه الانتخابات قد لا تؤدي إلى تغييرات كبيرة في السياسة الخارجية لهذين البلدين.
ويشير أيضاً إلى أن العلاقات الصينية-الأمريكية في عام 2024 قد لا تشهد تصعيداً؛ لأن الصين قد لا تكون جاهزة لغزو تايوان نظراً للتحديات الاقتصادية التي تواجهها.
ويبيّن أن التحولات الاقتصادية في عام 2024 واضحة، خصوصاً في موضوع العلاقات الصينية-الأمريكية، وأن محاربة الاستثمارات الصينية تسبب انكماشاً في العالم، وبالتالي فتح فكرة طريق التجارة الجديد الذي يشمل الهند والإمارات والسعودية وإسرائيل.
ويستدرك سينجر: "لكنّ حرب غزة وغيرها من الاضطرابات والحروب في المنطقة ستسبب مشكلات في المُضيّ في طريق التجارة هذا عوضاً عن طريق الحرير الذي كانت الصين تحاول الترويج له وما زالت فكرته قائمة، ولكن هذه الطرق كلها تبقى تواجه تحديات الاستقرار في مرورها عبر دول ما زالت تواجه صراعات، وهذا يؤكد أن عام 2024 ليس عاماً تُتوقَّع فيه سياسات استثمارية عالمية منفتحة".
ويؤكد سينجر أن الاستقرار الاقتصادي العالمي قد يواجه تحديات، خصوصاً في سياق التوترات الجيوسياسية والحروب المحتملة في المناطق المتأثرة.