تابعنا
ظلّت الصين لسنوات نموذجاً للنمو الاقتصادي المتواصل، سواء من حيث الإنتاج أو الاستهلاك، إلا أنّ الانكماش الذي حدث هذه المرة استنفر السلطات الرسمية في البلاد.

سجلت الصين مرحلة انكماش في الأسعار هي الأولى منذ عام 2021، بعد أن واصلت أسعار المنتجين انخفاضها في شهر يوليو/تموز الماضي، في صورة مناقضة لدول العالم التي تعاني تضخماً قياسياً، الأمر الذي جعل المراقبين يتخوفون من تأثير هذا الانكماش على اقتصاد الصين ونموه، والانعكاسات التي قد يُحدثها على الاقتصاد العالمي.

وظلّت الصين لسنوات نموذجاً للنمو الاقتصادي المتواصل، سواء من حيث الإنتاج أو الاستهلاك، إلا أنّ الانكماش الذي حدث هذه المرة استنفر السلطات الرسمية في البلاد، ولفت انتباه الخبراء بالنظر إلى السيناريوهات التي قد يُحدثها في حال بقي وضع الاقتصاد على حاله.

مرحلة انكماش

وقبل أيام، أعلن المكتب الوطني الصيني للإحصاء أنّ مؤشر أسعار المستهلكين انخفض بنسبة 0.3% في يوليو الماضي على أساس سنوي، مقارنةً بمتوسط ​​تقديرات بانخفاضه 0.4% في استطلاع أجرته وكالة رويترز، وهو أول انخفاض للمؤشر منذ فبراير/شباط 2021، حيث تراجع مؤشر أسعار المنتجين للشهر العاشر على التوالي بانخفاضه بـ4.4%، متجاوزاً بذلك التوقعات بهبوطه بنسبة 4.1%.

كان مكتب الإحصاء ذاته قد كشف عن انخفاض مؤشر أسعار المنتجين للشهر التاسع على التوالي في يونيو/حزيران الماضي، بنسبة انخفاض وصلت إلى 5.4% مقارنةً بالعام الماضي، وهو أكبر انخفاض منذ ديسمبر/كانون الأول 2015، فيما توقف مؤشر أسعار المستهلك بشكل ثابت عام 2022، وهو ما يعني أنّ الأرباح السنوية للسلع عادلة بنسبة 0%.

ويبيّن أستاذ الاقتصاد والتنمية الدكتور عبد العزيز عرجاني، أنّ الانكماش المالي هو الانخفاض المتواصل في أسعار السلع والخدمات، وهو حدث نادر الحدوث عكس التضخم وأسوأ منه من ناحية الآثار والنتائج، ومشكلته أنّه يصيب جوانب اقتصاد الدولة المعنية كافة.

ويضيف عرجاني لـTRT عربي، أنّ الانكماش في الأسعار الذي تعرفه الصين هو هبوطها المتواصل ليصبح معدل التضخم 0% أو أقل من ذلك، لهذا تضطر المؤسسات لتخفيض الأسعار بنسب متوالية، وهو ما يجعل المستهلكين يتوقعون انخفاضاً أكثر في الأسعار، فيُحجمون عن شراء السلع لتوقعهم حدوث انخفاض أكبر، وبذلك تزداد قيمة النقود وترتفع قيمتها من التضخم لانكماش التضخم، وهو نقص معدلات التضخم لتصل إلى 0%.

ويتابع: "وهنا تدخل المؤسسات مرحلة انكماش الأسعار، وبعدها تسجل نسباً أقل من 0%، وهذه الحالة نادرة الحدوث في الاقتصاديات الحديثة، حيث تحدث عندما يكون هناك تفاوت بين نسب نمو عالية وانخفاض الطلب والاستهلاك".

الإغلاق الاقتصادي

بدوره يشير أستاذ الاقتصاد بجامعة سطيف الجزائرية، فارس هباش، إلى أنّ الصين تشهد اليوم انخفاضات قياسية في أسعار المواد الاستهلاكية والإنتاجية وتراجعاً في مستويات الطلب، مما ينذر بدخول ثاني أكبر اقتصاد عالمي في أزمة انكماش اقتصادي ومالي.

ويوضح هباش في حديثه مع TRT عربي، أنّ الانكماش في أسعار المستهلكين حالة اقتصادية تتجلى في انخفاض الأسعار العامة للسلع والخدمات التي يشتريها المستهلكون خلال فترة زمنية محددة، وهذا يعني أنّ الأفراد اليوم في الصين قادرون على شراء كمية أكبر من السلع والخدمات باستخدام القيمة نفسها من الأموال التي استخدموها في السابق، إضافةً إلى أنّ الطلب على السلع والخدمات يقل عن العرض المتاح، مما يؤدي إلى ضغط على الأسعار للانخفاض.

ويعتقد أنّ أسباب حالة الانكماش التي تعيشها الصين سببها حالة الإغلاق شبه الكلي التي عرفها الاقتصاد الصيني خلال فترة كورونا، فاقتصاد بكين لم يصل بعد إلى مرحلة التعافي الكلي، وما زال يعاني من إرهاصات تلك المرحلة، لا سيّما أنّ معدل البطالة عند الشباب وصل إلى نحو 20%، وهي نسبة مرتفعة جداً تعبر عن حالة التباطؤ الاقتصادي التي تعرفها الصين جراء مخلفات أزمة الجائحة الصحية، حسب هباش.

بدوره يقول الأستاذ المشارك في إدارة المخاطر الاستثمارية بجامعة آل البيت الأردنية الدكتور عمر خليف غرايبة، إنّ الانكماش المسجَّل في الصين يعود إلى انخفاض الطلب العالمي؛ بسبب السياسة النقدية التشددية القادمة من الفيدرالي الأمريكي، وفي مناطق دول عدّة في العالم، إذا ما استثنينا تركيا واليابان والصين التي خفضت معدلات الفائدة.

ويشير غرايبة في حديثه مع TRT عربي، إلى أنّ تشديد السياسة النقدية أثّر على اقتصاد الصين المبنيّ على الصادرات التي تراجعت هذا العام بشكل لافت، إضافةً إلى التوترات الجيوسياسية، مثل الوضع في تايوان وأوكرانيا، المرتبط باقتصاد بكين بشكل مباشر أو غير مباشر. فيما يرى أستاذ الاقتصاد فارس هباش أنّ من أسباب الانكماش أزمة القطاع العقاري الذي يمثل نحو ربع إجمالي الناتج المحلي في الصين، إضافةً إلى أنّ تراجع الطلب العالمي جعل الصادرات الصينية تتراجع بنسبة 14.2%، وهو ما أدّى إلى زيادة عرض المنتجات وعدم قدرة الشركات على تصريف الفائض من مخزوناتها، مما دفع بالأسعار إلى التهاوي تدريجياً.

أما أستاذ الاقتصاد عبد العزيز عرجاني، فيلفت إلى أنّ انكماش أسعار الإنتاج الذي تشهده الصين قد تسبب في انخفاض هامش ربح المؤسسات الاقتصادية، حيث سجلت الصين في يوليو الماضي أكبر تراجع في الصادرات منذ 2020، وذلك بسبب ضعف الطلب العالمي والداخلي على حد سواء.

دوّامة انكماشية

وعادةً تتسبب حالة الانكماش في أسعار المستهلكين والإنتاج في نتائج سلبية على أي اقتصاد، وبالخصوص عندما يتعلق الأمر باقتصاد الصين الذي تعوّد في السنوات الماضية على النمو المتواصل.

وحول ذلك، يبيّن عرجاني أنّ الانكماش في أسعار الإنتاج تسبب في تباطؤ نشاط عشرات آلاف المؤسسات الاقتصادية، وهو ما جعل نمو الاقتصاد الصيني لا يتعدى في السداسي الأول من 2023 حاجز 0.8%، الأمر الذي سيصعّب خطة الحكومة الصينية في تحقيق نسبة 5% التي حددتها هذا العام.

ويتابع: "يرى العامة أنّ زيادة قيمة النقد مفيد في الاقتصاديات والاستهلاك، لأنّه سيخفض أسعار السلع والخدمات، لكنّ في الحقيقة هناك آثار سلبية جداً على الاقتصاد، أهمها ارتفاع نسب البطالة؛ لأنّه مع هبوط الأسعار ستنخفض أرباح الشركات التي تحاول تخفيض التكاليف بتسريح العمال، إضافةً إلى أنّ أسعار الفائدة تميل إلى الارتفاع في فترات الانكماش، وهو ما يجعل الديون أكثر تكلفة".

ويعتقد عرجاني أنّ استمرار هذا الوضع سيخلق "دوامة انكماشية متداخلة" تُدخل الاقتصاد في حالة من الركود الحاد، مبيناً أنّ هبوط الأسعار المستمر قد يجعل الموقف الاقتصادي أكثر سوءاً، ويعسّر عودة الاقتصاد للتعافي بسهولة؛ لأنّ الانكماش في الأسعار كساد وركود فعليّ يتسبّب في تراجع النشاط الاقتصادي بشكل مؤقت أو لفترة طويلة.

ويستبعد أستاذ الاقتصاد فارس هباش دخول الاقتصاد الصيني في حالة ركود في الأجل القصير، لا سيّما أنّ كثيراً من التطمينات جاءت على لسان كبار المسؤولين في البلاد بأنّ الأمر لا يدعو للقلق وأنّ الصين بعيدة عن حالة الركود الاقتصادي التي عرفتها اليابان جرّاء حالة الانكماش في أسعار المستهلكين، وكإجراء ميداني مستعجل خفّض البنك المركزي أسعار الفائدة وضخ سيولة إضافية لإنعاش الأسواق.

ويعتقد أنّ "حالة الانكماش في أسعار المستهلكين وأسعار الإنتاج قد تكون محفزاً للصادرات الصينية، لا سيّما أنّ بقية دول العالم تشهد ارتفاعات غير مسبوقة في معدلات التضخم، مما يرفع الطلب على السلع الصينية في الأجل القصير".

ويلفت هباش إلى أنّ زيادة الصادرات "تسهم في إنعاش المؤسسات الصينية وتمكّنها من تصريف الفائض من منتجاتها وتعويض حالة الركود الداخلي، كما يسهم هذا في تراجع معدلات التضخم العالمية في بقية الدول؛ لأنّ الصين تُعدّ أكبر ممول للأسواق تقريباً في معظم دول العالم".

يُشار إلى أنّ الرئيس شي جينبينغ دعا إلى التحلّي بالصبر والتصدي للركود الاقتصادي المتفاقم، وذلك في خطاب نُشر في مجلة "كيوشي" -التي تُصنف على أنّها أكثر المجلات النظرية موثوقية لدى الحزب الشيوعي.

وطالب الرئيس الصيني سكان البلاد بـ"بناء أيديولوجية اشتراكية ذات تماسك قوي، والتركيز على الأهداف طويلة الأمد؛ لتحسين قطاعات التعليم والرعاية الصحية والإمدادات الغذائية لـ1.4 مليار صيني بدلاً من السعي فقط وراء الثروة المادية".

ارتداد عالمي

ويربط هباش نجاح هذه الخطة الاقتصادية بوجود استجابة سريعة من الأسواق العالمية، لأنّ في حال غيابها قد تعصف هذه الأزمة بكبريات الشركات الصينية، وهو من شأنه أن يُدخل العالم في أزمة تضخمية اقتصادية من جديد، وعليه فإنّ انعكاسات هذه الأزمة على الاقتصاد العالمي يمكن توقعها من زاوية إيجابية وأخرى سلبية حسب درجة استجابة الأسواق العالمية.

بدوره يشير الدكتور عمر خليف غرايبة إلى أنّ انعكاس ما يحدث في الصين على العالم يظهر في تراجع الاستثمارات الخارجية الصينية بشكل لافت، على سبيل المثال تراجعها في الولايات المتحدة الأمريكية خلال النصف الأول من هذا العام إلى 220 مليون دولار، فيما كانت خلال الفترة ذاتها من 2022 عند 3.4 مليار دولار، وهذا سببه بالأساس العقوبات والضغوط الجيوسياسية التي خفضت الطلب العالمي.

ويرى غرايبة أنّ الاقتصاد الصيني قد يسجل نمواً سيئاً في الأشهر القادمة، وسيكون قاسياً على بكين والعالم ككل، في حال ما استمر تراجع الطلب العالمي الحالي.

ويبيّن أنّ الوضع في الصين ينعكس على الاقتصاد العالمي الذي قد يتوجه هو الآخر إلى ركود، فاقتصاد الولايات المتحدة يعاني اليوم نتيجة السياسة النقدية التشدّدية -رغم تسجيلها معدلات نمو- لكنّها تبقى ضئيلة لا تتعدى 2%، وهي أقل من العام الماضي الذي كان المعدل فيه نحو 4%.

وحسب غرايبة، فإن بوادر الركود التي مسّت الصين تظهر أيضاً في دول أوروبا، فألمانيا وبريطانيا سجّلتا تراجعاً واضحاً في نمو المؤشر الصناعي؛ جرّاء التوترات الجيوسياسية التي يشهدها العالم.

TRT عربي
الأكثر تداولاً