تابعنا
شهدت قيمة التبادل التجاري الفرنسي-السعودي قفزة لافتة خلال السنوات الأخيرة، إذ نمت بنسبة 41% خلال عام 2022 مقارنة بعام 2021، وفي نفس الفترة تزايد التبادل التجاري بين باريس وأبوظبي بنحو 17%، لتأتي الدولتان في طليعة شركاء فرنسا في منطقة الخليج.

أثار دعم فرنسا لاستضافة السعودية لمعرض "إكسبو 2030" على حساب إيطاليا غضباً أوروبياً عارماً، وسلّط الضوء من جديد على محاولات باريس توطيد علاقاتها مع دول الخليج العربي.

وشهدت السنوات الأخيرة ظهور تباينات بين عددٍ من الدول المحورية في الخليج والولايات المتحدة الأمريكية، حليفها الاستراتيجي التقليدي، وهو ما دفع نحو توسيع تلك الدول لخياراتها في توثيق التعاون مع حلفاء دوليين آخرين مثل الصين، ما أفسح المجال لبروز جهد فرنسي يصبّ في الاتجاه ذاته.

تحولات فرنسية

ويبدو أنّ عام 2021 كان هاماً في رسم مسار العلاقة الأمريكية-الخليجية، إذ لم يُنظر إلى انتخاب الرئيس الأمريكي جو بايدن بارتياح في عديدٍ من عواصم الدول الخليجية، نتيجةً للمواقف التي أعلنها خلال حملته الانتخابية تجاه بعض الملفات الحساسة مثل حرب اليمن وغيرها.

وأثارت سياسات بايدن لإعادة إحياء الاتفاق النووي مع إيران والانسحاب المتعجل من أفغانستان، مخاوف خليجية من سياسات الإدارة الأمريكية الجديدة، إذ أدّت ضغوط واشنطن على الإمارات العربية المتحدة، المتمثلة في ملف حصول الإمارات على طائرات "إف 35"، إلى توجّه أبوظبي نحو باريس وتوقيع عقد لشراء طائرات رافال بقيمة 17 مليار يورو، في صفقة وصفتها وزيرة الدفاع الفرنسية في حينها فلورنس بارلي بـ"التاريخية"، وأنّها "شراكة إستراتيجية أقوى من أي وقتٍ مضى".

ولم تكُن هذه التحولات بين واشنطن وحليفاتها في الخليج بعيدة عن أنظار باريس، إذ يرى بعض المراقبين أنّ الخليج تحوّل إلى بوابة لطموحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون السياسية في المنطقة.

ويتفق أستاذ العلاقات الدولية البروفيسور بوحنية قوي مع هذا التحليل، ويقول إنّ "فرنسا تحاول أن تتمدّد فيما تعتبره فراغاً أو خللاً في العلاقات الأمريكية-الخليجية"، لافتاً إلى أنّ من الأسباب الجوهرية للنزوع الفرنسي نحو هذه السياسة "معاناة باريس من تراجع على مستوى إفريقيا المعروفة تاريخياً بأنّها حديقة خلفية للمستعمر السابق فرنسا".

ويضيف قوي لـTRT عربي، أنّ "للامتداد الفرنسي انحساراً سواء في شقّه الّلين المرتبط بتراجع الثقافة الفرنكفونية لصالح الثقافة الأنجلوسكسونية، أو في شقّه الصلب المرتبط بالوجود العسكري في القارّة مع طرد القوات الفرنسية من عديدٍ من الدول الإفريقية".

ويدفع تمدّد الثقافة المضادّة لفرنسا في مجال نفوذها الاستراتيجي السابق باريس إلى البحث عن فضاءات أخرى، وفقاً للبروفيسور قوي، الذي وضّح أنّ هذا ما يجري ملاحظته "في التحركات الفرنسية نحو منطقة الخليج، على سبيل المثال".

الاقتصاد أولاً

ورغم تنوع قطاعات التعاون بين فرنسا وبعض الدول الخليجية، والتي تمتدّ في طيفٍ واسعٍ من السياسة والثقافة والدفاع، يبدو أنّ الاقتصاد مؤشر هام في كشف تصاعد الشراكات الاستراتيجية بين الجانبين.

وشهدت قيمة التبادل التجاري الفرنسي-السعودي قفزة لافتة خلال السنوات الأخيرة، إذ نمت بنسبة 41% خلال عام 2022 مقارنة بعام 2021، وفي نفس الفترة تزايد التبادل التجاري بين باريس وأبوظبي بنحو 17%، لتأتي الدولتان في طليعة شركاء فرنسا في منطقة الخليج.

وفي هذا السياق، يقول الباحث في العلاقات الدولية الدكتور طارق زياد وهبي، إنّ "في العلاقات الخليجية الأمريكية تأرجحاً، فالولايات المتحدة جعلت من اقتصادها في الخليج محور علاقاتها السياسية والدبلوماسية وربطته ببيع الأسلحة المتطورة وغير الاستراتيجية لحماية إسرائيل".

ويعتقد وهبي في حديثه مع TRT عربي، أنّ باريس مع انحسار الحضور السياسي والعسكري في الخليج، أرادت أن تلعب على المنحى الأمني، ولذلك شجّعت للدفع بالمؤتمر الإقليمي في بغداد وبعدها في عمّان، والدفع في دعم العراق والمساهمة بإعادة الإعمار، وكذلك مبادراتها السابقة في إطفاء الديون ضمن نادي باريس، ومساهمة دول الخليج في الإعمار عبر الشركات الخليجية".

وحول ارتباط اهتمام فرنسا بالملف الأمني بتطوير روابطها الاقتصادية مع دول الخليج، يرى أنّ "العامل الأمني هو مدخل أساسي لتطمين المستثمرين الفرنسيين في الخليج، كما نعلم جيداً أنّ مجلس التعاون الخليجي يبحث عن حثّ باريس لرفع استثماراتها في المنطقة".

ويستشهد وهبي بالبيانات الرسمية، مشيراً إليها بالقول: "بلغ حجم التبادل التجاري بين دول مجلس التعاون الخليجي وفرنسا 59 مليار دولار، كما تبلغ القيمة الإجمالية للاستثمارات الخليجية في فرنسا ما يقرب الـ300 مليار دولار في 2019".

ويلفت وهبي إلى أنّه يأتي في مقدمة الأهداف الفرنسية "خلق فسحة أمل اقتصادية مبنية على أساس أنّ الأمن في الخليج مسيطَر عليه، وهو عامل استقرار لنجاح الاستثمارات من فرنسا وأوروبا، بالإضافة إلى أنّ حجم فرنسا في سوق السلاح في العالم صغير جداً أمام العمالقة، أمريكا وروسيا والصين".

وتسعى فرنسا لعلاقات استراتيجية مبنية على التبادل العلمي وفتح استثمارات في مجالات عدّة، مثل الذكاء الصناعي وتقنيات الاتصال والخروج إلى الفضاء وغيرها، وفق وهبي.

تنافس فرنسي-أمريكي

ومثّل مؤتمر "رؤية الخليج Gulf Vision"، الذي انعقد في باريس منتصف يونيو/حزيران الماضي برعاية الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، مؤشراً جديداً على التطورات التي تشهدها العلاقات الفرنسية-الخليجية، إذ شهد اليوم الأول للمؤتمر حضور 700 شخصية نصفها من الخليج، بينهم وزراء وخبراء اقتصاديون ومديرون تنفيذيون في مؤسسات كبرى.

لكن رغم كل هذه الجهود، يبدو من الصعب على باريس تقديم حليف بديل عن واشنطن لدول الخليج، إذ إنّ فرنسا -كما يرى الدكتور وهبي- "حجمها محدود، لكنّها تسعى لأن تجرّ معها الاتحاد الأوروبي وتصبح هي القاطرة مع ألمانيا، لتنافس الحليف التاريخي لدول الخليج، الولايات المتحدة الأمريكية".

ويتفق مع ذلك البروفيسور قوي، ويقول: "لا أعتقد أنّ فرنسا يمكنها أن تملأ هذا الفراغ، وما يمكن أن يحدث من فراغ هو إعادة ترتيب لعلاقات قوى صاعدة ولأقطاب تتشكل".

ويلفت أستاذ العلاقات الدولية إلى أنّ "فرنسا في مرحلة تراجع اقتصادي، وضعف كشفه الخلل الذي يحدث من اضطرابات على مستوى النسيج الفرنسي وعدم القدرة على التعاطي مع الاحتجاجات المتصاعدة برؤية ناجعة".

ويرى قوي أن فرنسا تحاول بناء علاقات مركّبة وغير تقليدية مع دول الخليج العربي تتجاوز البُعد الأمني، لكن هذا يواجه صعوبات، منها قوى أخرى في الخليج بخلاف الحليف الأمريكي التقليدي، "تتمثل في القوى الدولية الصاعدة وعلى رأسها الصين التي تملك رُؤى استراتيجية للتعامل مع الخليج وتعمل على تقوية الروابط بين الطرفين من خلال طريق الحرير الجديد، كما أنّ موسكو تظل خياراً آخر، لاحظنا توجهاً خليجياً نحوه في الفترة الأخيرة".

ويخلص قوي إلى أنّ فرنسا تظل، وفق المنظور الاستراتيجي، "إحدى القوى المتراجعة، مقارنةً بقوى أخرى، مثل ألمانيا وقوى مجموعة السبعة"، وهو ما من شأنه أن يخفض سقف توقعات باريس لعلاقاتها مع دول الخليج العربي.

TRT عربي