تابعنا
اتفقت الدول الأعضاء في الأمم المتحدة على نص بشأن أول معاهدة دولية من أجل حماية أعالي البحار التي تشكّل كنزاً حيوياً يغطي نحو نصف كوكب الأرض.

بعد 36 ساعة متتالية من المفاوضات، صدّق دبلوماسيون في نيويورك ممثلون عن 190 دولة على معاهدة لحماية التنوع البيولوجي في أعالي البحار، وهي أهمّ اتفاقية بيئية متعددة الأطراف منذ اتفاقية باريس للمناخ لعام 2015.

وعلى الرغم من أنها بالكاد معروفة للجمهور، فإن الاتفاقية التي جرى التوصل إليها في 5 مارس/آذار الجاري، هي تتويج لما يقرب من عشرين عاماً من الدبلوماسية التفاوضية.

واتفقت الدول الأعضاء في الأمم المتحدة على نص بشأن أول معاهدة دولية من أجل حماية أعالي البحار التي تشكّل كنزاً حيوياً يغطي نحو نصف كوكب الأرض.

أهمية الاتفاقية

تُعتبر هذه المعاهدة ضرورية للحفاظ على 30% من اليابسة والمحيطات في العالم بحلول 2030. وفي حال تصديق الحكومات الأعضاء عليها في الأمم المتحدة رسمياً، فإنها ستنشئ إطاراً شاملاً للحفاظ على الأنواع البحرية والنظم البيئية وإدارتها بشكل مستدام، وفق ما قاله مركز كارنيغي للسلام.

وأوضح المركز في دراسة له في 8 مارس/آذار الجاري أنه "نظراً إلى المخاطر البيئية التي ينطوي عليها الأمر، وتعقيد تأمين اتفاق عالمي في وقت يتّسم بتعمق التنافس الجيوسياسي بين الشرق والغرب، وتزايد الاحتكاكات بين الشمال والجنوب بشأن قضايا المناخ والتنمية، تُعَدّ المعاهدة إنجازاً دبلوماسياً غير عادي".

ووفق بيان مشترك لوزارة الخارجية الفرنسية ووزارة الدولة لشؤون البحار، فإن الاتفاقية تمهّد الطريق "لتطورات أساسية وغير مسبوقة".

وأوضح البيان بعد التوصل إلى الاتفاقية بساعات، أن من بين هذه التطورات "إنشاء مناطق بحرية محمية في أعالي البحار"، والتزام تقييم تأثير الأنشطة الجديدة فيها، والتقاسم "العادل والمنصف" لفوائد الاكتشافات في المحيطات، وكذلك "تعزيز قدرات الدول النامية" لضمان "الحوكمة الرشيدة للمناطق البحرية".

من المعروف أن النظم البيئية للمحيطات تنتج نصف الأكسيجين الذي تتنفسه البشرية، وتحدّ من الاحترار المناخي عبر تخزين جزء كبير من ثاني أكسيد الكربون المنبعث من الأنشطة الصناعية.

وقالت لورا ميلر من منظمة "السلام الأخضر"، إن "هذا يوم تاريخي يجب حفظه، فهذه إشارة إلى أنه في عالَم منقسم يمكن أن تنتصر حماية الطبيعة والناس على الأوضاع الجيوسياسية".

ووصف مفوَّض الاتحاد الأوروبي لشؤون البيئة فيرجينيوس سينكيفيسيوس التوصل إلى نصّ المعاهدة بأنه "خطوة حاسمة إلى الأمام للحفاظ على الحياة البحرية والتنوع البيولوجي الضروريين لنا وللأجيال القادمة".

وقالت ليز كاران من مؤسسة "صندوق بيو للأعمال الخيرية": "يمكن للمناطق البحرية المحمية في أعالي البحار أن تلعب دوراً حاسماً في بناء مرونة لمواجهة تأثير تغير المناخ". ووصفت الاتفاقية بأنها "إنجاز بالغ الأهمية".

وستُلزِم المعاهدة الدول إجراءَ تقييم للأثر البيئي للأنشطة في أعالي البحار.

جوهر المشكلة

وعن مدى صعوبة السيطرة على المخاطر البيئية البحرية، أوضح مركز كارنيغي أن "أعالي البحار هي المشاعات العالمية الجوهرية، وهي مناطق تقع خارج نطاق سلطة أي دولة ذات سيادة واحدة ولكن تعتمد عليها جميعاً في ازدهارها ورفاهيتها".

وأردف: "لسوء الحظ، تلك المناطق يحكمها بشكل سيئ خليط من المعاهدات متعددة الأطراف والترتيبات الإقليمية التي تغطّي قضايا متميزة مثل مصايد الأسماك والتلوث البحري والطيور المهاجرة والتعدين في أعماق البحار".

وبموجب اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار لعام 1994 (UNCLOS) -الأقرب إلى دستور المحيطات العالمي- تشكّل أعالي البحار المياه التي تقع خارج المنطقة الاقتصادية الخالصة البالغ طولها 200 ميل بحري (370 كيلومتراً) من سواحل الدول المشاطئة للبحار.

ومع أنها تمثّل أكثر من 60% من محيطات العالم ونحو نصف مساحة سطح الكوكب، لم تُعطَ الاهتمام نفسه الذي يُمنَح للمياه الساحلية. يذكر المتخصصون أن نحو واحد بالمئة فقط من أعالي البحار يقع تحت دائرة الحماية حاليّاً.

وفي حين أن اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار تضع مبادئ مهمة، تتعلق بحرية الملاحة على سبيل المثال، فإنها تفتقر إلى أحكام مفصلة بشأن الحفاظ على البيئة والإشراف على أعالي البحار.

على الصعيد العالمي، أُنشئَت أيضاً عشرات المنظمات الإقليمية لإدارة مصايد الأسماك لأجزاء من المحيطات المفتوح، لكن تغطيتها غير مكتملة، وفشلت في حماية الأنواع السمكية المهاجرة أو النظم الإيكولوجية (نظم سليمة الصحة وتحظى بثراءٍ في التنوُّع البيولوجي) الضعيفة بشكل موثوق، وفق مركز كارنيغي.

ويرى زاهر هاشم، الكاتب الصحفي المختصّ بقضايا البيئة، أن مخاوف من الاتفاقية تتعلق بعدم المساواة بين الدول النامية والأخرى الغنية، سواء من حيث تقاسم التكاليف أو الأرباح.

وتابع هاشم في حديثه مع TRT عربي: "لذلك يجب تأسيس صناديق دعم للدول الفقيرة لمساعدتها على تَحمُّل أعبائها وتشجيعها على تبنِّي وتصديق الاتفاقية".

"حقائق قاسية"

يأتي التوقيع على الاتفاقية في وقت دعا فيه الأمين العامّ للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريتش العلماء إلى استعراض "الحقائق القاسية" لدفع الحكومات إلى وضع سياسات تحدّ من تغير المناخ قبل تجاوز عتبة الاحتباس الحراري الرئيسية.

جاءت تعليقاته في وقت اجتمع فيه خبراء ومسؤولون من جميع أنحاء العالم في اجتماع لمدة أسبوع في مدينة إنترلاكن السويسرية لوضع اللمسات الأخيرة على آخر سبعة تقارير صادرة عن لجنة من كبار العلماء في الهيئة العالمية منذ توقيع اتفاقية باريس للمناخ في عام 2015.

وقال غوتيريش في خطاب بالفيديو أمام الوفود في 13 مارس/آذار الجاري، إن التقرير الأخير الصادر عن اللجنة الحكومية الدولية المعنيَّة بتغيُّر المناخ (IPCC) "لا يمكن أن يأتي في وقت أكثر أهمية" من الآن.

وأردف: "عالمنا على مفترق طرق، وكوكبنا في مرمى النيران، نحن نقترب من نقطة اللا عودة، من تجاوز الحد المتفق عليه دوليّاً وهو 1.5 درجة مئوية (2.7 درجة فهرنهايت) للاحتباس الحراري".

وأصبحت هذه العتبة، المتفَق عليها في باريس منذ ما يقرب من ثماني سنوات ومقارنتها بمتوسط درجات الحرارة خلال فترات ما قبل الثورة الصناعية، مقياساً لعلماء المناخ الذين يحذّرون من مخاطر ارتفاع درجة حرارة كوكب الأرض.

وشدّد الأمين العامّ على أن تسريع التخلص التدريجي من الوقود الأحفوري "صعب ولكنه ضروري".

وعن اتفاقية أعالي البحار، قال غوتيريش في تصريحات منفصلة إنها تشكّل "انتصاراً للتعددية وللجهود العالمية لمواجهة الاتجاهات المدمّرة التي تواجه صحة المحيطات الآن وللأجيال القادمة".

يُذكَر أن المحيطات تعمل على حماية البشرية من أسوأ ما في تغيُّر المناخ، إذ تمتصّ ثلث ثاني أكسيد الكربون الناتج عن الأنشطة البشرية، وحتى بشكل أكثر دراماتيكية، 90% من الحرارة المرتبطة بالاحترار العالمي، مع الاستمرار في تزويد البشر بـ50% من الأكسيجين، وفق مركز كارنيغي.

ولكن مع زيادة التلوث، كما يتابع التقرير، أصبحت المحيطات أكثر حمضية بنسبة 30% مما كانت عليه في بداية الثورة الصناعية، وأكثر سخونة وأقلّ اكتنازاً بالأكسيجين مما جرى تسجيله في أي وقت مضى".

تؤدي هذه التغيرات في درجة حرارة المحيطات وكيميائها، حسب التقرير، إلى عملية إجهاد لأنواع عديدة من الكائنات الحية الدقيقة وحتى الأسماك الكبيرة، وتهدّد بانهيار الشبكات الغذائية المعقدة والنظم البيئية بأكملها، حسب تقديره.

هنا يخلص إلى أن المعاهدة الجديدة التي تأخذ شكل اتفاقية تنفيذ قانونية وملزمة دوليّاً بموجب اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار، ستساهم في تنظيم هذه الفوضى.

أمل جديد

يقول هاشم رئيس تحرير مجلة أخبار البيئة لـTRT عربي: "تشكل اتفاقية أعالي البحار التي جاءت بعد أعوام من المفاوضات، محطة هامة في العمل البيئي والمناخي العالمي، إذ تشغل المحيطات أكثر من 60% من المنطقة، وهي تحتوي على تنوُّع بيولوجي كبير، إضافة إلى المنافع الاقتصادية التي تشكّلها للدول".

وبين أن "للمحيطات دوراً هامّاً في البيئة، فهي تخزن كميات كبيرة من غاز ثاني أكسيد الكربون الذي يُعتبر أحد أهمّ غازات الدفيئة المسببة للاحتباس الحراري وتغيُّر المناخ، كما أنها توفّر أكثر من نصف الأكسيجين على كوكب الأرض، وهي موطن لأنواع بحرية لا حصر لها يساهم جزء كبير منها في غذاء الإنسان إضافة إلى الاستخدامات الطبية والصناعية لموارد المحيط".

وأردف: "تؤثّر المحيطات في المناخ وأنماط الطقس، لذلك فإن اختلال النظم البيئية البحرية الناتجة عن التلوث البلاستيكي أو النفطي يؤدي إلى اختلال التوازن في كميات الأكسيجين الصادرة وكميات ثاني أكسيد الكربون المخزنة، ويؤثر مباشرةً في مناخ الأرض".

وتابع هاشم: "كما تتأثر المحيطات بالتغير المناخي الناتج عن نشاط الإنسان في البحر وعلى اليابسة، إذ يؤدي ارتفاع درجة الحرارة إلى زيادة معدلات التبخر وبالتالي زيادة حموضة المحيطات وزيادة تركيز الملوثات فيها".

واستكمل بأن هذا سينتج عنه القضاء على بعض أنواع العوالق النباتية والحيوانية التي تشكّل بدورها غذاءً للقشريات والأسماك الصغيرة والكبيرة ضمن سلسلة غذائية يلعب فيها البشر دور مستهلك رئيسي.

كما تتأثر الشعاب المرجانية التي يعتمد عليها ما يقرب من 25% من الحياة البحرية، إضافة إلى قيمتها الاقتصادية ودورها في حماية السواحل، وفق قوله.

TRT عربي
الأكثر تداولاً