تابعنا
شهدت الفترة الأخيرة أحداثاً متفرقة في أكثر من بلد حصلت فيه تجاوزات ضد القرآن الكريم، ما أثار غضب المسلمين المنتشرين في أصقاع الأرض، بسبب تعرُّض كتابهم المقدس لإهانات متكررة من دون أدنى تحرك مضادّ من معظم حكومات تلك البلدان.

من الغرب إلى الشرق، لم تهدأ وتيرة التجاوزات التي يتعرض لها المسلمون، فمن الاعتداء الجسدي إلى الإساءة لرموزهم الدينية، رغم اعتماد مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة في يوليو/تموز الماضي مشروعاً بخصوص "مكافحة الكراهية الدينية"، وعدّها تشكّل تحريضاً على التمييز أو العداء أو العنف.

شهدت الفترة الأخيرة أحداثاً متفرقة في أكثر من بلد حصلت فيه تجاوزات ضد القرآن الكريم، ما أثار غضب المسلمين المنتشرين في أصقاع الأرض، بسبب تعرُّض كتابهم المقدس لإهانات متكررة من دون أدنى تحرك مضادّ من معظم حكومات تلك البلدان، أو تشريع قانون يردع المعتدين عن سلوكهم الاستفزازي المستمر.

تعرض المسلمون عبر فترات مختلفة لاعتداءات لفظية ومعنوية مختلفة برسومات مسيئة للإسلام والمسلمين في فرنسا، وإحراق للمصاحف في السويد، وإحراق للمساجد في الهند والصين، وكذلك اعتداءات عديدة على نساء مسلمات ورجال دين مسلمين، وغيرها.

من ألف باء مبادئ العلمانية فصل الدين عن مؤسسات الدولة واحترام حرية المعتقد وحقوق الإنسان، لكنّ ذلك لا يعني أن يُسمَح بإهانة الرموز الدينية بذريعة حرية التعبير، فهل من الممكن أن تبرِّر أوروبا ودول الشرق لنفسها أنّها عاجزة عن السيطرة على مثل هذه الأوضاع؟ أم إنّ ما يحصل جزء من استراتيجية مدروسة باستخدام الفتن الدينية والمجتمعية لأغراض سياسية بشكل أو بآخر؟

إنّ مسألة ازدراء الأديان هي من الأمور الحساسة، بحيث تكفل الدساتير بشكلها النظري حرية المعتقد وحرية ممارسة الشعائر الدينية، لكنّ الأحداث المتتالية تؤكد وقوع اعتداءات على المسلمين في أثناء تأدية شعائرهم الدينية أو إهانة كتابهم المقدس، والكيل بمكيالين في المحاسبة، إذ يصبح أي اعتداء من المسلمين إرهاباً وأي اعتداء على مقدسات المسلمين يندرج تحت بند الحرية الفكرية وحرية التعبير.

وذلك يكشف زيف ادّعاء العالم الغربي الحرص على المساواة، كما يثبت واقع الأمر والتجربة عن التفرقة الواضحة بين غير المواطنين والمواطنين تبعاً لمعايير الدين واللون وما إلى ذلك، وتسيطر -ولو بشكل غير معلن- فكرة تفوُّق الإنسان الأوروبي ومنح حياته قيمة تفوق أقرانه القادمين من بلاد مختلفة.

يُتَّهَم الإسلام بأنّه استطاع أن يبسط نفسه بقوة السيف، وهو ما تأخذه عليه اليوم الأجندات التي تطعن به، متغاضين في الوقت نفسه عمّا فعلته الحروب الصليبية الهمجية من فظائع في العالم، أو ما ارتكبه النازيون من جرائم بحقّ من يخالفونهم الرأي، وعلى أنّ التنظيم العسكري ظلّ موجوداً في بُنية الدولة، لكنّ ذلك لم يؤثّر في الحياة المدنية في حواضر المسلمين، فقد انتشر العلم وكثرت مجالس الفكر والأدب.

وكانت حقبة الحكم الإسلامي ثرية بامتياز بفضل الفنون والآداب والعلم والمعرفة، ما يعني أنّ الغلبة بقيت للوعي المدني، واشتهرت بذلك حواضر ومدن رائدة وشهيرة مثل البصرة والكوفة وحضارة الأندلس، لكنّ الصورة الحاضرة في الأذهان اليوم تربط الإسلام بالعنف عن طريق سياسات ممنهجة لترسيخ تلك الفكرة عالمياً.

ويتساءل كثيرون: لماذا تستمر أوروبا في محاربة الإسلام بهذه الطريقة الاستفزازية؟ وما سرّ تخوُّفها من الإسلام والمسلمين؟

لم تكن النزعة الانتقامية من الحضارة الإسلامية وليدة اللحظة أو آنية بسبب الانفعال، فقد استمرت الحملات التحريضية ضد الإسلام والمسلمين لسنوات عبر قنوات رسمية وغير رسمية مختلفة، تارةً بالفعل وأخرى بتجاهل الفعل المعادي للإسلام، فيما ساهم الإعلام ووسائل التواصل ببثّ رسائله الخاطئة متعمداً وتقديم صورة مختلفة عن حقيقة الإسلام بشكل عمدي ضاربةً بمشاعر المسلمين عُرض الحائط، وتضليل الجمهور بربط صورة الإسلام بتنظيمات إرهابية لا تمثله ولا تشبهه بشيء.

بذلك استطاع الإعلام الغربي إعادة برمجة ذهن المتلقي ليشكّل لديه صورة قاتمة عن الدين الإسلامي، الأمر الذي جعل الاعتداء على الرموز الدينية الإسلامية مع الوقت أمراً عاديّاً لا يستحقّ الوقوف عنده، حتى إنّه أصبح مشروعاً لدى البعض، بسبب الصورة المسبقة المكونة في أذهان العامة بجعله يستحقّ العداء.

في حين وجد المسلمون أنفسهم في حالة دفاع عن النفس طوال عقود، تارةً بحجة الإرهاب، وتارةً أخرى بإلصاقه بتهمة العنف وانعدام المساواة، وتتعاظم المعضلة في غسل دماغ جزء لا بأس به من الجيل العربي الناشئ في غياب العمل على ثقافة مضادة لإزالة اللبس، لأنّ العالم الإسلامي كان مشغولاً في الدفاع عن نفسه ودرء الشبهات ونفي التهم.

ويبدو أنّ تَخوُّف أوروبا وغيرها من الإسلام ليس مقتصراً على النواحي الدينية، بل يمتدّ ليشمل الخوف من بناء حضارة تضاهيها وتتفوق عليها، في ظلّ وجود ثغرات واضحة اجتماعيّاً وماليّاً وحقوقيّاً، وما يقضّ مضجعها أنّها تعمل على تحييد ومواجهة مليارَي شخص مسلم يشكلون نحو 25% من سكان العالم، تجمعهم قيم دينية واحدة ولديهم نظام مدني تشريعي متكامل.

وهذا أمر مثبت في كتب التاريخ التي تحكي حكايات الحواضر وقصص التطور العمراني والقانوني الذي عايشته المجتمعات وتفوُّق الحضارة الإسلامية في بناء مفهوم المدنية، والقدرة على تجاوز أقرانها ممن سبقوها في تشكيل مجتمعات حضارية وعمرانية في وقت كانت فيه أوروبا غارقة في الظلام، لا بالمعنى المجازي فحسب، بل بالمعنى الحرفي أيضاً، علاوةً على عدم امتلاكها بُنية تحتية أو نظاماً تشريعيّاً وبُنية قانونية مثل النظام الذي أسسته الدول الإسلامية، كما لم تمتلك نظاماً ماليّاً وضريبيّاً يضاهي الموجود في الحواضر التي بناها المسلمون.

وامتازت الحواضر الإسلامية بالتعايش بين الأهالي والمساواة على اختلاف مذاهبهم ومللهم وطبقاتهم، وهو أمر باتت تفتقر إلي أوروبا اليوم بشدّة حتى بين طبقات المواطنين أنفسهم، بحيث لم يعُد من الممكن إخفاؤه، ويُتوقَّع أن يمهّد لشقاق مجتمعي واضح، كما ازدهرت في تلك الحواضر الصناعة والتجارة والصناعات والحِرف، وزاد ذلك حركةَ الأموال وانعكس على رفاه المجتمعات، وهو أمر يؤكد أنّ العداء الذي ينشره الغرب تجاه الإسلام مبنيّ على خلاف سياسي لا خلاف عقائد فحسب.

وإذا نفينا احتمال عجز أوروبا بمؤسساتها عن الحدّ من انتشار مثل هذه التجاوزات، فهو أمر يجعلنا نبحث في النيات الخفيَّة لتبرير حدوثها أو تغذيتها سرّاً من طرف بعض التحالفات، ما يجعلها مستفيداً من وجودها.

تحتاج أوروبا إلى دعم جمهورها من الرأي العامّ ومناصري الأحزاب المتطرفة، بهدف دعم سياستها تجاه المسلمين وتجاه الأقليات الأخرى، ما يجعلها تستطيع تمرير مشاريعها بسهولة بلا اعتراضات اجتماعية ومشكلات رأي عامّ، وهي في نقل الخلاف إلى طرفَي المجتمع من مسلمين ومكونات أخرى تسعى لخلق عدوٍّ مباشر للمجتمعات الغربية يشتّت انتباههم كاملاً عمّا يمكن أن تتبناه من سياسات داخلية وخارجية لا تحظى برضا الرأي العامّ، لتشغل انتباههم عن الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية المتردية وتبرير حالات الفساد الحكومي.

يبدو أنّ المشكلة تتعدى كونها دينية لتمثل معضلة سياسية وحرباً باردة افتعلتها قوى استعمارية معادية للإسلام استخدمت كل أدواتها، بلا روادع أخلاقية، راح ضحيتها أرواح وقِيَم وحقوق في مقابل أن تبقى مسيطرة وصاحبة سطوة في العالم، لكنّ ما يمكن أن يخرج عن سيطرتها أنّ استمرار الإساءة للرموز الدينية وغضّ النظر عن الفاعلين قد لا يهدّد التعايش والسلم الأهلي فحسب، بل قد يؤدي إلى حالة استقطاب سلبية وتشويه ثقافة الاختلاف.

جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي
الأكثر تداولاً