المفكر والمصلح السوداني حسن الترابي (Others)
تابعنا

ومن نوع ذلك الحكم على بعض مواقفه وآرائه بمعزل عن الإحاطة برؤيته الشاملة ومشروعه الفكري المتكامل.

فالدكتور الترابي لم يكن سياسياً حزبياً بمعنى أنه زعيم حزب سياسي يسعى للمنافسة في إطار نظام سياسي حاضر وموجود ومسلَّم به، وهو لم يكن مفكراً تقليدياً يسعى لتحسين واقع معترَف به، بل كان مجدداً صاحب رؤية شاملة تسعى لتغيير الواقع كله وإعادة تأسيسه على أسس ورؤى وأصول تتجاوز في حداثتها كل نظريات الواقع السياسي وتستهزئ بأصالتها بكل الفكر الديني الجامد.

وهذا ما جلب على الدكتور الترابي نقمة العديدين من أقرانه حتى بعض تلاميذه الذين كانوا يستعجلون وراثة ما صنعه من ثورة ضخمة جدا ليراهنوا بها في سوق محدودة جدّاً.

يقوم فكر الدكتور الترابي على ركن أساس هو التوحيد، ولكن التوحيد عنده ليس فكرة طوباوية تهتف بطلاسم توحيد ذات إلهية بعيدة ومجهولة، وإنما التوحيد عند الترابي يجمع شعث حياة الإنسان ويردّها إلى أصل واحد تأخذ منه إرادتها وحريتها وحقوقها المطلقة، وبذلك وحده يصبح جميع الناس سواسية لأنهم لا يأخذون حقوقهم عن سلطة أو كيان، ولا تنشأ إرادتهم كأفراد خصماً على إرادة آخرين أو في مواجهة أشخاص أو كيانات أخرى.

لهذا اهتمّ الدكتور الترابي بتأصيل هذه المعاني عندما كتب عن الإيمان وتأثيره في حياة الإنسان، فالإيمان عنده يمنح الإنسان مشروعية مستقلة عن جميع المخلوقات الأخرى ويصنع له إرادة كاملة مطلقة، ثم يهديه إلى إضافة إرادته هذه إلى إرادات إخوانه البشر من أجل تعظيم الكسب البشري من الخير ومكافحة الشر.

ونلحظ هذا أيضاً في منهجه في تناول أهمية شعيرة الصلاة في حياة الإنسان، فهو يتتبع منهج أداء الصلاة ولا يغرق في فروع فقهها، بل يهتمّ بتفسير حركاتها ودلالات انتظام صفها المرصوص، وتجرُّد الإنسان من الهموم والمهامّ الأخرى، وعملية الاختيار الحر لشخص الإمام والتوافق عليه وتوجيهه بمراعاة أحوال الأشخاص الذين يؤمّهم ويقودهم خلال عملية الصلاة.

ويُولِي الدكتور الترابي المرأة أهمية خاصة منذ وقت مبكّر، فيسعى لتحريرها من قيود الفقه الموروث الذي سعى لإقصائها من الحياة العامة، فيناهض أفكار تأخيرها في الصفوف وتفضيل الرجال عليها في الشهادة.

وكان لأفكاره ومجهوداته الأثر العظيم في تحصين المجتمع السوداني من هجمة الأفكار الغربية التي سعت إلى ضرب كيان الأسرة كوحدة تنظيمية صغرى في بناء المجتمع.

وختم الدكتور الترابي حياته وهو يسعى لإكمال عناصر مشروعه الفكري من خلال إنتاج غزير للفكر السياسي، يعيد به تأسيس مفهوم التوالي في كيانات سياسية، ويسلّط الضوء على مفاهيم التنظيم السياسي، وعناصر عقود الموالاة بين الجماعات والكيانات والسلطات والأفراد.

ويمكن ملاحظة اهتمامه الشديد بتأصيل المصطلحات في هذا المجال تحديداً حتى يستبين الناس أنه يتحدث عن مشروع مستقلّ وجديد للتعاقد الاجتماعي.

وما سجّله الدكتور الترابي في مرجعه الأخير (السياسة والحكم: النظم السلطانية بين الأصول وسنن الواقع) هو ترجمة لما طبّقه في مسيرة حياته.

والتنظيم السياسي عند الدكتور الترابي ليس حزباً ينافس في مواسم الانتخابات على السلطة ويقتصر عمله على ذلك، ولكنه يوصل التنظيمات السياسية كحركات تغيير اجتماعي شاملة، تُعنى بإصلاح النظام السياسي للمجتمع لتنتظم المعادلة بينه وبين منظمات ومؤسسات المجتمع الأخرى.

فالحركة التي تَولَّى زعامتها الدكتور الترابي في النصف الأول من ستينيات القرن الماضي كانت حركة ناشئة تحاول الإجابة عن سؤال تعريف نفسها: هل هي حزب سياسي ينافس الأحزاب الأخرى، أم هي جماعة ضغط تسعى لحمل الأحزاب على تبنّي أطروحاتها. هل هي جماعة تُعنى بتربية الفرد، أم هي حزب سياسي يطلب من الأفراد العمل على تطبيق شعاراته السياسية.

لم يشتغل الدكتور الترابي كثيراً بهذه الأسئلة، وسرعان ما قاد الحركة باتجاه الانتظام كحركة تغيير اجتماعي تخاطب قضايا الحكم والنظم السلطانية كما تخاطب قضايا المرأة والشباب والاقتصاد والفن والأدب والعمل الاجتماعي والمجهودات الإغاثية الطوعية.

ويبرز أثر التوحيد في فكر الدكتور الترابي واضحاً، إذ إنه في كل كتاباته وآثاره لا يستخدم أدوات الصراع والتحريض بين فئات المجتمع أو أفراد الكيانات، فحقوق المرأة ليست خصماً على الرجل، ومعركتها ليست ضده.

والعقد الاجتماعي عند الدكتور الترابي لا يخصم من حقوق طبقات في المجتمع ليمنح أخرى، بل هو يقارب هذه الفئات ويحرّضها على تأسيس إرادتها واكتساب حرياتها وحقوقها من المصدر المطلق، ويسهب في شرح أهمية ذلك لأنه بذلك وحده يمكن لهذه الإرادات والحقوق والحريات أن تتأسس استقلالاً، بحيث لا يستشعر الرجل خطورة حرية المرأة ولا تستشعر الطبقة الحاكمة خطورة حقوق الطبقات المحكومة.

وعلى الرغم من أن الترابي اعتمد على أصول راسخة من القرآن واللغة العربية اللذين تَعلَّمهما في مرحلة باكرة من حياته، فإنه لم ينغلق على مصادر الفكر الغربي ولغاته، وفي هذا يقول إن دراسته الباكرة للقرآن واللغة العربية مكّنَته من مقاربة الفكر الغربي بعقل ناقد وبصيرة دقيقة جدّاً، لذلك لم يأتِ للدراسة في بريطانيا وفرنسا متلقياً كغيره من أقرانه، بل جاء دارساً مستفيداً من الصالح من أفكار ومنتجات الفكر الغربي، ومعتبراً بالطالح من أفكار وممارسات.

تمرّ اليوم الذكرى الخامسة لرحيل المفكر الدكتور حسن عبد الله الترابي الذي انتقل إلى الدار الآخرة في السادس من مارس من العام السادس عشر بعد الألفين عن عمر ناهز الخامسة والثمانين، قضى منها ١٧ عاماً في السجون والمعتقلات، ورغم ذلك ترك إرثاً فكرياً عظيماً سيظلّ أثره باقياً لعقود قادمة.

جميع المقالات المنشورة تعبِر عن رأي كُتَابها ولا تعبِر بالضرورة عنTRTعربي.


TRT عربي