احتاجات شعبية في السودان ضد قرارات عزل الحكومة.  (Onayli Kisi/Kurum/AA)
تابعنا

أزمة هذا النموذج أنه باهظ الكلفة، إذا لم يحقق الإصلاحات المطلوبة، لا سيما وأن الجيش معروف عنه تنكُّب طريق الإصلاح الديمقراطي في العالم الثالث، باعتبار أن الحكم الوطني العسكري في دولة ما بعد الاستقلال في إفريقيا كان يُعتبر أقرب الطرق إلى السلام والتنمية والوحدة الوطنية، فهل ينجح الفريق أول عبد الفتاح البرهان في وضع الأسس الكفيلة بإنجاز التحول الديمقراطي، أم يرفع كلفة المواجهة وسط الطبقة السياسية في أثناء الفترة الانتقالية.

على المستوى الداخلي، ورغم المناهضة الشعبية لقرارات قائد الجيش الفريق أول عبد الفتاح البرهان في 25 أكتوبر، فإنها لم تحدث تغيرات سياسية على أرض الواقع، بعد أن بلغت ذروتها في 30 أكتوبر/تشرين الأول الماضي. ونجحت خطة الأجهزة الأمنية في تقليل نسبة الخسائر المتوقعة وسط المدنيين. إلا أن مزيداً من مسيرات المناهضة الشعبية ستتواصل، لكنها لن تنجح في تنفيذ دعوة العصيان المدني الشامل للانقسام الحادّ في الشارع السياسي.

لكن في المقابل تعاني البلاد من فراغ سياسي وتنفيذي كبيرين، فقد مضي أسبوع منذ إعلان الفريق البرهان قراراته تجميد الشراكة مع أحد مكونات قوى الحرية والتغيير واعتقال عدد من السياسيين ووزراء الحكومة السابقة، كما أصبح رئيس الوزراء رهن الإقامة الجبرية. لقد استغرقت عملية المشاورات السياسية وقتاً ليس بقصير من أجل الاتفاق على تسمية رئيس وزراء لبقية الفترة الانتقالية. مع ميل المكوّن العسكري إلى إقناع رئيس الوزراء السابق عبد الله حمدوك بتشكيل الحكومة.

إلا أن المفاوضات بين الطرفين عبر وسطاء دوليين ووطنيين لم تسفر حتى الآن إلى اتفاق إيجابي، إذ يتمسك حمدوك بشروط أساسية منها منحه صلاحيات واسعة لتشكيل الحكومة، وإعادة العمل بالوثيقة الدستورية، وإلغاء بعض القرارات الصادرة في 25 أكتوبر/تشرين الأول، وإعادة مستشاريه للعمل معه وإطلاق سراح المعتقلين، والتشاور مع حاضنته القديمة.

في المقابل يتمسك المكون العسكري بقراراته بفضّ الشراكة مع بعض عناصر المكون المدني، وتكوين حكومة تكنوقراط وإعادة التكييف الدستوري للمجلس السيادي بحيث يصبح أعلى سلطةً من مجلس الوزراء، وتكوين مفوضيات ومؤسسات الانتقال الأخرى، منها مفوضية كتابة الدستور والانتخابات والمحكمة الدستورية والمجلس الانتقالي.

ورغم احتفاظ المكون العسكري بخيارات أخرى لمرشحين لمنصب رئيس الوزراء، فإن الضغوط الخارجية بضرورة إعادة حمدوك إلى منصبه السابق أثرت في قرار البرهان تفضيل التوصل إلى اتفاق مع حمدوك، لا سيما وأن عودته تُعتبر خياراً مريحاً لجميع الأطراف.

لجأت الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة إلى تكثيف الضغوط الدولية على المكوّن العسكري، بخاصة تجميد بعض برامج الدعم والعون التنموي والاقتصادي، والتلويح بإجراءات أكثر تشدداً لما تصفه بالانقلاب، وتجنبت واشنطن وصف قرارات قائد الجيش بالانقلاب لأسباب قانونية، ووصفته بأنه مجرد سيطرة عسكرية.

ولأن واشنطن لا تملك نفوذاً وتأثيراً على قرارات المكون العسكري، لجأت إلى مزيد من الضغوط عبر الدول الخليجية مثل السعودية والإمارات وطالبتها بوقف الدعم المالي. كما سعت واشنطن في ذات السياق إلى إصدار بيان من مجلس الأمن، ومارست ضغوطاً خلف الستار على أعضاء مجلس الأمن والسلم الإفريقي لإصدار قرار بتجميد عضوية السودان في الاتحاد الإفريقي.

لكن يشهد المجتمع الدولي انقساماً إزاء الموقف في السودان، إذ تساند قرارات قائد الجيش الفريق البرهان دول مثل مصر والإمارات والسعودية وروسيا والصين، وإسرائيل، إذ تعتقد تل أبيب أن المكوّن العسكري هو الذي قاد عملية التطبيع منذ لقاء نتنياهو مع الفريق البرهان في عنتيبي بأوغندا العام الماضي.

وتفضّل الدول الغربية تصعيد الضغوط الدولية لإجبار الفريق البرهان على التراجع عن قراراته أو إفراغها من محتواها، وقيادة حملة قوية من أجل إعادة حمدوك في منصب رئيس الوزراء والعودة للعمل بالوثيقة الدستورية.

ومع تفاقم هذا الوضع الهش، الذي يُعتبر "انقلاباً ذاتياً" لا انقلاباً كاملًا، وسعْي المكوّن العسكري لإجراء تسويات جديدة مع رئيس الوزراء والقوى المساندة للتغيير، فإن أي تراجع عن جوهر هذه القرارات سيؤدّي إلى مزيد من الاضطرابات وتراجع الدعم الشعبي المتوفر حتى الآن لتصحيح الوضع القائم. وفي المقابل فإن الشعور الشعبي العامّ يرفض أي محاولة من الجيش للاستيلاء على السلطة.

وعليه فإن طريق التسوية هو المرجَّح حتى الآن، ويبدو أن إعادة رئيس الوزراء حمدوك إلى منصبه تُعتبر أحد عناصر هذه التسوية لإرضاء المجتمع الدولي لتحقيق شعار مدنية الدولة، وكذلك تجنيب المكوّن العسكري الدخول في مواجهات مع المجتمع الدولي، وكذلك الرضوخ لمطالب بعض الدول الخليجية التي تمارس ضغوطاً على البرهان إنابة عن واشنطون.

لكن الحقيقة الساطعة أنه مهما يكُن شكل التسويات الجارية للتوصل إلى صيغة مرضية نسبياً لأطراف الأزمة، فإن المكوّن العسكري سيكون هو المسيطر على المشهد السياسي من خلال الإجراءات الأمنية على الأرض وإعادة تنشيط دور المؤسسة الأمنية وتصميمه على تقوية دور المجلس السيادي وكذلك تفعيل مجلس الأمن والدفاع والسيطرة على وزارتَي الدفاع والداخلية، وممارسة بعض التأثير على العمل التنفيذي على الحكومة، بخاصة معالجة الوضع الاقتصادي والعلاقات الخارجية. وأغلق الجيش بهذه الإجراءات أي تدخلات من السلطة المدنية على قضايا إعادة هيكلة القطاع الأمني، الأمر الذي أغضب قيادة الجيش.

سيبقى التحدي الأساسي أمام قيادة الجيش هو قدرتها على صون الحريات والحقوق الدستورية في التعبير وحرية التنظيم والعمل النقابي، واستكمال مؤسسات فترة الانتقال والمحافظة على استقلال المنظومة العدلية والقضاء، ووضع الأسس اللازمة لإنجاح التحول الديمقراطي مع تحقيق بعض الرضا الشعبي.

إن ملامح التسوية السياسية الجارية لإعادة فترة الانتقال إلى مسارها الطبيعي ستحدّد طبيعة الصراع في الفترة القادمة، ومهما تكُن صيغة التسوية وقدرتها على تهدئة الوضع فإنها ستكون هدنة مؤقتة، لأن تربُّص الطرفين بعد حالة العداء الراهنة واعتقال السياسيين يرجّح تجدُّد الصراع في وقت لاحق وبأدوات أخرى لإقصاء المكون العسكري من المشهد السياسي ومحاكمة رموزه، ومع استيعاب الجيش لهذه الحقيقة يدفع بتكتيكات لكسب مزيد من النقاط تفادياً لحسم الجولة بالضربة القاضية.

إن حالة "الانقلاب الذاتي" التي أفرزتها قرارات 25 أكتوبر/تشرين الأول لن تستمر طويلاً، وسيكون الصراع بين الطبقة السياسية الحاكمة هو إعادة إنتاج النموذج المصري، أو إعادة تركيب نموذج المشير سوار الذهب الذي سلّم السلطات لحكومة مدنية منتخبة في عام 1968 عقب الإطاحة بنظام جعفر نميري. وهذا يعني أن الأزمة السياسية في السودان ستستمر بوجوه وأدوات أخرى مهما يكُن شكل التسوية المتوقعة.

جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي كُتّابها ولا تعبّر بالضرورة عن TRT عربي.


TRT عربي
الأكثر تداولاً