الحكومة الانتقالية في السودان  (AFP)
تابعنا

وأصبحت الأجواء السياسية العامة في العاصمة الخرطوم تحمل نذر تغيير سياسي مرتقب نتيجة للاحتقان المستتر بين مكونَي الفترة الانتقالية من الجناح العسكري والمدني، والتشرذم والاختلاف الذي ضرب الحاضنة السياسية للحكومة من "قوى الحرية والتغيير"، في ظل عدم انسجام مع شركاء الحكم القادمين من الحركات المسلحة وفقاً لاتفاق سلام جوبا.

في الوقت الذي ارتفعت فيه وتيرة الاحتجاجات الشعبية جراء تنفيذ سياسات صندوق النقد والبنك الدوليين، وإعلان الحكومة الانتقالية الأسبوع الماضي عن الرفع الكامل للدعم عن السلع والخدمات وفقاً لوصفة المؤسسات الدولية الداعمة، ممَّا أدى إلى ارتفاع جنوني لأسعار الوقود والسلع الغذائية، وتجاوز مؤشر التضخم حد 400%؜ ليحتل السودان المرتبة الثانية بعد فنزويلا، وتدهور قيمة الجنيه السوداني أمام الدولار.

مرَّ السودان في تاريخه الحديث منذ الاستقلال عام 1956 بخمس فترات انتقالية، لعل أُخراها عقب سقوط نظام الرئيس جعفر نميري في أبريل/نيسان 1985، والتي تولي فيها المشير سوار الذهب رئاسة المجلس العسكري الانتقالي لمدة عام، وتقلد فيها نقيب الأطباء الجزولي دفع الله رئاسة مجلس الوزراء تلتها انتخابات ديمقراطية.

وتميزت هذه الفترة الانتقالية بقصر المدة، التي بلغت عاماً بالضبط، وانحصر أداء الحكومة في تحديد المهام السياسية الأساسية الخاصة بإعداد البلاد للانتخابات. وقاوم سوار الذهب كل الرجاءات والمطالب بتمديد الفترة الانتقالية، وسلم السلطة في بادرة نادرة في الوطن العربي بعد عام فقط من الفترة الانتقالية إلى الحكومة المنتخَبة حينها.

تعود أسباب الاضطرابات السياسية خلال فترة الحكم الانتقالي الراهنة إلى طبيعة الطبقة الحاكمة التي استولت على السلطة في إطار المحاصصات وتوزيع الغنائم بين التيارين المدني والعسكري، وليس وفق برنامج سياسي واقتصادي متفق عليه يراعي خصائص المجتمع، والإصلاح المتدرج، وتحقيق الحد الأدنى من التوافق الوطني.

هذا إضافة إلى خضوع الحكومة لبرنامج البنك الدولي الذي يحمّل المواطن تكلفة الإصلاحات الاقتصادية بفعل سحب الدعم عن السلع والخدمات، دون اهتمام بتنمية الموارد الاقتصادية المحلية، وتقليل الصدمة على الطبقات الفقيرة.

خالفت الفترة الانتقالية الراهنة الحكمة المتوارثة في تاريخ السودان السياسي وهي قصر المدة وتحديد المهام، إذ أصبحت مدة الفترة الانتقالية مبهمة، ويتطاول أجلها كلما وقّعت الحكومة اتفاقية سلام مع الحركات المتمردة.

ولجأت في المقابل الطبقة الحاكمة إلى توسيع أجندة أهداف الفترة الانتقالية، وجعلت أقصى طموحاتها هي استئصال شأفة النظام السابق عبر تدابير سياسية وإدارية ذات لبوس قانوني مزيف. مع تسييس للعدالة وتدخل سافر في استقلالية القضاء، والقضاء على كل مظاهر التوجه الإسلامي في البلاد، بدءاً من تعديل المناهج الدراسية وانتهاء بإلغاء قوانين التشريعات الإسلامية.

رئيس وزراء السودان في المرحلة الانتقالية حمدوك  (Reuters)

نجحت الحكومة السودانية الانتقالية في تطبيع علاقات السودان الدولية واستكمال عملية إزالة اسم السودان من الدول الراعية للإرهاب، وتحقيق نجاحات ملموسة في ملف السلام بتوقيع اتفاقية جوبا للسلام مع عدد كبير من الحركات المسلحة.

لكن هذه النجاحات لم تنعكس إيجاباً على الاستقرار السياسي، وحل الضائقة الاقتصادية رغم تعدد مؤتمرات المانحين التي استضافتها برلين وباريس، هذا فضلاً عن توقيع اتفاق التطبيع مع إسرائيل. بل ازدادت حياة المواطن السوداني شظفاً، وارتفعت معدلات الفقر، مع انعدام شبه كامل للسلع والخدمات الضرورية، وارتفاع فاحش في أسعار ضروريات الحياة.

تعاني الأحزاب والطبقة الحاكمة من اختلافات وانقسامات عميقة إذ قرر الحزب الشيوعي قيادة المعارضة والتظاهرات لإسقاط الحكومة، في الوقت الذي يتولى فيه كوادره قيادة مؤسسات الدولة، كما قرر الإسلاميون أيضاً الخروج إلى الشارع لإسقاط الحكومة.

وأصبحت مظاهر الانفلات الأمني والاعتداء على المواطنين قصصاً اعتاد السودانيون على روايتها بشكل يومي في وسائل التواصل الاجتماعي، كما لم تقم الحكومة بشرح سياساتها وتبيان حقائق الأوضاع الاقتصادية للجماهير.

مع القناعة الكبيرة لكل السودانيين أن الأزمة السياسية والاقتصادية الراهنة ستطيح بحكومة رئيس الوزراء عبد الله حمدوك التي عجزت عن إيجاد حلول للمعضلات المتلاحقة والمأزق الذي أدخلت نفسها فيه، وهنا تبرز الضبابية في السيناريوهات المتوقعة للمستقبل، وتتأرجح هذه السيناريوهات بين توقعات ليس بالسقوط الفعلي للحكومة فحسب، بل وحاضنتها السياسية والبناء الذي تشكل عقب الوثيقة الدستورية الحاكمة للفترة الانتقالية برمته. أو قد يسفر عن انقلاب عسكري والدعوة لانتخابات مبكرة لإنقاذ الوضع الراهن من الانزلاق نحو الفوضى والانفلات الأمني.

يستحيل في ظل المعطيات الراهنة استمرار الوضع كما هو عليه، مع العجز التام للحكومة عن القيام بواجباتها الأتم في إدارة الدولة، ومع ذلك يستبعد كثير من المحللين وقوع انقلاب عسكري لتعدد الجيوش المنتشرة في السودان، فبالإضافة إلى القوات السودانية النظامية المسلحة، هناك قوات الدعم السريع، وقوات الحركات المسلحة التي انتشرت في الخرطوم بعد اتفاق سلام جوبا.

من ناحية أخرى فإنه من المستبعد قيام انقلاب عسكري لصعوبة الاعتراف الدولي والإقليمي به، كما أنه سيعقّد من الأزمة السياسية في ظل رفض شعبي سوداني لعودة الانقلابات إلى الحياة السياسية في البلاد.

السيناريو الثاني المتوقع هو أن تستجيب الحاضنة السياسية لمطلب الشارع السياسي وتعلن اختيار رئيس وزراء جديد يكون مؤهلاً لإدارة المرحلة، وهو خيار يجد صعوبة في الترويج له داخل الكتلة الحاكمة للاختلاف العميق حول البديل، الذي سيكون بالضرورة أحد قادة الأحزاب السياسية.

السيناريو الثالث تصاعد ضغوط المكوّن العسكري لتعيين حكومة تصريف أعمال وإجراء الانتخابات مبكرة بعد عام. وهو سيناريو ترفضه الطبقة الحاكمة باعتبار أنه يمثل إعادة إنتاج للنظام القديم، ويعزز من سيناريو الهبوط الناعم، الأمر الذي ترفضه قوى اليسار وعلى رأسها الحزب الشيوعي.

لكن إذا فشل مشروع الإصلاح السياسي للفترة الانتقالية، واستمرت عملية توالد الأزمات ، فإن سيناريو تسلم السلطة بواسطة المكون العسكري سيكون خياراً قوياً إذا اقتنع الفريق البرهان بجدواه السياسية مع توفر الدعم والحماية الإقليمية خاصةً من دول الخليج.

الحل الآخر هو إعادة تشكيل الحكم في السودان على غرار تجربة الجبهة الديمقراطية المتحدة في إثيوبيا بقيادة مليس زيناوي، وترسيخ تجربة الدولة الإفريقية الديمقراطية التنموية التي تشتمل على كبح الحريات مقابل التنمية.

من ناحيتها، تدفع القوى الوطنية والإسلامية نحو الانتخابات المبكرة، بحجة أن عمقها الشعبي الراسخ سيعيد إنتاج وجودها الشرعي في الخريطة السياسية، كما أن الانتخابات ستقدم إجابات قاطعة حول الأوزان السياسية للأحزاب التي تتصدر المشهد الآن، وستحسم الكثير من القضايا المثارة التي تقسم الأمة.

إذا فشلت جهود الإصلاح المتدرج وفقاً لرؤية مبتكرة، والمرونة السياسية اللازمة للوصول إلى مشروع وطني، ومحاولة بناء قاعدة للتوافق السياسي الوطني، وتنامي حدة الاستقطاب السياسي، مع استمرار الانهيار الاقتصادي، فإن الحرب الأهلية، وهو السيناريو الأسوأ على الإطلاق، تصبح خياراً متوقعاً، لا سيما مع وجود فراغ عريض في القيادة السياسية والتوافق حول الأجندة الوطنية، ولن يكون السودان استثناء من الدول التي مرت بنفس مراحل الانتقال، مثل دول الربيع الوطني.

جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي كُتّابها ولا تعبّر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي
الأكثر تداولاً